منذ أيام قليلة؛ جلس نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى «ديمترى ميدفيديف»، أمام عدسات الكاميرات كى يكشف لمستمعيه سيناريو تخيليا، يحمل تعليقا روسيا على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس فلاديمير بوتين. المشاهد التخيلية وفق ميدفيديف، ظهر بوضوح أن تفاصيلها مقصودة، بل وألفاظها أيضا، فقد وصف الرئيس بوتين برئيس «دولة نووية» قد يذهب لمكان مثل ألمانيا، وفيما سيجرى اعتقاله بناء على مذكرة المحكمة الدولية فسيعد هذا بمثابة إعلان حرب على الفور ضد روسيا الاتحادية، مما يستتبعه فى تلك الحالة توجيه كافة أصول الدولة الحربية ومنها ترسانة صواريخها إلى «مكتب المستشارية» الألمانية ومبنى «البوندستاج». بالتأكيد كان يمكن استخدام أدوات رد مختلفة من قبل شخصية بحجم ديمترى ميدفيديف الذى شغل منصب رئيس وزراء روسيا لثمانى سنوات، بعد أن ظل رئيسا للدولة فى الفترة التى كان فيها الرئيس بوتين رئيسا للوزراء، فى عملية تبادلية للمناصب جرت بالتوافق بين الرجلين.
لم يتخل نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسي، عن بقية الرسائل التى ترغب روسيا إيصالها للغرب، رغم ذهابه إلى الفرضية السالفة فى البداية. فقد أعاد التأكيد أن روسيا مثلها مثل الصين والولايات المتحدة، لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وقد حذر من عواقب إصدار مثل تلك المذكرات مهددا بأنها ستكون «وخيمة» على القانون الدولي. فيما وصف العلاقات مع الغرب بأنها بالتأكيد اليوم فى أسوأ أحوالها، كما أن المخاطر النووية باتت فى تزايد فوفق رؤية مجلس الأمن الروسي، كل يوم يتم فيه إمداد أوكرانيا بأسلحة من الخارج يقرب العالم أكثر من دمار نووى كامل. حيث عاد ليقدم التفسير الروسى لتلك الحرب معتبرا الغرب الآن يريد تقسيم روسيا لمجموعة من الدول الضعيفة، ليسرق مواردها الطبيعية الضخمة، فى حين يذهب المنطق الروسى إلى اعتبار أوكرانيا جزءا من روسيا، كون أغلب أراضيها الحالية ظلت لسنوات جزءا من الإمبراطورية الروسية. ويبقى لميدفيديف مقولة سابقة تثير الانتباه، فهو يقدر أن العقود القادمة لن تكون هادئة، لأن الغرب وفق ما ذكره لا يريد روسيا ولا الصين !
هذا ببساطة تلخيص شبه كامل للرؤية الروسية للمشهد الراهن، وهى تتحرك اليوم وفق المنظور المتداول بين الشريحة القيادية بالكرملين،المحيطة بالرئيس الروسى والأقرب له فعليا، والأصدق فى التعبير عن الإستراتيجية الراهنة للدولة الروسية. وفى حال اعتبرنا هذا النهج التصعيدى فى الخطاب، وفى استدعاء الفرضيات التى تحمل كثيرا من التشنج والتضخيم فى التلويح بالسلاح والحرب النووية، أمر قد يبدو مفهوما صدوره عن دولة بحجم روسيا تخوض حربا منذ ما يزيد على عام، وترى أنها تحارب العالم الغربى برمته وليس أوكرانيا وحدها. لكن الثابت أن حالة «التسخين» انتقلت بالعدوى ربما لتشمل دولا ومناطق أخري، ليس لها ذات القدر من الانخراط فى الحرب الروسية الأوكرانية. آخرها كوريا الشمالية التى لم تهدأ طوال عام كامل مضى من نشر البيانات والأخبار، التى تعكس نشاطها المحموم فى تطوير قدراتها العسكرية. الأحدث منذ أيام عندما أذاعت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية؛ عن اختبارها لسلاح نووى استراتيجى جديد يعمل تحت الماء، وكعادتها كان بتوجيه مباشر من زعيم كوريا الشمالية «كيم جونج أون»، مهمته الرئيسية التى يقوم بها تحت الماء هى التسلل خلسة إلى المياه التشغيلية، وإحداث «تسونامى إشعاعي» واسع النطاق، من خلال انفجار يقع تحت الماء لتدمير القطع العسكرية البحرية وموانئ العمليات الرئيسية للعدو.
هذا الرد الكورى الشمالى غير المفاجئ جاء فى معرض مواجهة «تحالف اوكوس»، الذى يضع مسألة تزويد أستراليا بغواصات تعمل بالوقود النووي، كأولوية ضمن تحالف دفاعى وأمنى طويل المدى بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، يهدف إلى مواجهة التوسع العسكرى الصينى فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ. لذلك كان الاختبار الكورى الشمالى معنيا بإعلان جاهزية بيونج يانج، بغواصة جديدة قادرة على شن هجوم نووى ردا بداية على المناورات الأمريكية الكورية الجنوبية الأخيرة. الغواصة الكورية الشمالية؛ يمكن نشرها على أى ساحل أو ميناء وسحبها بواسطة سفينة سطحية، وعززت بيونج يانج من جاهزيتها باطلاق حزم من صواريخ «كروز» فى ذات التجربة النووية. وامتدادا لمواجهة التحالف الذى لا ترضى عنه لا هى ولا بكين ومن خلفهما روسيا بالطبع، فموسكو ترى أن الدول الثلاث بقيادة الولايات المتحدة تسعى إلى تدبير مواجهة مفتوحة تستمر لسنوات.
ويبقى فى النهاية؛ المشهد الثنائى بين واشنطن وبكين، ففى الوقت الذى ترى فيه الولايات المتحدة أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انقضت، وهناك حقبة جديدة مختلفة كليا قيد التشكل، تعتبر الصين أن آفاق التقارب بين الدولتين آخذة فى التراجع على نحو مقلق. ما بين التجسس المتبادل والتحديات والمنافسة الشرسة، تتصاعد الخصومة بين واشنطن وبكين متخذة أبعادا عالمية ومهددة بالتسبب بمواجهة مباشرة، فيما يضيق أفق التقارب يوما بعد يوم. ففى مستوى جديد من الاتهامات يصدر لأول مرة من الصين، انتقد الرئيس «شى جين بينج» مباشرة واشنطن، معتبرا أنها تقود حملة من أجل «احتواء وتطويق» ومن ثم قمع الصين، ما يرتب تحديات غير مسبوقة أمام تنمية بلاده. وقد استقبلت الاستخبارات الأمريكية هذه الرسالة الواضحة، وعلقت عليها فى جلسة الكونجرس الدورية، بوصفها تعكس تشاؤما صينيا واضحا ومتزايد حيال علاقتها بالولايات المتحدة. وهذا يتجاوز المفهوم الراسخ فى واشنطن، من أن الولايات المتحدة فى منافسة مع الصين غير أنها لا تسعى إلى نزاع، ولا تريد خوض حرب باردة جديدة ضدها نظرا للعديد من المصالح المشتركة والمتبادلة بينهما.
الغريب أن تكون تلك الأحداث، هى حصاد أسبوع واحد فقط، بل لم يعد يخلو أسبوع من وقائع مماثلة هنا وهناك، هذا يعكس بلا شك وتيرة التسارع فى تشكل الحقبة الجديدة، التى توصف بتجاوزها مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بأبطالها القدامى وبالقادمين الجدد وسط اختلاط كبير وزحام بين أبواب الدخول وممرات الخروج.
نقلا عن جريدة الاهرام
.
رابط المصدر: