صهيب زهران
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
في الساعة الثانية صباحًا بتوقيت بغداد، الجمعة الثالث من يناير/ كانون الثاني 20201، يُسمَع دوي انفجارات قُرب مطار بغداد الدولي، تحديدًا قُرب صالة الشحن الجوي، ولم تكن الأصوات الناجمة عن الانفجار تحمل جديدًا نظرًا لما كانت عليه بغداد وبلدات العراق قاطبةً من أحداثٍ لا تحمل سوى هذه الأصوات. ولكن لم تمر سويعات حتى أُعلِن الخبر المباغِت والمفاجِئ للجميع، الانفجارات خّلفت وراءها قاسم سُليماني، قائد فيلق القدس ذراع الحرس الثوري الإيراني العسكري للشؤون الخارجية، والذي كان برفقته أبو مهدي المهندس، نائب رئيس ميليشيا الحشد الشعبي العراقية، وثمان من القيادات الرفيعة في الحرس الثوري وكتائب حزب الله وميليشيا الحشد الشعبي العراقيتين. فقد دُمِرت العربتان اللتان كانتا تُقِلان سليماني ورفقاءه بالكلية، عبر طائرةٍ أمريكيةٍ مُسيَّرة من طراز MQ-9 Reaper تحمل أربعة صواريخ موجَّهة بالليزر من طراز Hellfire، حولت الموقع إلى ركام والجثث إلى أشلاء2.
شكَّل الحدث نقطةً فاصلة في العلاقات الدبلوماسية بين العديد من الأقطاب المتنافرة في المنطقة المشتعلة سلفًا، ووضعت ترسانات الأسلحة الإيرانية والأمريكية في وضع الجهوزية وتكثفت الاتصالات لإيقاف شبح الحرب الذي أطل برأسه بصورةٍ رسمية، وفي القلب من كل ذلك تصبح منطقة الخليج مسرح العمليات الجديد، وتقف دول الخليج في قلب المشهد الذي أعدوه لتفتح الباب أمام التكهُنات والأطروحات حول العلاقات الإيرانية الخليجية في مرحلةٍ تأسست لتوها، وهي مرحلة ستتحول من حديث السلاح إلى الدبلوماسية التفاوضية البحتة لتحصيل المكاسب وتأسيس وضع جديد، مرحلة “ما بعد قاسم سليماني”.
مدخل تأسيسي:
قبل الولوج إلى صميم تأثيرات حادثة مقتل قاسم سُليماني وتبعاتها على العلاقات الإيرانية الخليجية، فلا بُد من تحديد مؤثرات العلاقات الإيرانية الخليجية في العادة3.
أولًا: الدور الإيراني في منطقة الخليج العربي4، فقد دخلت إيران كمحدد ثانٍ رئيس مع الولايات المتحدة الأمريكية في تحديد مصير العراق، البلد العربي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فأخذ النفوذ الإيراني في الامتداد والتوسع في لبنان عبر ذراعها حزب الله، واليمن حيث الحوثيون؛ رغم الإنكار المتكرر من الطرفين بوجود أية علاقات بينهما، والبحرين كذلك ذات التركيبة الديمغرافية من الأغلبية الشيعية، والحديقة الأبرز سُورية التي لم تأل إيران جهدًا في النفاذ إلى أراضيها وصبغها بسياساتها، وليس أدل على ذلك من التصريح الأبرز للمرشد الإيراني، علي خامنئي: “اسمعوا ما أقوله جيدًا، اذهبوا وضعوا برنامجًا وخططوا له جيدًا، ولكن على رأس أولوياته بقاء بشار الأسد، والحفاظ على سورية”.
ومن ثمّ فإن هذا الفضاء الواسع الذي شغلته إيران لا يعبر إلا عن استراتيجية واضحة المعالم لديها في مد نفوذها أمام دول الخليج التي كانت سياساتها واستراتيجيتها سلبية إلى أبعد مدى أمام إيران، حيث كانت دول مجلس التعاون الخليجي تنتهج سياسة رد الفعل للموقف الإيراني. مواقف وليدة اللحظة؛ فحين يصل الإصلاحيون للحكم في إيران أمثال محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني، تتحسن العلاقات بين الخليج وإيران وتُعقَد الاتفاقيات الثنائية وتُمهَر البروتوكولات، ولكن حينما يصل المحافظون أمثال أحمدي نجاد، تتعقد العلاقات وتتخلخل على المستوى القُطري، وتتوتر حد القطيعة.
حتى الآن دول مجلس التعاون لم تُطوِر أية استراتيجية أو تُبلوِر خطًا محددًا للتعامل مع إيران رغم المكاسب التي يحققها الجانب الإيراني يومًا بعد يوم على حدود منطقة الخليج أو في منطقة الخليج ذاتها مستغلًا الصراعات العربية، وهشاشة المواقف، واهتمام كل دولة بشؤونها الخاصة عن وحدة الموقف، وبالتالي أصبحت إيران تمثل ضغطًا جيوسياسيًّا على دول الخليج ولا سيما المملكة العربية السعودية. وهذا الأمر هو الآخر لم تصنع دول مجلس التعاون أي شيء حياله. هذا سيتسق مع بُعد آخر سيزيد إيران قوة فوق قوتها، وهو موجة ثورات الربيع العربي 2011، وهذا لاقى هوى نظام الجمهورية الإيرانية؛ التي حتى هذه اللحظة تأتزر بإزار الثورة الإسلامية عام 1979، وستركب موجة هذه الثورات وتدعمها وتدعم مخرجاتها التي ستفرز في الأغلب تيارات إسلامية وهذا ما أجّج ورفع من حِدة التوتر بين النموذج الخليجي الذي يضم محور السعودية والإمارات وتوابعهما من جهة ومحور إيران من جهةِ أخرى.
ثانيًا: المشروع النووي الإيراني5، رأس الحربة المُوجَّه إلى صدور دول الخليج فرُغم موافقة دول الخليج سلفًا على المشروع النووي الإيراني بصورته السلمية، لكنها متخوفة دومًا من رغبة إيران في تحويل مشروعها هذا إلى صورة عسكرية، مما يعني نفوذ لا حدود له وانقلاب في موازين القوى لصالح الجانب الإيراني، مع تخوف آخر من التأثيرات البيئيّة للمنشآت النووية الإيرانية، التي لا محالة ستفتك بمدن الخليج إلى مدى بعيد.
ثالثًا: لغة الخطاب السياسي الإيراني تجاه دول المنطقة6، لغة يغلب عليها الوعيد والتهديد، كما أنها متعددة المصادر تنطلق من رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية والمرشد الأعلى والبرلمان بنوابه ولجنة الشؤون الخارجية والمؤسسات العسكرية والقادة السياسيين والدينيين وغيرهم. وهو أمرٌ يضع دول الخليج في حيرة من التعامل مع إيران، ويبدد أية خطوات تتخذها لإصلاح العلاقات مع إيران. ظهر هذا على سبيل المثال في تصريحٍ لأحد القادة الإيرانيين، آية الله روحاني، عندما قال إن جزر الإمارات والبحرين هي جزر إيرانية. ومن ثمّ فقد أصبحت إحدى سمات السياسة الخارجية الإيرانية ألا تكون ذات طبيعة واحدة.
وقد أنتج هذا طبيعة متوترة للعلاقات بين الجانبين، مع التوجس الذي ينتاب كلا الطرفين عن الآخر؛ فإيران تظن أن الخليج يريد القضاء عليها وإنهاء وجودها، والخليج متيقن أن خيال إيران في التوسع والتمدد على حساب بلدانهم هو أمرٌ حتمي.
رابعًا: تفاوت العلاقة من دولةٍ خليجية إلى أخرى مع إيران7، فدول مجلس التعاون الخليجي لا تملك خطًا سياسيًا واحدًا على حدٍ سواء مع الجانب الإيراني، فالعلاقة مستقرة مع قطر إلى مدى بعيد، وشديدة التوتر مع الجانب السعودي والبحريني، وحذرة مع الجانب الإماراتي. وهذه العلاقات إلى حدٍ كبير تتحدد على أساس صراع النفوذ الدائر بين إيران من جهة وقوى مجلس التعاون من جهة أخرى في الملفات الخارجية المتعلِقة باليمن ولبنان وسُورية والتي مالت فيها الكفة لصالح إيران وبشكل منقطِع النظير.
خامسًا: علاقات دول الخليج بقوى مجلس الأمن وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، دول تعتبرها إيران تهديدًا لأمنها القومي، بينما تعتبرها دول الخليج حقًا مشروعًا من الناحية السيادية والسياسية، وهذه ورقة تعدها إيران كفاعلٍ تأسيسيّ في علاقتها مع دول الخليج8، حتى إنها وظفت هذا الصراع الدائر بينها وبين هذه القوى في العلاقة بينها وبين دول الخليج. وهو الأمر الذي يدفع دول الخليج بصورة دائمة إلى تبديد هذه الصورة والتأكيد على أنها ليست طرفًا في الصراع بين إيران والدول الغربية، لأن دول الخليج تؤمن حق الإيمان أنها ستدفع تكلفة الحرب التي ستشتعل في المنطقة خاصة مع وجود إسرائيل بجوارها، فضلًا عن الوجود العسكري الأمريكي بقواعدٍ عدة جوية وبحرية وبرية في كافة دول الخليج، وهي تحت عين إيران لاستهدافها في حالة أي فُعيل عسكريّ من قِبل الولايات المتحدة ضدها؛ إيران لم تتوقف عند ذلك الحد بل هدّدت أكثر من مرة بأنها ستضرب أهدافًا استراتيجية لدول الخليج كمضخات النفط ومحطات الطاقة في حالة أن استُهدفت طهران.
هذه المؤثرات ستُوجِد لنا تفكيكًا للقضية الشائكة حول ماهيّة نظرة إيران إلى دول الخليج وتحدد للناظرين من زاوية عين الطائر على المشهد الإيراني الخليجي الوصول إلى ميزان صراع النفوذ، ورسم خط تقديري لما يمكن أن تؤول إليه الأمور بين الطرفين في حالات التوتر الحاد والهدوء الحذِر.
دائرة إيران الأولى9:
استطاعت إيران أن تُشكِل عالماً من العلاقات مع دول عربية متعددة ومُختَارة، أي أنها كانت تُطبِق “استراتيجية إحاطة” تفاجِئ خصومها من خلف خطوطهم، وتُحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم.
ومن ثمّ فقد أُجبِرت إيران على “استبطان” شعار تصدير الثورة خاصتها؛ لعدم ملائمته للوضع الذي ستنتهجه مع أنظمة الدول العربية التي لن تستسيغ بأية طريقة أن تُصدَّر فكرة الثورة إلى أراضيها، فضلًا عن الحشود العسكرية الأمريكية الضخمة في منطقة الخليج التي أتت لحماية نهر النفط المتدفِق من أراضي الخليج، وبالتالي كان على إيران أن تنتهج خطًا جديدًا؛ أكثر أمنًا وأقل تكلفةً وأشد تأثيرًا؛ وهو بناء أنماط تحالفات تُشكِل عبرها مقومات الأمن وتُهمِش أثر الوجود الغربي” وتحاصر دول المنطقة بأتباع وحلفاء من العرب مستفيدةً من الاختلافات العربية التي نجُمت عن توقيع مصر على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، والتي فقدت مصر على إثرها ريادتها العربية وقيادتها وتم عزلها. وانطلقت إيران لتشكيل عالمها الدبلوماسي بعدما خطت ورسمت مسار هذه العلاقات دول عربية دعمت إيران ضد العراق في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).
هذا العالم، كانت أولى دوائره، دائرة التماس المباشر مع العراق ودول الخليج10؛ فلقد تأسست علاقات إيران مع جيرانها في العراق والخليج العربي سلفًا في الأزمنة والحقب الغابرة بفعل عوامل الجغرافيا وحوادث التاريخ التي أسست حالة من الاندماج الحضاري، ولكن نظرة إيران لعلاقاتها مع الخليج نابعة من أمنها القومي، لأنه لا بُد أن نضع في الحسبان أن إيران وجهت جُل اهتمامها صوب مجالها العربي وليس إلى المجال الأفغاني أو منطقة بحر البلطيق وآسيا الوسطى.
هذا الاهتمام الذي شُكِّل على إثر وتيرة متوالية من الأحداث ستدفع الطرفين لأخذ الحيطة والحذر من الطرف الآخر، وستجعل السياسات المنتهَجة في تأسيس العلاقات بين الطرفين ما هي إلا ترجمة لمفهوم النفوذ والقوة، فالجانب الإيراني على سبيل الذكر سيؤسِّس مفهوم القوة خاصته، ابتداءً من شعار تصدير الثورة الذي يشكِل عقدة لدى ممالك الخليج في ظل انتشار العديد من المجموعات الإيرانية والشيعية في بلدان الخليج تستطيع أن تستخدمها إيران للضغط بها وتحقيق مصالحها، مرورًا بترميم منظومتها الأمنية وبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية في أعقاب الاستنزاف الذي طالها على إثر الحرب مع العراق وهو ما دفع دول الخليج لاستدرار المساعدة الأمريكية لهم مما أنتج وجودًا أمريكيًا بصورة دائمة في كافة بلدان الخليج، بالإضافة إلى تعزيز التحالفات في الدوائر العربية الأبعد وخلف خطوط دول الخليج.
كما أن الحربين اللتين خاضتهما العراق أثرتا تأثيرًا مباشرًا في تشكيل إيران11، فالحرب دفعت نظام الثورة الذي لم يكن قد مرّ سوى عام واحد على وصوله للحكم، على تطوير قدراته انطلاقًا من الإيمان الذي وقر في نفسه كنظام سياسي بأن دول الخليج والعراق سيشكلون خطرًا عليه. فضلًا عن أن إيران استغلت عملية إضعاف العراق بعد حرب الخليج الثانية لتبدأ في التحرك بشكلٍ واسع النطاق. وكانت الانطلاقة الأكبر عقب احتلال العراق عام 2003، فقد أتاحت هذه الحرب لإيران تحقيق نفوذ فاعل وجوهري في العراق بموافقة أمريكية، وانقلب الأمر بالكلية، فبعد أن كانت العراق تمطر مدن إيران بنيرانها عام 1980، أصبح لإيران قوى سياسية وميليشاوية تتحكم في القرار السياسي العراقي برُمته، وتحدد وجهة العراق الخارجية والداخلية. ومن ثمّ فقد أصبحت العراق ذراعًا إيرانية.
هذا التوغل الإيراني في العراق كان يتسق مع بناء أحلاف أخرى في المنطقة، وكأن إيران كانت تُشيد “كومنترن” على النموذج الإيراني، حول دول الخليج من جهة، ومن جهة أخرى كانت تُقيِم علاقات طبيعية مع دول الخليج من النواحي الاقتصادية؛ ونجد أن حجم التبادل التجاري بين إيران ودول مجلس التعاون عام 2012 بلغ نحو 30 مليار دولار12، وكانت هناك ثلاث دول عربية من بين أكثر 10 دول تستقبل منتجاتها غير البترولية وهي الإمارات والعراق والسعودية. كما عُدت الإمارات أكبر شريك تجاري عربي لطهران وثاني أكبر شريك تجاري عالمي على مستوى العالم بنحو 13 مليار دولار13. وهذا قائم ما لم تقُم دول الخليج “بمشاكسة” إيران، مثل أن تطالب الإمارات بجُزرها الثلاث المسلوبة، أو أن تقمع العائلة المالكة البحرينية الأغلبية المحكومة والتي تدين بالمذهب الشيعي، أو تحاول السعودية التعريض بها في بياناتها أو تتخذ أفعالًا ميدانيّة لمناوئتها وهذا ما تعلمته المملكة من درس اليمن بالأخص مرورًا بدروسٍ أصغر لم تتعَظ منها في لبنان والعراق وسُورية.
سليماني المهندس:
أشار المركز الفرنسي لمكافحة الإرهاب في تقريره عن “ماهيّة استفادة إيران من مقتل سُليماني: سيناريوهات ما بعد الرد”14، إلى مدى القوة التي كان يحوزها سليماني في يديه، إذ أشار إلى أنه شكَل نفوذًا عميقًا في سُورية والعراق، فقد تحكم بصورةٍ شبه مباشرة في الموارد ومنابع النفط في البلدين الغنيّين بهما وهذا أوصله إلى الحد الذي جعله في غِنى عن التمويل من قِبل النظام الإيراني ذاته؛ بمعنى أنه قد أصبح بمعزل عن الإرادة السياسية الإيرانية إلى حدٍ ما. فضلًا عن أنه استطاع أن يضع نفسه كفاعلٍ يفرض سيطرته على مجريات الأمور في تظاهرات العراق أكتوبر/ تشرين الأول 2019 فلم يستجب لمطالب الدول في خفض حِدة القمع ضد التظاهرات التي خلّفت قرابة 500 قتيل و15 ألف جريح. كما أنه قد كان بمثابة مهندس المساومات مع الدول الكبرى لاسيما روسيا، وهذا الذي ساهم في تعسير المفاوضات الإيرانية الروسية في الكثير من الأوقات حول تقليص النفوذ الإيراني في الأراضي السورية.
ليس هذا فقط، بل إنه قد رفض رفضًا مطلقًا تدخل الدول الغربية في دور إيران الإقليمي وحذر أيضًا من السعي وراء اتفاق إقليمي على غرار الاتفاق النووي15؛ وهذا الأمر بالأخص لم يكن يعبر عن الرغبة والإرادة العميقة للإدارة السياسية الإيرانية، والتي كانت ترى في المساومات والمفاوضات من أجل تخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي إزاء الاتفاق النووي، لا سيما بعد أزمة مضيق هرمز، ضرورة من أجل تخفيف العقوبات على إيران لتحسين الأوضاع الاقتصادية.
كان دور سليماني العسكري يجتاز كل الحدود ولكنه كان يتسق مع مسيرته الطويلة في هذا المضمار16، إشرافه على تدريب قوات حزب الله اللبناني خاصةً قوات النخبة منهم، وكذلك كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”. والعمل الأبرز له في قيادة الفصائل الشيعية قاطبةً في الحرب الضروس التي خاضتها ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية في قتالٍ مذهبيٍّ طائفيٍّ بحت استمر عدة سنوات ذهب على إثره آلاف القتلى، وكانت المعركة الكُبار هي معركة الموصل التي أضحت كأرضٍ محروقة بعدما سوتها طائرات التحالف الدولي من السماء، وسوتها مليشيات سُليماني على الأرض.
كما كُلِّف بشكلٍ مباشر من قِبل المرشد الإيراني، علي خامنئي، بمهمة حماية الأسد من السقوط ودحر الثورة السورية17 ابتداءً من النصف الثاني من عام 2012، وكانت أبرز المعارك هي معركة القُصير التي استردها من قوات المعارضة السورية في مايو 2013، واستلزم استرداده لحلب قُرابة العامين من 2014 إلى 2016 وأوفد إليها مقاتلي الشيعة من كل حدب وصوب حتى سحقها تمامًا، وقد تجول على أطلالها في الصورة الشهيرة في 13 ديسمبر لعام 2016.
تتناقل الروايات عن يده الطولى في وأد حلم كردستان بالاستقلال عن العراق في استفتاء سبتمبر/أيلول 2017، فضلًا عن توسطه في 2008 لوقف القتال بين الجيش العراقي وجيش المهدي التابع للتيار الصدري بالعراق18.
هذا السجل الذي تفخر به إيران لأحد أهم رجالاتها على الإطلاق؛ قاسم سُليماني، الذي صار يرسم في بلدان المنطقة سياسات الأمن القومي لبلاده، ومن ثمَّ فقد جعلت هذه النجاحات من اصطياد رأسه غنيمة كُبرى سواء للولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل.
ولكن عبر التركيز على دائرةٍ أكثر اختصاصيةً بالصراع الأمريكي الإيراني فإن دول الخليج هي مَحط النظرة الإيرانية إلى حدٍ كبير؛ نظرًا لأن الخليج العربي يعد أكثر المناطق اكتظاظًا بالقواعد الأمريكية بمختلف أشكالها من برية وبحرية وجوية. وهي أعلى مناطق النفوذ الأمريكي في العالم بأسرهِ تقريبًا؛ في ظل العلاقة التي تربط الخليج بالولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي والتي نستطيع أن نوجِزها في نظام “البترودولار”. ومن ثمَّ فأن إيران تضع تحت عينيها -عبر أذرعها التي تُطوّق منطقة الخليج- كل ما هو أمريكي لتحقيق الاستفادة القُصوى من مقتل قاسم سُليماني.
سياسة إيران تجاه دول الخليج بعد سليماني
في تقرير المركز الفرنسي لمكافحة الإرهاب الذي دار حول الاستفادة المُحصَّلة من مقتل قاسم سليماني، أفاد أن أي قرار مُتخَذ بالصراع السياسي يراعي المكاسب المتوقعة والتكاليف المُحتمَلة تتبع معاملة
“المحصلة النهائية = الربح – التكاليف”
ومن ثمّ فإيران ستتجنب الرد المباشر لعدم حاجتها إلى التصعيد المباشر لأسبابٍ عديدة، وستلجأ لسياساتٍ أخرى، ولسوء حظ دول الخليج وتخبط سياساتها على حدٍ سواء، مقابل الكرة التي أُلقيت في ملعب إيران مع براعةٍ تنظيمية وتخطيط مُسبَق ودُربة وتمرُس ميداني تتفوق فيه على دول الخليج مجتمعةً، ستصبح الأمور أكثر تعقيدًا في المنطقة ذات المجلس الذي كان يُعرَف سابقًا بأكثر المجالس لُحمةً ووحدة وتنسيقًا.
- تهدُف إيران عبر مقتل سُليماني في أن تضع نهايةً للنفوذ الأمريكي في المنطقة، وقد اتحدت تصريحات مسؤولي إيران وكل التابعين لها في خطٍ واحد وهو أنه لا بُد لأمريكا أن ترحل بقواعدها عن المنطقة وتُصفي كامل نفوذها فيه. وليس أدل على ذلك مما يحدث في العراق، سنجد عبر الرصد المستمر لمناطق القواعد الأمريكية التي باتت عُرضةً لهجمات بقذائف الكاتيوشا والهاون من حين لآخر والمصدر مجهول حسبما تُصرّح البيانات الإعلامية؛ ولكن على الأغلب إن لم يكن من المؤكد فإن المليشيات الإيرانية التي تملأ طول وعرض العراق -والتي عكف سُليماني على تنظيمها وإداراتها في قمع التظاهرات الشعبية بعدما نجح في إكسابها خبرة الحرب مع تنظيم الدولة- هي التي تقوم بتنفيذ تلك الهجمات في سياسة “ضغط أقصى” موازية تمارسها إيران عبر أجنحتها على الولايات المتحدة الأمريكية، وهي رسالة بعيدة المدى لدول الخليج قاصدين الإمارات والسعودية والبحرين.
- استُنزِفت قُوى السعودية والإمارات في صراعهم المفتوح مع جارتهم قطر -التي استُنزِفت هي الأُخرى- في محاولةٍ لتركيعها وإثنائها عن مواقفها المناهِضة لمواقفهما، كان الصراع محتدًا لدرجة أنه انساح إلى مجالات الاقتصاد والرياضة والمجتمع. هذا الاستنزاف كان يقابله على الضفة الأخرى من الخليج طرفٌ مُستنزَف هو الآخر على إثر حملة الضغط الأقصى التي كان تمارسها إدارة ترامب على ماليات إيران، ولكن كان هناك فارق شاسع ببن الطرفين وهو أن إيران كانت تُجنِب أذرعها إلى مدى بعيد هذا الاستنزاف وتُسخِر أكبر قدر من مادياتها لهذه الأذرع وتدعميها، وهو ما أتى أُكله في ما حققته المليشيات الشيعية تحت قيادة قاسم سُليماني من نجاحاتٍ في العراق وسُورية ولُبنان وإلى حدٍ كبير في اليمن.
- ومن ثمّ نستطيع أن نُصنِف دول الخليج من حيث علاقاتها مع إيران على الوضع الحالي إلى ثلاثة أقسام؛ وهم على انتمائهم لنفس المحيط فهم على النقيض كليًا في تعاملهم مع الجمهورية “الإسلامية”.
أ/ دائرة قطر وعُمان: وهي الأطراف الفاعلة مع إيران والتي تحتفظ بعلاقات جيدة وقوية معها، وتتسم العلاقات الاقتصادية بينهم بالمتانة والقوة. كما أن غالبية المواقف السياسية الخارجية بين قطر وعُمان من جهة وإيران من جهة أخرى لا تحمل صورة من صور التنافر أو الاختلاف. لا سيما قطر التي عضدت من اتصالها مع إيران عقب الحصار المفروض عليها منذ يونيو/ حزيران 2017، وأصبح عدو دول الخليج الأول هو الصديق الأقرب لقطر، وشهدت الشهور المتعاقبة تدعيم الاتفاقيات والعلاقات الثنائية بين البلدين والتوافق في العديد من رؤى السياسات والتوجهات الخارجية. وهاتان الدولتان ليستا من مصلحتهما قطعيًا التنافر مع إيران ومعارضتها على إثر ما ذكرناه سلفًا، بالإضافة إلى الدوافع الدبلوماسية لدى الجانب القطري في ظل الحصار عليها من قِبل أخواتها السعودية والإمارات والبحرين، وبالنسبة للجانب العُماني فهو لا يحتفظ بعلاقات جيدة من الأساس مع الإمارات أو المملكة السعودية.
ب/ دائرة الكويت والإمارات: تشهد العلاقة بين هذين الطرفين والطرف الإيراني الكثير من محطات الاستقرار التي تشوبها فترات للهبوط والتذبذب بين حينٍ وآخر، مع التوضيح أن الإمارات لا تنتمي لا لدائرة قطر وعُمان، ولا لدائرة السعودية والبحرين. سنجد في تلخيصٍ موجَز لوضع الإمارات أنها تؤمن أنها باتت أقوى من محيطها الخليجي ولكنها ليست أقوى من إيران، ولذلك تسعى في محاولاتٍ دائمة لاكتساب القوة وليس هذا فقط بل وتفعيلها19. استقدمت مايك هيندمارش قائد القوات المسلحة الأسترالية المتقاعد لتولي قيادة جيوش الإمارات وتدريب قوات النخبة خاصتها ورفع كفاءتها، وشرائها لصُنوف الأسلحة من كل لون ومن كل مكان، والإبقاء على قواعد أمريكية في أراضيها لحماية أراضيها عِوضًا عنها. وفي الوقت نفسه تحافظ على شراكة تجارية متميزة مع إيران تُقدر بــ 13 مليار دولار، تخلت عن جُزرها الثلاث ولا تفتح هذا الملف تحت أي صورة مع الجانب الإيراني. تحتاط لأبعد درجة أن تقع فريسة لأذرع إيران في المنطقة، ولا نستطيع أن نضع إطارًا محددًا لحربها مع الحوثيين، فالإمارات قد انسحبت من آتون المعركة في اليمن منذ أمدٍ بعيد بعدما أمنت مطامعها في الجنوب. وقد قطعت الإمارات العهود والمواثيق لطهران بعدم التدخل في المعترك اليمني، فضلًا عن الاتفاقيات التي جرت بينهما في شؤون الممرات البحرية كمياه الخليج ومضيق هرمز.
كما أن الإمارات شديدة الحساسية بالنسبة لوضعها الريادي الاقتصادي في المنطقة،20 وهي ستسعى بكل الطرق لإخماد نار أي حرب من الممكن أن تندلع قريبًا من ديارها على الضفة الأخرى من الخليج، لأن تلك النيران من الممكن أن تنسف اقتصادها وتدفع بالاستثمارات العملاقة للهروب. وهو ما سيجعلها تدعم علاقاتها مع طهران؛ تجنبًا لتعدد سُبُل أذيتها لها.
ج/ دائرة السعودية والبحرين: لن نستطيع الاعتداد بالبحرين نظرًا لقزامتها السياسية فكلٌ من إيران والسعودية ينظران إليها على أنها إحدى ولاياتهما ولا تعترفان بسيادتها تقريباً. ولكن إيران تنظر إلى السعودية بصفتها واحدة من ألد أعدائها نظرًا للأيديولوچية المذهبية الحاكمة في المملكة -سابقًا- والتي تناقض الأيديولوجية المذهبية في إيران بالكلية، ولكن لم يكن هذا السبب الوحيد الذي أجَج الصراع بين إيران والسعودية بل مجيء محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في المملكة السعودية، ومنذ مجيئه تغير كل شيء، وفي واحدة من محاولاته لاستدار الشرعية لسيطرته على ولاية العهد بطُرقٍ شائنة، وحصوله على سُدة الحكم مستقبلًا، فقد وضع نُصب عينيه إيجاد عدو، وكان العدو ممثلًا في إيران، ونجحت إيران بكل سهولة وبراعة في إغراق المملكة في مستنقع الشرق الأوسط والخليج، وألحقت الهزائم به في اليمن ولبنان وسُورية بل وحتى في الملفين القطري والعراقي. ولم تتوقف إيران عند هذا الحد بل استطاعت أذرعها في قصف عمق المملكة وتهديد أراضيها وأمنها، وضربت الذراع الرافعة لاقتصادها الريعي “شركة أرامكو” في هجوم واسع وسبّبت لها خسائر اقتصادية فادحة، وأصابت ناقلاتها في مياه الخليج والمضيق وحولت المياه إلى بركة نار هرعت دول العالم على إثرها في إرسال مقاتلاتها البحرية لتأمين حركة ناقلات النفط فيها حفاظًا على اقتصادياتهم، لم تنجح السعودية في إدارة ملفات الصراع مع إيران البتة، بل على العكس زاد سوء الإدارة هذا إيران قوة إلى قوتها ودفع لذيوع أمرها في المنطقة.
رغم سعادة السعودية باستئصال الولايات المتحدة لقوة فاعلة خاصة بإيران مثل قاسم سليماني -مع عدم علمها المسبق من قِبل الجانب الأمريكي بهذه العملية-، ولكنها ستضطر لتهدئة المناخ العام معها، والانسحاب أمامها في العديد من الملفات في محاولة لإيقاف عداد النقود والأنفس الذي يتساقط منها يومًا بعد آخر.
- لدى إيران ورقة ضغط ستضبط بها إيقاع علاقاتها مع دول الخليج، ولكنها ستضطرب في الكفة الأخرى مع دول الاتحاد الأوروبي، وهي ورقة المشروع النووي الذي ضربت به إيران تقريبًا عرض الحائط وأعلنت عدم التزامها ببنوده وأن الطريق بلا خطوط حمراء أمام تخصيب اليورانيوم وإنتاج الماء الثقيل. هذا المشروع هو التهديد الأكبر لدول الخليج قاطبةً ليس لتهديده العسكري فقط. بل أيضًا لخطره البيئي الذي تتخوف منه دول الخليج، التي لا تثق بنسبة كافية في قدرة إيران على إدارة منشآتها النووية بصورةٍ سليمة وصحيحة لأن شبح انفجار مفاعل فوكوشيما الياباني في مارس 2011 يطل برأسه في عقول الجميع، ومما قد أجَج التخوف الخليجي حادثة استهداف الطائرة الأوكرانية في أجواء طهران التي تَنُم عن مدى تخبُط وعشوائية الرد من قِبل الجانب الإيراني؛ هذا التخوف نابع من إيمان دول الخليج بأن مدنها ستتضرر بصورة أشد من مدن إيران نفسها في حالة حدوث أية كارثة بيئية ناجمة عن المنشآت النووية.
- في الأصل كانت السعودية والإمارات قُبيل استهداف سُليماني وتصفيته، تسعيان سعيًا حثيثًا وراء تهدئة العلاقات مع طهران بشكلٍ تام، وكانت الوفود والوسطاء لا سيما الطرف العراقي في رحلات رواح وغدوة، من السعودية والإمارات إلى طهران، والدليل الأبرز على ذلك ما قاله عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي السابق، في كلمته أن سليماني كان يحمل رد الجانب الإيراني على طلب التهدئة من قِبل الجانب السعودي وكان سيُسلمها للجانب العراقي. سنضع زيارة أمير قطر، تميم بن حمد، ووزير خارجيته في الحسبان، وهذا ما يُضفِّر لنا الرؤى حول أن الخليج بمختلف توجهاته يسعى للأمن ولإخماد نيران الحرب الوشيكة بين حينٍ وآخر، فقد أصبح مستقبل الأمن هو الشُغل الشاغل لدول الخليج قاطبةً، لعلمها أنها ستكتوى بنيران الحرب حتى لو لم تُطلَق رصاصة واحدة على أراضيها. لأن الاستثمارات الخاصة بكُبريات الشركات العالمية في شتى المجالات لن تمكث في أراضٍ تحيطها النيران، ومن ثمّ فمستقبل العلاقات الإيرانية الخليجية سيميل إلى الهدوء والاتزان لحدٍ كبير.
سياسات الاضطراب حتى التدمير التي طالت منشآت وناقلات وأفراد وطوَقت منطقة الخليج، ورسمت خط العلاقات بين الخليج من جهة وإيران من جهةٍ أخرى، وأثرت على الأسواق العالمية وأمن المضائق والمياه قد يميل في صالح كفة الهدوء والاتزان، بعد أن استمر لسنوات في صالح كفة الاضطراب والاتجاه للحرب.
المصادر
- تفاصيل مقتل قاسم سليماني.. كيف طالته القذائف الأميركية؟، سكاي نيوز عربية، 3 يناير 2020، الرابط
- تطلق شفرات حادة تمزق أهدافها وقادرة على تدمير دبابة! هذه الصواريخ المتطورة التي قتلت سليماني، عربي بوست، 4 يناير 2020، الرابط
- سعيد حارب، ورقة بحثية “مؤثرات في العلاقات الخليجية الإيرانية”، كتاب “العلاقات العربية الإيرانية في منطقة الخليج”، منتدى العلاقات العربية والدولية، الطبعة الأولى 2015.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- لقاء مكي، ورقة بحثية “مستقبل الخليج العربي في ضوء العلاقات العربية الإيرانية”، كتاب “العلاقات العربية الإيرانية في منطقة الخليج”، منتدى العلاقات العربية والدولية، الطبعة الأولى 2015.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- الرابط
المركز الفرنسي لمكافحة الإرهاب| كيف تستفيد إيران من مقتل سليماني؟ سيناريوهات ما بعد الرد، شبكة رؤية الإخبارية، 13 يناير 2020، الرابط - المصدر نفسه.
- مسيرة قتال بدأت وانتهت بالعراق.. إليكم مهمات حاسمة قام بها الجنرال قاسم سليماني، الجزيرة نت، 3 يناير 2020، الرابط
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- الرابط
- المصدر نفسه.
رابط المصدر: