أحمد نظيف
فيما يتواصل الصراع السياسي في تونس بين الرئيس قيس سعيد من جهة ومعارضيه من جهة أخرى، كشفت قوى إقليمية وغربية خلال أسبوع واحد، عن خشيتها من انهيار الوضع الاقتصادي في البلاد، في ظل عدم تمكُّن الحكومة التونسية من التوصل لاتفاق تمويل مع صندوق النقد الدولي، بكل ما يمكن أن يترتب عنه من اضطرابات سياسية ومخاطر أمنية، لاسيما فيما يخص ملفي الهجرة غير النظامية والإرهاب.
تُحلِّل هذه الورقة سياق هذا الفزع الغربي من الوضع في تونس ومضامينه، وتحاول استكشاف مساراته المستقبلية المتوقعة.
تنامي الضغوط الغربية على تونس
تزايدت في شهر مارس الجاري الضغوط الغربية المباشرة على تونس، فقد صوَّت نواب البرلمان الأوروبي، في منتصف الشهر، بأغلبية ساحقة على مشروع قرار يُدين ما عدُّوها “تجاوزات تقوم بها السلطات التونسية في مجال الحريات العامة وقمع الصحافة والنقابات العمالية”. وفي 22 مارس، أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الاتحاد يشعر بالقلق إزاء تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ويخشى انهيارها، وقال “إذا انهارت تونس، فإن ذلك يهدد بتدفق مهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي والتسبب في عدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. نريد تجنُّب هذا الوضع”، مشيراً إلى أن وزراء الخارجية الأوروبيين طلبوا من بلجيكا والبرتغال إرسال ممثلين في مهمة إلى تونس لإجراء “تقييم للوضع لتمكين الاتحاد الأوروبي من توجيه إجراءاته”. وأكَّد بوريل أن “الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وأن الرئيس قيس سعيّد يجب أن يوقع اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي وينفذه، وإلا فإن الوضع سيكون خطيراً للغاية بالنسبة إلى تونس”.
وفي 23 مارس، حذَّر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، من أن الاقتصاد التونسي يواجه خطر “الانهيار”، في حال لم تتوصل البلاد إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وصرَّح، خلال جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، أن ” أهم ما يمكنهم القيام به على المستوى الاقتصادي هو التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي “. مُجدداً التعبير بانشغال بلاده إزاء الوضع في تونس، قائلاً ” نريد أيضاً أن تُتخَذ إجراءات حتى تعود تونس بشكل كامل إلى المسار الديمقراطي”.
في مقابل هذه الضغوط التي عبر عنها الاتحاد الأوروبي وواشنطن، والتي تربط بين المسار السياسي للرئيس قيس سعيّد وبين مخاوف الانهيار الاقتصادي، عبَّرت قوى أوروبية أخرى عن خشيتها من التداعيات الأمنية لأي انهيار اقتصادي في تونس، دون أن تمارس ضغوطاً على حكومة الرئيس سعيّد، بل دعت إلى دعمها مهما كانت طبيعة النظام السياسي الحاكم في البلاد. إذ دعت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، خلال اجتماعات المجلس الأوروبي في بروكسل، إلى دعم تونس بسبب المخاوف من أن يؤدي الوضع هناك إلى “موجة هجرة غير مسبوقة” نحو أوروبا. وقالت ميلوني: “لقد طرحت موضوع تونس أمام المجلس الأوروبي، لأنه قد لا يكون الجميع على دراية بالمخاطر التي يمثلها الوضع في تونس وضرورة دعم الاستقرار في بلد يعاني من مشاكل مالية كبيرة. إذا لم نتعامل مع هذه المشاكل بشكل مناسب، فهناك خطر إثارة موجة هجرة غير مسبوقة”. وشددت على “ضرورة العمل على المستوى الدبلوماسي لإقناع الطرفين، صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية، بإبرام اتفاق لتحقيق الاستقرار المالي”.
ودفع الوضع في تونس إلى مزيد من التقارب بين فرنسا وإيطاليا، حيث دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني، خلال لقاء ثنائي في بروكسل، إلى دعم تونس خوفاً من “ضغط الهجرة”. وصرَّح ماكرون بأن” التوتر السياسي الكبير جداً في تونس والأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستعرة في ظل غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي مقلقة للغاية”، مشيراً إلى أن ذلك “يؤدي إلى زعزعة كبيرة للغاية لاستقرار البلاد والمنطقة، وإلى زيادة ضغط الهجرة على إيطاليا والاتحاد الأوروبي”. ومن جانبه أعلن السفير الفرنسي في تونس أندريه باران أنّ بلاده مستعدة لتقديم تمويلات إضافية للمساهمة في تغطية الفجوة في الموازنة مقابل تنفيذ مخطط الإصلاحات الذي عُرِضَ على صندوق النقد الدولي. وقال باران: “إن الوضعية الاقتصادية وميزانية تونس معرضة إلى تعقيدات جمة، في غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وإن فرنسا مستعدة لتقديم 250 مليون يورو، من بينها 50 مليون يورو يمكن صرفها مباشرة بعد المصادقة على القانون المتعلق بالشركات العمومية، و200 مليون يورو يبقى صرفها رهين التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد”. مُشيراً إلى أن باريس “مستعدة كذلك لجعل المقرضين الدوليين يسهمون في تغطية حاجيات التمويل الإضافية لتونس”.
على الصعيد الإقليمي، لا يزال الرئيس التونسي قيس سعيد يحظى بدعم واضح من الجزائر، التي تخشى أي اضطرابات سياسية وأمنية في جوارها الشرقي، وتريد دعم نظام الرئيس سعيد. وشدد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في مقابلة صحافية، أجريت معه في 22 مارس، على أن بلاده لن تتخلى عن جارتها، وأنها ماضيةٌ في دعم الرئيس سعيد، مُشيراً إلى وجود “مؤامرة” تستهدف تونس.
ويبدو أن هناك نوعاً من التوافق الإيطالي-الفرنسي-الجزائري حول خطورة الوضع في تونس، وكذلك على دعم نظام الرئيس سعيد، مهما كانت نتائج المفاوضات المتوقفة حتى الآن بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي. وعلى رغم الخلافات السياسية بين هذه الدول الثلاثة، فإنها تسعى إلى إيجاد توافق أو تنسيق لتفادي مخاطر أي انهيار في تونس. إذ كشفت رئيسة الوزراء الإيطالية في وقت سابق عن أنها ناقشت مع الرئيس عبد المجيد تبّون السيناريوهات المتوقعة في تونس، خلال زيارتها الأخيرة إلى الجزائر. كما عقدت لقاءً مع الرئيس ماكرون على هامش اجتماعات المجلس الأوروبي ناقشا خلاله الموضوع نفسه. إلى ذلك، أنهت باريس والجزائر خلافهما الدبلوماسي، في 23 مارس، بعد اتصال جرى بين الرئيس تبون، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
السيناريوهات المتوقعة
وفقاً للسياق الحالي الذي يمضي فيه الرئيس قيس سعيّد، بعد حوالي سنتين من سيطرته على جميع السلطات في تونس، تبدو البلاد متجهةً نحو ثلاثة سيناريوهات متوقعة الحدوث فيما يخص قدرتها على تجاوز المأزق الاقتصادي الراهن:
1. نجاح الحكومة التونسية في الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو ما سيفتح الباب واسعاً أمام تمويلات ثنائية يمكن أن تعقدها الحكومة، لاسيما مع الاتحاد الأوروبي واليابان. إذ سيكون الاتفاق مع صندوق النقد، رغم أن قيمته المالية الضعيفة (أقل من ملياري دولار)، ضمانة أساسية ستعتمد عليها الحكومة التونسية في كسب تمويلات ثنائية من الحكومات أو من المؤسسات المالية الخاصة. وضمن هذا السيناريو سيخفف الرئيس سعيّد عن نفسه الضغوط الخارجية، فضلاً عن الضغوط الداخلية، حيث يمكن للحكومة أن تستأنف عمليات التوريد المتوقفة نسبياً، ما يسمح بتوفر بعض المواد الأساسية في الأسواق، وكذلك المواد الأولية الأساسية للتصنيع. لكنه في الوقت نفسه سيزيد من عمليات الخصخصة وتحرير الأسعار في السوق المحلية ورفع الدعم الحكومي عن بعض المواد الأساسية، الأمر الذي سيشكل على المديين المتوسط والطويل ثقلاً مضاعفاً على الطبقات الفقيرة والوسطى، ويمكن أن يؤدي إلى احتجاجات اجتماعية، وكذلك إلى تنامي الصراع بين الحكومة والنقابات العمالية.
2. فشل التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي سيضطر القوى الأوروبية والإقليمية التي تخشى انهيار الوضع الاقتصادي وانفلات موجات الهجرة غير النظامية واضطراب الاستقرار السياسي في البلاد، وعلى رأسها إيطاليا والجزائر، بوصفهما الجوار المباشر لتونس، وفرنسا لأنها لا تريد خسارة مناطق نفوذ أخرى في المنطقة، بعد النكسات التي تعرضت لها في إفريقيا جنوب الصحراء، وربما بعض القوى الإقليمية الأخرى، التي لا تريد انزلاق تونس نحو مسارات غير محسوبة العواقب – ستضطر كل هذه القوى إلى عقد اتفاقيات تمويل ثنائية مع الحكومة التونسية حتى في غياب اتفاق مع صندوق النقد؛ وربما يكون ذلك في إطار مؤتمر مانحين (من قبيل نادي باريس، أو مؤتمر تمويل خاص).
3. فشل التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي مع إحجام بقية القوى الإقليمية والدولية عن تقديم التمويل المطلوب لتغطية العجز المالي للبلاد، مما سيترتب عليه نقص متزايد في توريد المواد الأساسية الموجهة للاستهلاك أو التصنيع، وعجز الدولة عن تسديد ديونها الخارجية. وضمن هذا السيناريو يمكن أن تشهد البلاد انهياراً في قيمة العملة المحلية، وكذلك توقفاً للإنتاج في قطاعات عديدة تعتمد على توريد المواد الأولية، وهو ما قد يتسبب في حالات تسريح واسعة للعمال. ومن المرجح أن يقود سيناريو كهذا إلى احتجاجات شعبية واسعة، وانفلات لموجات الهجرة غير النظامية.
غير أن سيناريو الانهيار يبدو مُستبعَد الحدوث في المدى القريب، نظراً لما يعنيه من خطورة جيوسياسية كبيرة، خاصة بالنسبة للقوى الإقليمية والغربية القريبة من تونس جغرافياً، لاسيما إيطاليا وفرنسا والجزائر. لذلك تبدو البلاد متجهةً نحو أحد السيناريوهين الأولين، رغم ما بينهما من تنافر ظاهِر، لكن مضمونهما سيُفضي في المُجمَل إلى حصول الحكومة التونسية على تمويل يمكن أن تغطي به العجز الحالي.
ومع ذلك، من المستبعد أيضاً أن يكون هذا السيناريو كافياً لإعادة التعافي لتونس على المديين المتوسط والبعيد، في ظل غياب رؤية واضحة لمستقبل البلاد سياسياً واقتصادياً، خاصةً أن الفجوة المالية بموازنة الدولة لعام 2023 تُقدَّر ما بين 1.5و1.8 مليار دولار، ومن غير المتوقع أن يسدّ القسط الأول لقرض صندوق النقد الدولي هذه الفجوة بمفرده.
.
رابط المصدر: