د. محمد فايز فرحات
منذ انتهاء الحرب الباردة لم يشهد النظام العالمى أزمة بعمق وحدة الأزمة الأوكرانية الراهنة. النظام العالمى شهد تحولات استراتيجية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لكنها جرت على مدى زمنى واسع، وبشكل تدريجى، فى إطار عملية تحول تراكمية. لقد ظل السؤال حول ماهية النظام العالمى الذى ستكشف عنه هذه التحولات سؤالا رئيسا بالنسبة لباحثى العلاقات الدولية، لكن لم تكن هناك إجابة محددة، بسبب حالة الغموض حول موقع روسيا داخل هذا النظام. العديد من الدراسات استندت إلى أن مسار العلاقات الأمريكية- الصينية هو المحدد الرئيس لمستقبل النظام العالمى، باعتبار أن الصين هى القوة الصاعدة غير الراضية عن وضعها داخل النظام العالمى، أو القوة المُرَاجِعة revisionist داخل النظام (وذلك رغم وجود خطاب صينى رسمى رافض لهذه التوصيفات). واُستُدْعِيت فى هذا السياق مقولات العديد من نظريات العلاقات الدولية ذات الصلة. الخلاف الرئيسى بين معظم الكتابات التى برزت فى هذا الشأن لم يكن حول مدى حتمية تحول الصين إلى قوة عظمى بنهاية هذه التحولات، لكن حول توقيت الإعلان عن هذا التحول، وما إذا كان ذلك سيتم من خلال تحولات سلمية أم عبر مواجهة عسكرية حتمية بين الجانبين؟
الكثير من الكتابات ركزت على سيناريو تشكل تكتل صينى – روسى، خاصة بعد قمة شى جين بينج- بوتين فى الرابع من شهر فبراير الماضى على هامش افتتاح دورة أوليمبياد الألعاب الشتوية (بكين، ٤-٢٠ فبراير ٢٠٢٢)، والتى صدر عنها بيان مهم تحدث عن شراكة استراتيجية بلا حدود بين الجانبين، ووجه انتقادات شديدة للولايات المتحدة. لكن خبرة الأزمة الأوكرانية الراهنة قد تمثل تحديا للعديد من هذه الاستنتاجات.
الأزمة الأوكرانية تمثل حالة دراسية مهمة لفهم بعض أوجه الغموض القائم بشأن مستقبل النظام العالمى، كما ستلعب دورا كبيرا فى عكس مسار بعض الظواهر المهمة التى تكرست خلال العقود الأخيرة.
من ناحية، كشفت الأزمة عن حدود استعداد الصين للتكتل مع روسيا فى مواجهة الناتو والولايات المتحدة، وأن وجود مصالح/ خطاب صيني- روسى مشترك ضدهما لا يعنى استعداد الصين لتصنيف نفسها ضمن معسكر صيني- روسي. ربما يعود ذلك إلى قراءة صينية بأن الوقت مازال مبكرا على هذه المرحلة داخل النظام العالمى، أو إلى توظيف صينى ذكى للأزمة لتأكيد أنها ليست قوة مُرَاجِعة. لكن الأزمة قد تؤسس فى جميع الحالات لعدد من الاستنتاجات الأمريكية- الأوروبية. من بين هذه الاستنتاجات المحتملة أن روسيا، وليست الصين، هى مصدر التهديد داخل النظام العالمى، وأنه يجب عدم التعامل مع روسيا والصين باعتبارهما معسكرا واحدا رغم كل مظاهر التنسيق أو الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما، بل إنه يمكن بناء توافقات مع الصين داخل النظام العالمى. فى السياق نفسه، كشفت الأزمة عن وجود ما يشبه التوافق العالمى ضد السلوك الروسى، ليس فقط فى مواجهة أوكرانيا كدولة، ولكن فى مواجهة الأمن العالمى، بالنظر إلى اتساع التكاليف الأمنية والاقتصادية العالمية للأزمة، واستحضار روسيا السلاح النووى فى المشهد. وقد تأكد انعزال روسيا مع اتخاذ الصين خطوة واضحة بعيدا عن الشريك الروسى، لتبدو روسيا بمفردها، مع بيلاروسيا، فى مواجهة العالم.
من ناحية ثانية، أسست الأزمة تحولات مهمة على مستوى القارة الأوروبية، أبرزها إحياء مفهوم الأمن الأوروبى، والاتجاه إلى إمكانية اختفاء بعض الظواهر الأوروبية مثل الحياد الفنلندى والسويدى، بل وإمكانية انضمامهما إلى حلف الناتو. وعلى العكس مما سعت إليه روسيا من وقف توسع الحلف شرقا، فإن الأزمة الأوكرانية قد تنتهى إلى تأكيد التماسك الأوروبى، سواء فى إطار الاتحاد الأوروبى أو الناتو، خاصة فى ضوء ما كشفت عنه الأزمة من عدم اختفاء التهديد التقليدى الرئيسى والتاريخى من ناحية الشرق، رغم اختفاء الاتحاد السوفيتي. ويغذى هذه المخاوف ارتباط الأزمة الأوكرانية بخطاب روسى حول إرث الاتحاد السوفيتى وما وصفته بـالحقوق التاريخية. التحول الأهم فى هذا السياق تمثل فى خروج ألمانيا عن أحد ثوابت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثل فى تحجيم الإنفاق العسكرى وعدم التورط فى أى أعباء عسكرية خارجية. فقد أعلن المستشار الألمانى أولاف شولتز بداية هذا الأسبوع إنشاء صندوق خاص لتعزيز المنظومة الدفاعية للجيش الألمانى برأس مال قدره ١٠٠ مليار يورو، بجانب زيادة حجم الإنفاق العسكرى إلى أكثر من ٢٪ من الناتج المحلى الإجمالى بدلا من ١٫٥٪ حاليا. كما قد تخلق الأزمة سياقا جديدا لإعادة النقاش حول فكرة الجيش الأوروبى الموحد، وتعميق الشراكة عبر الأطلنطى.
هذه التحولات على المستوى الأوروبى تؤسس لمسارات عديدة محتملة، خاصة فيما يتعلق بالموقف من الصين. الانشغال الأوروبى بالتهديد الروسى، وإعادة ترتيب البيت والأمن الأوروبيين قد يقلل إلى حد كبير من الانشغال الأوروبى بالتهديد الصينى، حسبما عكسه اجتماع الناتو فى يونيو ٢٠٢١، وقد يقلل أيضا من اتجاه القوى الأوروبية إلى التركيز على مسرح الإندوباسيفيك، على نحو ما عكسه صدور استراتيجيات أوروبية -على المستوى القطرى وعلى مستوى الاتحاد-بشأن هذا المسرح الجديد حول الصين. كما قد يقلل ذلك أيضا من فرص التماهى الأوروبى مع السردية الأمريكية حول التهديد الصينى، فهل يمكن أن تتجه أوروبا إلى بناء توافق أوروبى/صينى؟ وهل تتجه الصين إلى محاولة استغلال هذه التحولات لإنهاء التوجهات الأوروبية/ الأمريكية المغايرة ضدها؟
كذلك، يمكن الإشارة إلى تبلور تيار دولى مهم، على خلفية الأزمة، يحاول الوقوف فى منطقة وسط بين الولايات المتحدة والناتو من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، من أجل إعادة الاعتبار لمبدأ عدم الاستقطاب داخل النظام العالمي. مازال الوقت مبكرا لوصف هذا التيار بالكتلة الدولية، لكنه بادرة مهمة لوضوح بعض ملامح هذه الكتلة المحتملة.
نقلا عن جريدة الاهرام بتاريخ 2 مارس 2022
.
رابط المصدر: