محمد الزغول
تباينت الأنباء في الأسابيع الماضية بشأن مصير المفاوضات النووية في فيينا بين التفاؤل والتشاؤم. وكان مُنسِّق السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قدَّم مقترحاً لإنعاش المفاوضات المتوقفة منذ بدء الأزمة الأوكرانية في فبراير الماضي. وأدّت آخر جولات التفاوض إلى بلورة نصٍّ، وصفته أطراف عدّة بـ “النص النهائي” الذي لا يمكن مناقشة بنوده. لكنّ رد الفعل الإيراني جاء مُغايراً، واقترح الوفد الإيراني عدّة تعديلات على هذا “النص النهائي” بعد إعلان واشنطن موافقتها مبدئياً عليه. وأعلنت واشنطن أنَّها تدرس التعديلات الإيرانية، وأرسلت ردها على مقترحات طهران التي أعلنت بدورها أنها تدرس الرد الأمريكي.
وتُشير التفاصيل إلى أن تقدُّماً حصل بالفعل في المفاوضات، بعد تنازل إيران عن بعض المطالب. وتؤكد جزئيات تداولتها أطراف مُحافِظة في طهران، أن المقترح الأوروبي يُقدِّم امتيازات اقتصادية لافتة لإيران على صعيد النفط، والأموال المجمدة. إلّا أن قراراً نهائياً لم يصدر عن الأطراف الرئيسة في المفاوضات بشأن مصير الاتفاق النووي؛ ما يجعل الحالة أشبه بالوقوف عند عتبة اتفاق، وهو ما انعكس على أداء الأسواق في طهران.
المشهد الإيراني: ترقُّب الشارع، و”تشاؤل” الأسواق
يعيش الشارع الإيراني حالة من الترقُّب، وتبدو الأسواق مُعّلقة بانتظار اتّضاح مصير الاتفاق النووي. وتسود حالة من التفاؤل الحذر على الصعيدين الاقتصادي، والسياسي. وتتفاعل مراكز صنع القرار بشكل إيجابي مع التطورات الجارية في المفاوضات النووية؛ إذ يمكن ملاحظة رضىً عامّاً عن مجريات الأمور في أوساط المؤسسات المحافظة، لكنّ هذا الرضى لم يرتقِ بعدُ إلى مستوى القناعة بإحياء الاتفاق.
وادّعت تقارير صادرة عن جهات إصلاحيّة أن ما توصّل إليه المفاوضون الإيرانيون مؤخراً، أقلّ ممّا كان بلغه فريق المفاوضات السابق برئاسة عباس عراقجي. فيما أكدت التقارير الصادرة عن أوساط المحافظين أنّ حصيلة المفاوضات كانت أفضل من اتفاق 2015، لكنّها أقرّت أنّ ثمة عقبات عالقة، لا بدّ من حلّها من أجل بلوغ الاتفاق.
وتُطالب إيران بضمانات لجهة عدم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق مستقبلاً، كما تُطالب بإقرار آليات واضحة لمعالجة موضوع الخروقات النووية. ويعتقد المسؤولون الإيرانيون أن المجتمع الدولي مستعدٌّ للتنازل بشأن هذه المطالب، وتقديم ما تطلبه طهران.
لكنّ الاقتصاد كان أكثر شفافيّة في ردّة فعله تجاه ما يحدث في فيينا. وعلى الرغم من تأكيد حكومة إبراهيم رئيسي على فكّ ارتباط الاقتصاد الإيراني بتقلُّبات الملف النووي، إلّا أن المجال الاقتصادي الإيراني تفاعل بشكل أكثر واقعية مع الأنباء الآتية من فيينا. وكان تفاعل أسواق الذهب والعملات أسرع من غيرها؛ إذ شهدت الأيام الماضية أداءً إيجابياً ملحوظاً، بعد تواتُر الأنباء عن توصل الطرفين الإيراني والأمريكي إلى توافق مبدئي حول المسودة الأوروبية المقترحة. وشهد سعر الذهب الرسمي انخفاضاً بنحو 10.3% خلال آخر أسبوعين من التداولات. أما على صعيد أسعار العملة، فقد تراجع سعر الدولار في الأسواق بنحو 8.7% خلال الفترة نفسها.
ولم تُظهِر سوق الأسهم الإيرانية نفس المستوى من التفاؤل، والتفاعل؛ إذ عاودت الانخفاض بالرغم من ارتفاعها خلال الأيام الأولى، وأقفلت منخفضة خلال الأيام التالية، لتخسر ما مجموعه 1.5% من قيمتها خلال الأسبوعين الماضيين. وشهد اليومان الأخيران من تداولات الأسواق في الشهر الإيراني الخامس، عودة التشاؤم إلى المستثمرين؛ إذ ارتفعت أسعار الذهب والعملات من جديد تحت وطأة الأخبار المتباينة حول مصير الاتفاق.
وبشكل عام تفاعلت الأسواق الإيرانية بتفاؤل حذر، مع أنباء الاقتراب من الاتفاق النووي. لكن هذا التفاعل الحذر بدأ يفقد طاقته خلال الأيام الأخيرة بشكل متزايد، مع انتشار أنباء حول عقبات لا تزال تفصل الأطراف عن العودة إلى إطار الاتفاق النووي.
يُعوّل النظام الإيراني على أزمة الطاقة لتليين الموقف الأمريكي، واستخراج قرارات أكثر تماشياً مع متطلباته من إدارة بايدن التي تحتاج إلى إدارة أزمة التضخم، والتي تؤثر بشكل مباشر على الانتخابات النيابية المقبلة
المقترح الأوروبي بين المواقف المتفائلة والعقبات الموضوعية
غاب الثلاثي الأوروبي عن الجولة الأخيرة من المفاوضات، وصعّد لهجته حيال الملف النووي الإيراني عبر قرار إدانة اعتمده “مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية” في آخر اجتماع. وفسَّرت عدّة تحليلات هذا الغياب بأنه نتيجة فجوة بين المواقف الغربية، على أعتاب اجتماع سبتمبر الذي سيدرس تطورات الملف النووي الإيراني. وأدى غياب الثلاثي الأوروبي عمليّاً إلى اختزال مفاوضات فيينا، بحيث تحولت من “مفاوضات بين إيران والمجموعة الدولية (1+5)” إلى مفاوضات إيرانية-أمريكية بوساطة أوروبية. وهو اختزال ترحب به إيران والولايات المتحدة، لكنّه قد يثير على المدى المتوسط تحسُّس الأطراف الأخرى التي ترغب بالمساهمة في صنع القرار.
وعلى الرغم من غياب الثلاثي الأوروبي، والتصعيد الذي أبداه خلال آخر اجتماع لحكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يرى الجانب الإيراني أن الظروف التي تمر بها أسواق الطاقة العالمية ستضغط على الجانب الأوروبي لاستخراج مواقف لصالح إيران خلال المفاوضات النووية. إذ تُرجّح التحليلات ارتفاع معدلات التضخم في بلدان الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة نتيجة أزمة الطاقة المتوقعة في الشتاء المقبل.
ويأتي الإلحاح الإيراني على تذكير أوروبا بأزمة الطاقة المتوقعة على أعتاب الشتاء المقبل بهدف تليين الموقف الأمريكي بشكل خاص، والغربي بشكل عام من مطالبها. وتعوّل إيران على “أثر الطاقة” في الاقتصاد الغربي، وبخاصة مسألة التضخم، والضغوط التي ينتجها على القيادات السياسية. وفي ظل دخول جزء من العقوبات على قطاع الطاقة الروسية حيز التنفيذ ابتداءً من ديسمبر المقبل تتوقع إيران تفاقم الأزمة بين المجتمع الغربي وروسيا؛ ما ينذر بارتفاعات جديدة في أسعار الطاقة، ووضع قيود كبيرة على شراء النفط الروسي، والضغط على الأسعار، ليترك كل ذلك تأثيراً كبيراً على معدلات التضخم التي سجلت أرقاماً قياسية في كل بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة.
وتُظهر المواقف والتحليلات ما يشبه إجماعاً على أن أزمة الطاقة والأزمة الاقتصادية الناتجة عنها في الاقتصادات الغربية، ستعمل لصالح إيران في الماراثون النووي. ويحاول الخطاب الإيراني خلق أداتين تضغطان على المجتمع الغربي للإسراع في اتخاذ قرارات تنازل: مطرقة الشتاء الواقف على الأبواب حسب تعبير مستشار فريق المفاوضات الإيراني محمد مرندي من جهة، وسندان القنبلة النووية التي وقفت إيران على أعتباها حسب تعبير مدير المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية كمال خرازي. لتكون العودة إلى الاتفاق مكسباً اقتصادياً للمجموعة الغربية، من خلال خفض التضخم، وإدارة أسعار الطاقة، ومكسباً أمنياً واستراتيجياً من خلال إبعاد إيران عن العتبة النووية.
ولا يركز الخطاب الإيراني على فكرة ملء فراغ روسيا في توفير مصادر الغاز للاتحاد الأوروبي بمقدار ما يركز على الدور الذي يلعبه إحياء الاتفاق النووي في خفض أسعار النفط والغاز العالمية، وأثر ذلك على خفض معدلات التضخم في الغرب. ويأتي تفادي التركيز على المحور الأول في جزء منه، استناداً إلى قناعة باستعصاء توفير الغاز الأوروبي على المدى القصير، ومن أجل تجنيب إيران مخاطر الانخراط في تنافس سلبي مع روسيا التي تعتبرها طهران حليفاً استراتيجياً.
ويُعوّل النظام الإيراني على أزمة الطاقة لتليين الموقف الأمريكي، واستخراج قرارات أكثر تماشياً مع متطلباته من إدارة بايدن التي تحتاج إلى إدارة أزمة التضخم، والتي تؤثر بشكل مباشر على الانتخابات النيابية المقبلة. وتُظهِر متابعة المواقف الإيرانية أن طهران تراهن على أن إدارة بايدن ستقدم تنازلات ملموسة وسريعة، من أجل إعادة إيران للاتفاق النووي، ليس فقط لأن ذلك يعتبر مكسباً سياسياً للإدارة الديمقراطية، وإنما لأن مثل هذا الاتفاق سيعمل على خفض أرقام التضخم في الولايات المتحدة نتيجة خفض أسعار الطاقة؛ ما سيعزز موقف الديمقراطيين في الانتخابات النيابية.
رغم التفاعل الإيجابي مع تطورات المفاوضات النووية في أوساط النظام الإيراني، لا تزال هناك فجوة بين موقف الحكومة الداعي إلى القبول بالمقترح الأوروبي مع بعض التعديلات البسيطة، وموقف المتشددين في الدولة العميقة الذين يطالبون بانتزاع تنازلات أكبر من الجانب الأمريكي في قضية الضمانات، وآليات معالجة خروقات الملف النووي
في المقابل، ثمّة معطيات من شأنها أن تُعكّر صفو هذه الرؤية، لتجعل من تمرير “الاتفاق النووي” أمراً مستعصياً بالرغم من بلوغ الأطراف عتبة الاتفاق. إذ لم تُظهِر إدارة بايدن -حتى الآن- ليونة في مواقفها تجاه إيران. ومن الواضح أن مثل هذه الليونة إن حصلت، فإنها لا تُثير تحسس الحزب الجمهوري فقط، بل تثير امتعاض أطراف داخل الحزب الديمقراطي أيضاً. وبالفعل انضمّ عددٌ من الديمقراطيين إلى مشروع قرار يطالب بضمان استمرار العقوبات على إيران. وتشير القراءة الغالبة حتى الآن، إلى إن إدارة بايدن ستخسر الأغلبية في الكونغرس في الانتخابات المقبلة؛ ما يعمل على جعل أي اتفاق مع إيران هشّاً، وعرضة للانهيار خلال فترة قصيرة، وهو ممّا يعزز أهمية موضوع الضمانات التي تُصرّ إيران على استخراجها.
وعلى الرغم من التفاعل الإيجابي مع تطورات المفاوضات النووية في أوساط النظام الإيراني، لا تزال هناك فجوة بين موقف الحكومة الداعي إلى القبول بالمقترح الأوروبي مع بعض التعديلات البسيطة، وموقف المتشددين في الدولة العميقة الذين يطالبون بانتزاع تنازلات أكبر من الجانب الأمريكي في قضية الضمانات، وآليات معالجة خروقات الملف النووي. وأكّد مدير صحيفة “كيهان” المقربة من “بيت القائد”، و”الحرس الثوري”، أن العودة إلى الاتفاق قبل الحصول على ضمانات حقيقية، سيؤدي إلى فتح ملفات أخرى ضدّ إيران مستقبلاً، وهو موقف أكده مدير تحرير صحيفة “جوان” المرتبطة بالحرس الثوري.
ومع أن الانفراج الأخير في المفاوضات النووية جاء بعد مقترح قدمه منسق السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، إلا أن موقف الثلاثي الأوروبي، لم يكن متناغماً مع طرح منسق السياسة الخارجية؛ إذْ طرح الثلاثي الأوربي في المرحلة التي سبقت المقترح، مشروعَ قرارٍ، وُصِف بأنه تصعيدي على مجلس حكام “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” لإدانة إيران. وكان من اللافت أن مُمثلي بريطانيا وفرنسا وألماني تغيبوا عن اجتماعات مناقشة المقترح الأوروبي. وبعد المناقشات، وأثناء حوار زعماء الدول الثلاثة مع الرئيس بايدن، أكدوا ضرورة معالجة ملفات أخرى، مثل: ملف الصواريخ، وملف النفوذ الإقليمي الإيراني. وهو ما يوحي بوجود خلافات قائمة بين الجانبين، أو على الأقل، وجود تباين في وجهات النظر. ويعدُّ الثلاثي الأوروبي طرفاً أساسياً على طاولة الاتفاق، ويمتلك حق التصرف في آلياته.
وعلى رغم تلميح مندوب روسيا الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف، في أكثر من موقف، باقتراب الأطراف من العودة إلى الاتفاق، وتأكيده أن روسيا لا تُعارض إحياء الاتفاق، بل ترحب به. لكنّ تعارُض المصالح الذي تخلقه العودة إلى الاتفاق، إلى جانب حسابات استراتيجية أخرى، يعمل على ترجيح الرأي القائل بأن الموقف الحقيقي الروسي مختلفٌ عن هذا العرض الودّي؛ إذ يعمل إحياء الاتفاق النووي على خفض أسعار النفط والغاز، ليضر بإيرادات النفط الروسي. كما أنه يُضعِف قدرة موسكو على استخدام ملف الطاقة أداة ضغط في مواجهتها مع الغرب؛ إذ يجعل تفادي النفط الروسي متاحاً بشكل أكبر. وعلى المديين المتوسط والبعيد، قد تتيح العودة للاتفاق، للجانب الإيراني، الارتقاء إلى مستوى البديل الذي تعوّل عليه بلدان الاتحاد الأوروبي عن الغاز الروسي.
خريطة احتمالات ما بعد “عتبة” الاتفاق النووي
أوصل المقترح الأوروبي الأخير الجانبين الإيراني والأمريكي إلى “عتبة الاتفاق”، لكن حسابات واشنطن وطهران على الجبهتين الداخليّة والدوليّة، وحسابات الثلاثي الأوروبي، وروسيا، تجعل من تجاوز هذه العتبة، والوصول إلى الاتفاق عمليّةً صعبةً، قد لا تتحقق بسهولة؛ ما يُبقي المشهد منكشفاً أمام احتمالات عدّة.
وانعكست حالة الوقوف على “عتبة” الاتفاق النووي على الأسواق الإيرانية، باعتبارها أول المتأثرين بتقلُّبات الملف النووي الإيراني. وبعد عدّة جلسات سادتها أجواء التفاؤل، شهدت الأسواق الإيرانية تراجعاً لمؤشر التفاؤل، نتيجة امتداد فترة المكوث على عتبة الاتفاق. وفيما استمرّ الأداء السلبي لسوق الأسهم، شهدت أسعار العملة جلستين متتاليتين من الارتفاع (مجموعه 5.1%). وجرّب الذهب ارتفاعاً بنسبة 6.5% خلال ذات الجلستين.
ويُمكن تصوُّر انتهاء هذا المخاض إلى احتمالات عدّة، يبدو أقربها إلى التحقق، هو التوصُّل إلى اتفاق نووي. لكنّ جميع هذه الاحتمالات تبقى مؤقتة، بانتظار نتائج جولات الانتخابات المقبلة في واشنطن. وقد تكون عرضة للانهيار إذا حصل الجمهوريون على الأغلبية البرلمانية في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2022، أو على منصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
1. إحياء الاتفاق النووي. يفترض هذا الاحتمال أن يتوصّل المفاوضون في فيينا إلى اتفاق بشأن العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015؛ ما يعني إلغاء جميع العقوبات النووية، وتعليق العمل بقرارات أممية صادرة عن مجلس الأمن، مقابل عودة طهران عن خطواتها التصعيدية الخمس التي أعقبت خروج واشنطن من الاتفاق. ويؤكد كلٌّ من إيران والولايات المتحدة على ضرورة عودة الطرف الآخر إلى الإطار العام للاتفاق النووي الذي يسمح لمفتشي الوكالة الدولية بالوصول من دون قيود إلى جميع مراكز إيران النووية، ويضمن تخلي إيران عن عسكرة برنامجها النووي، بعد أن أصبحت قاب قوسين أو أدنى من صنع القنبلة، بحسب مصادر داخلية، ومراكز مراقبة دولية. كما يضمن الاتفاق وضع حدود على برنامج إيران الصاروخي. وفي المقابل، يضمن الاتفاق لإيران حُريّة الوصول إلى أسواق النفط والغاز العالمية؛ ما سيعمل على رفع مبيعاتها من النفط من أقل من 700 ألف برميل يومياً، إلى 2.8 مليون برميل على الأقل، في غضون 6 أشهر. ويخدم هذا السيناريو اقتصادات المجموعة الغربية، عبر خفض أسعار النفط والطاقة. لكنّه يواجه عقبات كبيرة؛ إذ يفترض عودة طهران إلى نقطة الصفر النووية، مقابل امتيازات يعتبرها الجانب الإيراني قليلة، مقارنةً بحجم التخلّي المفترض عن العتبة النووية. وتُصرّ الوكالة الدولية على حلٍّ تقنيّ للخروقات النووية الإيرانية قبل إغلاق الملف الإيراني؛ ما يعني مساراً طويلاً من الإجراءات، قد لا ترغب إيران بالانخراط فيه، فيما يُصرّ الثلاثي الأوروبي على تطبيقه. وقد تخشى روسيا أن يعمل الاتفاق النووي الجديد على خفض مفاجئ لأسعار الطاقة، ويفتح الباب لدخول “منافس حليف” إلى أسواق الطاقة الأوروبية. ولا ينسجم الاتفاق النووي بصيغته السابقة، مع مصالح أطراف إقليمية، تعتبر أنّ تجربة اتفاق 2015، كانت بوابة لموجة كبيرة من محاولات الهيمنة الإيرانية. وتطالب هذه الأطراف باتفاق مُعدَّل، يضمن وضع حدود على الأنشطة الإقليمية الإيرانية. وتتعارض مصالح جهات مُتنَفِّذة داخل إيران مع العودة المحتملة للاتفاق النووي؛ إذ تشكّلت دوائر مصالح عديدة حول نظام العقوبات. ويُعدُّ الحرس الثوري الإيراني أحد كبار المستفيدين من استمرار العقوبات على الصعيد الاقتصادي الداخلي. وستعمل هذه الأطراف على تشكيل نظام متكامل من العقبات، سيتعين على أطراف الاتفاق النووي إيجاد طرق لتجاوزها في سبيل العودة إلى الاتفاق النووي؛ ما يتطلب إرادة قد لا تتوافر لدى جميع الأطراف. وفي ضوء إدراك هذه المعيقات تأتي محاولات تقديم صيغة مرحليّة، أو معدلة من الاتفاق النووي.
2 انهيار الاتفاق. من المرجّح أن أيّاً من الأطراف المشارِكة في المفاوضات النووية، لا يريد الوصول إلى هذا السيناريو، لكنّ الطرفين الرئيسين فيها (الولايات المتحدة وإيران) يلوّحان به بين الحين والآخر. وأثبتت تجربة خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، أنه لا يمكن استبعاد هذا السيناريو كليّاً. ويمكن حصول هذا السيناريو عبر مسارين أساسيين: المسار الأول، أن تُعلن الإدارة الأمريكية أو الحكومة الإيرانية إخفاق المفاوضات؛ ما يعني العودة إلى نظام العقوبات، واستمرار العمل بالخطوات التصعيدية النووية الإيرانية. لكنّ الظروف مختلفة عمّا كان عليه الحال في عام 2018؛ إذ سيحظى القرار الأمريكي هذه المرّة بدعم من الثلاثي الأوروبي، كما تبدو الأسواق الأوروبية أكثر حاجة إلى صادرات الطاقة الإيرانية. أما المسار الثاني، فيكون عبر تفعيل أيّ من الأطراف “آلية الزناد”، لإعادة العقوبات الدولية على إيران، ووضع طهران تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذا المسار ألمحت إليه أطراف أوروبية أكثر من مرة، ويتوقع محللون حدوثه غداة اجتماع سبتمبر المقبل لمجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ ما قد يضع النظام الإيراني في مأزق يقضي على الحدّ الأدنى من مبيعاته النفطية، ويُثخن جراح الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها أساساً، ويقضي على آماله في التعويل على بيجين لتجاوز المحنة الاقتصادية. لكنّ تداعيات السيناريو الاقتصادية، وأثره على أسعار الطاقة، إلى جانب المخاوف من تحرك طهران نحو صنع القنبلة النووية، قد يمنع كل الأطراف – كما منعها حتى الآن – من إعلان موت الاتفاق النووي.
ثمة ما يُشير إلى أن الجانبين الإيراني والأمريكي، يتحركان نحو التوصل لاتفاق نووي بديل يتضمن تراجع إيران عن بعض الخطوات التصعيدية النووية، مقابل حصولها على بعض الامتيازات الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالأموال المجمدة، وتحرير القيود البنكية، ومبيعات النفط، والاستثمارات
3. التوصُّل إلى اتفاق بديل. قد يكون أحد المخارج العمليّة للعقدة النووية، هو التوصل إلى اتفاق يحمل اسم الاتفاق النووي، لكنّه يختلف معه اختلافاً كبيراً. ويُشير بعض الدلائل إلى أن الجانبين الإيراني والأمريكي، يتحركان نحو تطبيق هذا السيناريو الذي يتضمن تراجع إيران عن بعض الخطوات التصعيدية النووية، مقابل حصولها على بعض الامتيازات الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالأموال المجمدة، وتحرير القيود البنكية، ومبيعات النفط، والاستثمارات. ويفترض السيناريو حلّاً مرحلياً يبتني على أساس الثقة المُتدرِّجة التي تستغرق زمناً غير قصير لبلوغ حدود الاتفاق النووي. ويحمل السيناريو معه تداعيات اقتصادية غير حاسمة، لكنّها مؤثرة، عبر الضغط على أسعار الطاقة، من دون أن إطلاق يد إيران بشكل رسمي في مبيعات النفط. ويترك السيناريو قضايا مصيرية عالقة، مثل قضية الخروقات النووية، وقضية الحدود الزمنية الموضوعة على حق إيران بتجارة الأسلحة التكتيكية والاستراتيجية؛ ما قد يواجه معارضة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والثلاثي الأوروبي المستعد لمناقشة ملف الخروقات في الاجتماع المقبل لمجلس حكام الوكالة. كما سيواجه معارضة إقليمية من دول ترى أن الاتفاق البديل يضع مصادر مالية كبيرة في يد إيران، من دون أن يضع حدوداً على تحرُّكاتها الإقليمية، أو من دون وضع قيود على احتمال تسلحها بالأسلحة التقليدية الهجومية؛ ما يعني احتمال تكرار تجربة ما بعد اتفاق 2015.
4. استمرار الوضع الراهن. يفترض هذا السيناريو ألّا يتوصّل الأطراف إلى اتفاق نووي، لكنّهم لن يعلنوا إخفاق المفاوضات. وفي هذه الأثناء، تواصل الإدارة الأمريكية أو تزيد من التساهل إزاء مبيعات النفط الإيرانية بما يحقق زيادة ملحوظة في مبيعات النفط الإيرانية، ويضمن انخفاضاً في أسعار الطاقة، مقابل استمرار إيران في ضبط الخطوات التصعيدية النووية، والتقليل من أنشطتها الإقليمية المثيرة للجدل، كما كان الحال على مدار الأشهر السابقة. وعلى الرغم من أنّ العودة إلى الاتفاق النووي، قد تكون مكسباً لإدارة بايدن على أعتاب الانتخابات النيابية، لكنّ سيناريو استمرار الحالة الراهنة، وزيادة التراخي في ضبط أنظمة العقوبات، قد يُجنِّب الإدارة التصادم مع الجمهوريين، ومع مُتشددي الديمقراطيين، ويضمن أسعاراً أفضل في أسواق الطاقة. وقد يُرضي استمرار الحالة الراهنة الجهات المُتشدّدة في إيران الرافضة للاتفاق، كما يُرضي الحكومة التي ستحصل على مزيد من الإيرادات النفطية. ولا يُثير السيناريو تحسُّس روسيا، أو الصين، أو دول منطقة الشرق الأوسط، لكنّه لا يُقدّمُ حلّاً للملف النووي الإيراني، ولا يُوفّر أداة ضغط على إيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويترُك الباب مفتوحاً أمام حصول إيران على القنبلة النووية.
.
رابط المصدر: