لم يكن غريبًا أن يطلق وباء كورونا 19 موجة واسعة النطاق من الجدل حول مستقبل العالم الحديث والمؤسسات والأنظمة التي ترتكز إليها المنظومة الدولية. هذا وباء غير مسبوق، على الأقل من جهة وعي الإنسان والمجتمعات به. تعرف الذاكرة البشرية أوبئة أكثر شدة وضراوة، من طاعون منتصف القرن الرابع عشر إلى الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1920. ولكن لا وسائل الاتصال، في حقب الأوبئة السابقة، كانت بالسرعة واللحظية التي تتسم بها اليوم، ولا توقعات الإنسان من دولته كانت بالمستوى التي هي عليها الآن. خلال أسابيع من انتشار فيروس كورونا 19 خارج الصين، بدأ عشرات، بل مئات الملايين من البشر يعيشون انتشار الوباء، ووقعه، وأثره الإنساني والاجتماعي والاقتصادي في معايشة ومعاينة واقعية ملموسة.
مع العاشر من أبريل/نيسان 2020، كان الوباء قد أصاب ما يزيد عن المليون ونصف المليون شخص (مع وجود إصابات أكثر بكثير من ذلك لم تُفحص بعد، ولم تُدرج بالتالي في الأرقام الرسمية)، قتل ما يزيد عن 100 ألف من المصابين، وعصف بالحياة الإنسانية كما لم تعصف بها رياح الحروب. وبالرغم من أن نصف الكرة الشمالي يبدو الأكثر تأثرًا حتى الآن، بلغ عدد الدول التي أعلنت عن وجود حالات مرضية ما يزيد عن 200 دولة. ثلث هذه الدول، على الأقل، أعلن منذ النصف الأول من مارس/آذار، دولة بعد الأخرى، عن إغلاق كامل، أو شبه كامل، للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، وعن تطبيق قواعد صارمة للابتعاد الاجتماعي، أملًا في محاصرة الوباء. مدن كبرى في شرق العالم وغربه، من إسطنبول، ولندن، وباريس، إلى نيويورك، كانت تعج بالحياة وترسم صورة عالم القرن الحادي والعشرين، تحولت إلى مدن شبه صامتة، مغلفة بالخوف والقلق وفقدان اليقين.
فأي عالم سيولد من بعد الوباء؟ يتساءل علماء السياسة والتاريخ والفلسفة والعلاقات الدولية، خلال الأسابيع القليلة الماضية. هل سيشهد العالم، والنظام الدولي، تغييرًا إلى الأفضل، أم أن البشرية ستعود إلى ما كانت عليه بعد انتهاء مخاوف الوباء؟ إلى أي حد يمكن للوباء أن يعيد تشكيل مؤسسة الدولة: علاقة الدولة بشعبها، وعلاقاتها ببعضها البعض؟ وما النمط الاقتصادي الذي يمكن أن يؤسِّس له الوباء، الذي لم يعد ثمة شك في أنه يجر العالم إلى كساد اقتصادي ثقيل الوطأة؟ ما مصير العلاقات العولمية التي أخذت في التجلي بصورة متسارعة منذ تسعينات القرن الماضي: أليس الوباء نفسه شاهدًا مأساويًّا على وحدة العالم والمساواة بين شعوبه؟
هذه بعض القضايا الكبرى، التي تحتل صفحات الجدل حول عالم ما بعد الوباء، والتي سيجري التعرض لها في النقاش التالي. ولكن، وقبل تناول هذه القضايا، ينبغي ربما محاول استقراء ما بات معروفًا وما لم يزل غير معروف عن اتجاه الوباء، كما استقراء علاقة الوباء بالعالم، بدول العالم وشعوبه.
لسنا معًا ولسنا سواسية أمام الوباء
ليس ثمة ميكروب وبائي تمكن العلم من التعرف عليه بصورة كاملة ويقينية بعد. فيروس الإنفلونزا، الذي تسبب في وباء الإنفلونزا الإسبانية، لم يزل محل دراسة حتى اليوم، بعد مرور أكثر من مئة عام على وقوع الوباء. ولكن المؤكد أن العلم استطاع تقديم إجابات يمكن الثقة بها بدرجة عالية على الأسئلة الرئيسة المتعلقة بالأوبئة التي شهدها العالم الحديث. مشكلة كوفيد- 19 وفيروس كورونا المستجد، المسبِّب له، أن عددًا من الأسئلة الرئيسة المتعلقة به لم تتم الإجابة عليها بعد، بأي مستوى من الثقة.
المؤكد، مثلًا، أن الصين تعرفت على أول حالة مرضية من الوباء في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (2019) (وليس في نهاية ديسمبر/كانون الأول، كما أعلن الصينيون). ولكن التعرف على حالة مرضية وعزل الميكروب المسبِّب لها لا يعني أن الميكروب لم يكن موجودًا بين البشر قبل ذلك، ربما لأشهر طويلة، بهذا القدر من الأعراض أو ذاك، أو حتى بدون أعراض. فمنذ متى انتقل الفيروس من الحيوان إلى الإنسان؟ ومتى اكتسب القدرة على الانتقال الوبائي من إنسان إلى آخر؟ الإجابة على هذا السؤال قد توفر معطيات ما لنسبة البشر الذين سبق أن أُصيبوا بالفيروس واكتسبوا مناعة ضده، سيما بعد أن أشارت عينة معتبرة ممن أُجري عليهم فحص المناعة في أيسلندا إلى أن خمسين بالمئة ممن فُحصوا يتمتعون بالفعل بمناعة ضد الفيروس، بدون أن تظهر عليهم الأعراض المعروفة للمرض.
ويتعلق أحد الأسئلة المهمة الأخرى بما إن كان كورونا 19، كما فيروسات كورونا الشائعة الأخرى (التي تتسبب بنزلة البرد)، وفيروس الإنفلونزا، تتأثر بارتفاع درجة الحرارة وازدياد ساعات النهار خلال أشهر الربيع والصيف. إن كانت الإجابة بنعم، فلابد أن يكون كورونا 19 هو الآخر موسميًّا؛ بمعنى أن يتسارع انتشاره في الشتاء وينحسر في الصيف. فإلى أي حدٍّ يمكن للمجتمعات التي عصف بها الوباء أن تكتسب جدارًا مناعيًّا كافيًا قبل حلول موسم الشتاء المقبل؟ وهل هذا يعني أن شدة الوباء ستنتقل إلى نصف الكرة الجنوبي، حيث تنخفض درجة الحرارة في الشهور المقبلة؟ وهل يمكن للمناعة ضد الفيروس أن تستمر أشهرًا، أو سنة على الأقل، كما هي الحال مع أصناف فيروسات الإنفلونزا الأخرى؟
السؤال الآخر يتصل بما إن كان علماء الفيروسات والدواء سينتهون سريعًا إلى التعرف على العقار الأفضل للتعامل مع كوفيد 19، على الأقل لتخفيف أعراضه. وإلى أي حد تقدمت الجهود للتوصل إلى لقاح للوقاية من العدوى؟ وهل يمكن بالفعل أن يكون هناك لقاح فعال في الربيع المقبل؟ في نهاية الأمر، وكما أي وباء فيروسي آخر، ليس من الممكن محاصرة الوباء بدون تطور جدار مناعي فعال بين أغلب السكان؛ ولا يتطور هذا الجدار بدون انتشار للمرض بين أغلب السكان، ومن ثم اكتساب الناجين للمناعة، أو توافر اللقاح القادر على بناء هذه المناعة بدون التعرض للمرض.
هذه، ربما، أبرز الأسئلة التي يمكن أن تساعد إجاباتها على توقع زمن استمرار الوباء عبر العالم: ضراوة المرض وقدرته على الفتك بضحاياه، والطريق الأسلم للتعامل مع الوباء في المجتمعات المختلفة. ولكن، وحتى يستطيع العلم الإجابة على هذه الأسئلة، يمكن القول: إن فيروس كوفيد 19، الذي أخذ في التحول إلى وباء عالمي منذ نهاية يناير/كانون الثاني، سيستمر في العصف بالمجتمعات البشرية لعدة أشهر قادمة على الأقل. وحتى إن أمكن السيطرة على الوباء في فصل الصيف، فليس ثمة ما يمنع من عودته في موجة أخرى في الشتاء المقبل.
هذا الوباء، إذن، يمثل بالتأكيد أزمة عالمية الطابع، لن تستثني دولة ومجتمعًا. ولكن، وبينما ترتفع الأصوات بأن البشرية في هذه الأزمة معًا، وأن الوباء يتعامل مع المجتمعات الإنسانية بدون تفضيل أحدها على الآخر، يبدو الواقع مختلفًا إلى حد كبير.
هناك دول أعلنت بالفعل ميزانيات هائلة للإنفاق على مؤسساتها الصحية، على رعاية قواها العاملة التي فقدت عملها بفعل الوباء، ولإنقاذ الشركات والمصانع والخدمات التي تأثرت بفعل الإغلاق الكلي أو الجزئي. وحتى في الدول الغربية التي طالها الوباء بقسوة غير متوقعة، يبدو أن المرض أكثر فتكًا بأبناء الطبقة العاملة والفقراء وأبناء الأقليات، أكثر منه بالنخب وأبناء الطبقات العليا. وهناك، في الوقت نفسه، دول لا تملك أية مؤسسات صحية فعالة، بأية صورة من الصور، ولا تستطيع تبني سياسات إنفاق واسع النطاق، ولا حتى بمستويات أقل بكثير من الدول الغنية. والمشكلة، بالطبع، أن قلة ممن يستطيع، قلة قليلة جدًّا، بادرت إلى مد يد العون لمن لا يستطيع.
الحقيقة، أن الأشهر القليلة الماضية من الوباء شهدت ارتفاع مستوى الأنانية والانكفاء القومي في أكثر تجلياته انغلاقًا. أغلب دول العالم المنتجة للأدوات والمواد الصحية والطبية، بما في ذلك الولايات المتحدة، أحد أكبر المنتجين، أوقفت الصادرات بدون تصريح حكومي. وفي حالات، قامت دولة ما بالسيطرة على شاحنات كانت في طريقها إلى دولة أخرى. وباستثناء بعض المساعدات التي منحتها الصين وتركيا وقطر ودول قليلة لعدد من الدول الأخرى، ليس ثمة دليل على قيام الدول الثرية بتقديم معونات ضرورية للدول الفقيرة. وحتى ضمن الاتحاد الأوروبي، المنظمة الإقليمية الأكثر فعالية ورفاهًا في العالم، تشتكي الدول الأكثر تأثرًا بالوباء، مثل إيطاليا وإسبانيا، من غياب وشائج التضامن بين دول الاتحاد، بينما تتصاعد الانتقادات من دول الشمال الأوروبي لشركائها في الجنوب، لضعف بنية الأخيرة المالية وتزايد المؤشرات على عجزها عن مواجهة الآثار الاقتصادية للوباء.
وربما كانت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي، بتاريخ 5 أبريل/نيسان، التي أكد فيها رفض حكومته تبني سياسة الإغلاق، دليلًا صارخًا على تباين قدرات دول العالم على مواجهة الوباء. قال آبي أحمد: إن أغلبية العاملين في بلاده يعتمدون على عملهم ودخلهم اليومي للبقاء، وإن الإغلاق يعني إنقاذهم من الكورونا لإماتتهم من الجوع. وليس مثل أزمة الركود الاقتصادي العالمي كاشفًا لمصائر الأمم والدول المختلفة في عالم ما بعد الوباء.
كساد عظيم وانحسار متزايد للاقتصاد النيوليبرالي
كان محرر الغارديان الاقتصادي، لاري إيليوت، في 20 مارس/آذار، من الأوائل الذين توقعوا انكماشًا حادًّا في الاقتصاد العالمي بفعل الطابع الوبائي لكوفيد 19. وخلال أسابيع قليلة، أكدت مؤسسات مالية دولية وخاصة، بما في ذلك صندوق النقد والبنك الدوليين، أن الاقتصاد العالمي دخل بالفعل مرحلة من التراجع الاقتصادي، وأن تفاقم الأوضاع قد يجر العالم إلى كساد اقتصادي يفوق أزمة 2008/2009، وربما حتى كساد 1929 الشهير.
المؤكد، بخلاف أزمات 1929، و1987، و1998، و2009، أن تدهور الاقتصاد العالمي هذه المرة لم يولد في منطقة معينة من العالم، ولا بفعل عامل اقتصادي/مالي محدد. التدهور، هذه المرة، عالمي الطابع، يطول كافة الاقتصادات الكبرى، المتوسطة، والصغيرة. وطالما أن أحدًا لا يمكنه توقع مسيرة الوباء، وأثره على كل دولة على حدة، ولا كيفية محاصرته، فإن وقع الوباء الاقتصادي لم يزل محل جدل. ثمة من يقول: إن دولًا، مثل الصين، نجحت في محاصرة الوباء بصورة مبكرة، وهي في طريقها لاستعادة معدلات الإنتاج السابقة على انتشار الوباء؛ ودولًا، مثل السويد ودول نصف الكرة الجنوبي، التي تجنبت الإغلاق الكلي أو الجزئي؛ ستكون أقل تأثرًا بالأزمة الاقتصادية. ولكن الأرجح أن هذه الحسابات ليست صحيحة تمامًا.
المشكلة، أن الوباء أصاب العملية الاقتصادية على مستوى العالم بكافة مراحلها: الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك. كما أن التعقيد المتزايد في شبكة التوزيع والإمداد، التي يرتكز إليها الاقتصاد العالمي، تجعل بنية هذه الشبكة أكثر هشاشة. لجأت القوى الكبرى، سيما بعد نهاية الحرب الباردة، إلى هذا التعقيد باعتباره دافعًا للاعتماد المتبادل بين الدول ووسيلة فعالة لمنع الحرب، طالما أن قطاعات هائلة من السلع والمنتجات تقوم على مواد وقطع تُصنَّع في عديد من الدول وليس في دولة واحدة. ولكن، كلما ازداد تعقيد منظومة اقتصادية ما، أصبح من الصعب إصلاحها إن توقفت أو أصابها الخلل. وبتصاعد مستوى التوتر بين الاقتصادات الكبرى، فإن المتوقع أن تصبح عملية الإصلاح أكثر صعوبة.
عمومًا، وباستثناء المواد الطبية والصحية والصناعات الغذائية، فإن عودة عجلة الإنتاج في بلد ما لطبيعتها لا يعني الكثير، طالما أن وسائل النقل والتوزيع لا تعمل، وأن المستهلك أحجم عن الاستهلاك. ما يجعل التدهور الاقتصادي أكثر تفاقمًا، أن الوباء تسبب في تراجع غير مسبوق في قطاع الخدمات، من السياحة والنقل الجوي، والتعاملات المالية، إلى المقاهي والمطاعم.
ولم يكن غريبًا بالتالي أن تطلق نذر الأزمة الاقتصادية، وردود فعل دول الاقتصادات الكبرى عليها، جدلًا واسع النطاق حول مصير النمط الاقتصادي النيوليبرالي، الذي صعد بصورة حثيثة منذ الثمانينات ليتحول إلى الإطار المرجعي للسياسات الاقتصادية عبر العالم. وُلد النموذج النيوليبرالي من أوساط مجموعة من علماء الاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة، كانت تلتقي بصورة منتظمة منذ بداية الحرب الباردة، لتفكر في طرق مواجهة الخطر الشيوعي على العالم. ولكن لم تصبح سياسات حرية السوق، وتراجع دور الدولة، وخفض الإنفاق العام، واقعًا ملموسًا في الساحة الدولية إلا بعد أن تبنتها دول مثل الولايات المتحدة، تحت إدارة ريغان، والمملكة المتحدة، تحت حكومة تاتشر، وبينوشيه في تشيلي، وأوزال في تركيا. بانهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، اكتسب النموذج النيوليبرالي جاذبية عالمية، ليصبح النمط الاقتصادي الأرثوذوكسي الجديد.
الحقيقة، أن هيمنة النموذج النيوليبرالي على السياسات الاقتصادية لم يستمر طويلًا، سيما في الدول التي كانت أول من روَّج له. خلال أزمة 2008/2009، واجهت حكومة غوردون براون في بريطانيا الأزمة بحزمة إنفاق كبيرة وبخطوات لتأميم مؤسسات متعثرة والعودة إلى سياسات الاقتراض، معلية ما عُرف حينها بالكنزية الجديدة. ولمساعدة الاقتصاد الأميركي على الخروج من الركود الاقتصادي، تبنَّت إدارة أوباما سياسة التيسير الكمي (أي بكلمة أخرى: طباعة المزيد من أوراق النقد) وبرامج إنفاق هائلة لإصلاح البنية التحتية عبر الولايات المتحدة. وكذلك فعلت حكومة أردوغان الأخيرة وحكومتا داود أوغلو في تركيا. أما تشيلي، فكانت قد تخلت عن النمط النيوليبرالي منذ أزمة نهاية التسعينات.
بيد أن هذه المتغيرات في السياسات الاقتصادية لم تتصف بالاستدامة ولا هي شكَّلت موجة عالمية. حكومات المحافظين المتتالية في بريطانيا، عادت إلى النمط النيوليبرالي منذ 2010؛ كما عادت تركيا إلى تقليص الإنفاق العام بعد الضغوط التي تعرضت لها الليرة التركية في 2018. المؤكد الآن، وفي ضوء حزم الإنفاق والدعم المالي الهائلة التي أعلنت عنها بريطانيا، والولايات المتحدة، وألمانيا، وعدد من الدول الغربية والآسيوية الأخرى، وبدرجة أقل، تركيا، أن علامات استفهام كبيرة بدأت في الظهور حول مصير الاقتصاد النيوليبرالي.
خلال أشهر الأزمة القاسية، وضعت الشعوب ثقتها في الدولة لحمايتها من الخطر الداهم، وفي أغلب دول النموذج الليبرالي، ثمة مؤشرات متزايدة إلى أن الحكومات لن تعبأ كثيرًا بعد اليوم بتصاعد حجم الدَّيْن العام، وارتفاع معدلات التضخم، أو عجز الميزانية. ما يعزز من توقعات انحسار هيمنة النيوليبرالية الانكشاف الصارخ للخدمات العامة، والخدمات الصحية على وجه الخصوص، سيما في الدول الغربية الرئيسة، بفعل تقلص الإنفاق العام طوال عقود.
المشكلة، بالطبع، أن هناك تباينات واضحة في قدرات وطرق تعامل دول العالم المختلفة مع نذر الأزمة الاقتصادية. تستطيع الدول التي تملك احتياطيات مالية كبيرة، أو عملات ذات جاذبية دولية، أو بنية اقتصادية دينامية، مثل: الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول اليورو، والصين، واليابان، ودول النفط العربية، وتركيا، تحمل أعباء حزم الإنفاق الحكومي الكبيرة لمواجهة عواقب الوباء، والنهوض بالعملية الاقتصادية بعد انحساره، بما في ذلك تبني سياسة التيسير الكمي. بيد أن دولًا أخرى مثقلة بالديون أصلًا، أو ذات بنية اقتصادية هشة، مثل: مصر، ولبنان، ومعظم دول المغرب العربي، والعديد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، سيصعب عليها التوجه نحو المزيد من الاقتراض، أو طباعة المزيد من أوراق النقد ومواجهة معدلات تضخم متزايدة.
المشكلة الأكبر في حالة المجموعة الثانية من الدول أن الجدل حول مصير الاقتصاد النيوليبرالي يكاد يغيب كلية عن الساحة السياسية والأكاديمية، إما لأن طبقة رجال الأعمال في هذه الدول أصبحت شريكًا رئيسًا في نظام الحكم، أو لأن هذه الدول لا تتمتع بالحرية الفكرية والسياسية الضرورية لفتح النقاش حول تغيير جذري في النموذج السائد. في دول هذه المجموعة، سيكون وقع الأزمة الاقتصادية أفدح أثرًا وأطول زمنًا بالتأكيد. وليس من المستبعد في لحظة ما أن تشهد هذه الدول انفجارًا هائلًا لسؤال الشرعية السياسية.
يوتوبيا العولمة
ارتبطت فكرة العولمة من البداية بالنموذج الاقتصادي النيوليبرالي؛ ومثله، كانت ولادتها الأولى في أميركا وبريطانيا. حتى المصطلح نفسه وُجد أولًا في اللغة الإنجليزية، وكان على اللغات الأوروبية الأخرى إبداع اشتقاق لغوي جديد لترجمته. وكما الاقتصاد النيوليبرالي، وجدت فكرة العولمة رواجًا بعد انتصار الغرب في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات، معززة بادعاءات نهاية التاريخ وحسم الصراع لصالح الليبرالية الغربية، والديمقراطية، وحرية الفرد. ما حملته العولمة، التي ظلت على الدوام مفهومًا أقرب إلى الغموض، من وعود، تتعلق أساسًا بحرية انتقال الأفراد والمال والبضائع والأفكار عبر العالم، وانحياز المجتمعات البشرية المطَّرد لصالح الثقافة الغربية بكافة أبعادها. ولكن هذه الوعود لم تتحقق بصورة منتظمة ودائمة، حتى من قبل الدول التي روَّجت لفكرة العولمة وأسست لمقولاتها الرئيسة؛ وهو ما أدى إلى تصاعد الشكوك حول ما إن كان المقصود بالعولمة، حقيقة، سيطرة الكتلة الغربية الأطلسية على مصائر المجتمع الإنساني، ماديًّا وثقافيًّا وروحيًّا.
بانتشار الوباء، انطلقت التوقعات بنهاية العولمة. أغلقت أغلب دول العالم حدودها، وضعت قيودًا متزايدة على حركة البشر والبضائع، سنَّت تشريعات مقيدة للحريات، تبنَّت سياسات مختلفة لمواجهة الوباء، وتبادلت الاتهامات حول المسؤولية عن بروز الفيروس أو انتشاره. الفيروس وحده من بات يتمتع بحرية الحركة الكاملة وتجاوز الحدود والقوانين والأنظمة. إن كان من الصحيح التوقع، كما هي تجارب الأزمات الكبرى من قبل، بأن نهاية الوباء أو انحساره لن تعني بالضرورة نهاية كافة الإجراءات الطارئة التي فرضها، فلابد أن العالم يشهد الآن بالفعل نهاية يوتوبيا العولمة والوعود التي بشرت بها. بيد أن المشكلة في جدل العولمة أنه لا يفرِّق بين مستويين أساسيين: الأول: يتعلق بالأدوات والوسائل التي عملت، ولم تزل تعمل، على تسارع معدلات النقل والاتصال والحركة، سواء للبشر، للمعاملات، أو للنصوص والفنون. والثاني: يتعلق بفكرة هيمنة تصور واحد للعالم على المجتمعات البشرية كافة، بغضِّ النظر عن المواريث والقيم والمعتقدات الخاصة بكل جماعة أو أمة.
في المستوى الأول، ليس ثمة ما يشير، بوجود الوباء أو غيابه، أن البشرية ستتخلى عن وسائط النقل الجوي والبري والبحري السريعة، التي تطورت بصورة مطردة، منذ دخول الآلة البخارية إلى وسائط النقل في منتصف القرن التاسع عشر. لن يتخلى العالم عن الإنترنت، والهاتف الذكي، وتطبيقات البنوك، ولا عن أمازون، رمز العولمة التجارية الأبرز. دولة ما لن تستطيع منع كتاب ما، طالما أن تحميل الكتاب على الإنترنت لا يحتاج سوى دقائق، ولا حظر خبر ما، طالما أن الأخبار، صحيحها وزائفها، تنتقل على الفيسبوك وتويتر بأقل قيود ممكنة. أما في المستوى الثاني، فإن التشققات في جدار العولمة لم تكن خافية منذ اليوم الأول لولادة الفكرة. رحبت أغلب دول العالم، بما في ذلك دول الاقتصادات الكبرى، بحركة المال والاستثمار، ولكنها رفضت القبول بحرية حركة البشر. حتى دول الاتحاد الأوروبي، التي مثَّلت التعبير الأكثر جاذبية لفرضيات حرية الحركة والانتقال، سرعان ما واجهت ردود فعل داخلية ملموسة على هجرة العمالة بين الدول، تصاعدت إلى أن صوَّتت بريطانيا في استفتاء 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وما أن تولت إدارة ترامب مقاليد البيت الأبيض، حتى بدأت سلسلة إجراءات للتخلي عن، أو إعادة النظر في عضوية منظمات حرية التجارة الإقليمية، وقواعد التجارة السابقة مع الصين ومع الشركاء الغربيين في نصف الكرة الغربي وفي أوروبا، وفرض قيود صارمة على الهجرة للولايات المتحدة.
ما قد ينجم عن الوباء هو إحداث المزيد من التشققات في أطروحة العولمة، وإعادة التوكيد على سلطة ومصالح الدولة القومية، وقيمها الخاصة بها، الاتجاه الذي أخذت بوادره في الظهور منذ سنوات قبل الوباء.
علاقة الدولة بشعبها وببقية الدول
وُلد مفهوم سيادة الدولة بعد وستفاليا في 1648؛ ولكن الدولة لم تبدأ بالتحول إلى مؤسسة مركزية للسيطرة والتحكم إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وقد شهد القرن التاسع عشر وبداية العشرين، نضوج مؤسسة الدولة وتحولها إلى وحدة النظام الدولي الأساسية، وتحولها، شيئًا فشيئًا، من أداة لتعظيم القوة والمقدرات إلى هدف بحد ذاته، وفي حالات إلى إله علماني بالغ السطوة.
في الدول الدستورية والديمقراطية، ذات البنية القانونية الصلبة، استُخدم التشريع لتعزيز قدرات الدولة التحكمية والتنظيمية والرقابية. وفي الدول الديكتاتورية، لم تكن ثمة حاجة للقانون أصلًا لتحقيق الأهداف ذاتها. وليس مثل فترات التأزم، والحرب، والتهديد، الحقيقي والمتصور، فرصة لإعادة توكيد سيطرة الدولة وتحكمها؛ نظرًا لتراجع مقاومة المجتمع أمام زحف الدولة وصعودها خلال هذه الفترات. وقد شهد العالم خلال القرن الماضي شيئًا من العلاقة الجدلية بين مستوى قوة مؤسسة الدولة وسيطرتها، من جهة، وبين فترات التأزم والحرب والتهديد، من جهة أخرى، عندما تصبح الدولة محل تطلع الشعب لحمايته من المخاطر.
واجب الدولة الأول هو حماية شعبها من الخطر؛ والمعتاد خلال فترات الأزمات أن تلجأ الدولة، وبرضى وقبول شعبي، في أغلب الأحيان، لاكتساب سلطات استثنائية. ولكن التجربة التاريخية تكشف أن نهاية فترات التأزم والحرب والتهديد لا تعني تخلي الدولة عن كافة السلطات الاستثنائية؛ بل تقوم دائمًا بالاحتفاظ ببعضها. وهكذا، تخرج مؤسسة الدولة من فترات الأزمة أكثر قوة وقدرة على السيطرة والتحكم؛ ويزداد، بالتالي، اعتماد الشعب عليها وتطلعه لقدراتها الحمائية في فترة التأزم والحرب والتهديد المقبلة.
ولا يوجد ثمة شك في أن بعضًا من السلطات التي منحتها مؤسسة الدولة لذاتها لمواجهة الوباء خلال الشهور القليلة الماضية، والأخرى التي يمكن أن تكتسبها إن طال أمد الوباء، سيجري التخلي عنها بعد نهاية الأزمة الصحية التي تطبق على معظم دول العالم. ولكن المؤكد أيضًا أنه لن يتم التخلي عنها كلية. إن معظم السلطات الرقابية التي اكتسبتها مؤسسة الدولة بعد ما عُرف بسنوات الحرب على الإرهاب، سيما في مجالات الانتقال والسفر والتعليم واستخدام التقنيات الحديثة، لم تزل سارية. في كلمات بالغة الدلالة، قال وزير الخارجية الألمانية السابق، الاشتراكي الديمقراطي، سيغمار غابرييل: “عملنا، طوال ثلاثين عامًا، على التقليل من شأن الدولة”، مشيرًا إلى أن الأجيال القادمة لن تكون بهذه السذاجة.
بيد أن الوباء يوفر فرصة أخرى لإعادة التوكيد على دور الدولة، ببعدها القومي الحصري، على المسرح الدولي. الحقيقة، أن الوباء حمل معه دلالات متناقضة على صعيد العلاقة بين الدول. فمن ناحية، كشف الوباء أن دولة واحدة، مهما بلغت من قوة وتمتعت بمقدرات، لا تستطيع مواجهة أزمة ذات طابع عالمي، بما في ذلك الأزمات الناشئة عن الأوبئة والتدهور المناخي وتوقف عجلة الاقتصاد العالمي. ومن ناحية أخرى، يعيد الوباء توكيد النزعة الصراعية للدولة القومية، واندفاعها لخوض منافسات غير أخلاقية وغير إنسانية، في كثير من الأحيان، للحصول على الأدوات والمواد الصحية والطبية الضرورية لمكافحة الوباء.
وبالرغم من الاتصالات التي وقعت بين قادة الدول الكبرى، بما في ذلك الاجتماع عن بُعد لقادة دول مجموعة العشرين، إلا أن الواضح أن مكافحة الوباء تجري على أساس قومي، وأن ليس ثمة أي مستوى من التنسيق الدولي، لا فيما يتعلق بالتعرف على العلاج الأفضل للمرض، تطوير لقاح ضد فيروس كوفيد-19، أو التوافق حول جملة الإجراءات الاقتصادية التي لابد أن تُتخذ على مستوى دولي لاحتواء العواقب المتوقعة للوباء. ومن المتوقع، بعد انحسار الوباء، أن تلجأ الدول إلى التوكيد على خيارات الاكتفاء الذاتي في الحاجات الضرورية للأمم، وأن تنحسر بالتالي مقولات الاعتماد المتبادل.
أسهمت نهاية الحرب الباردة، والتوسع المستمر في نطاق وعمل المنظمات الإقليمية، وبروز الشركات الهائلة العابرة للحدود (التي عُرفت خطأ بالشركات متعددة الجنسية)، وجاذبية خطاب العولمة، في ولادة اعتقاد بانحطاط الدولة القومية وتقلص أهميتها ودورها. ولكن السنوات العشر الأخيرة أظهرت أن المراهنة على تراجع الدولة القومية كانت متسرعة إلى حدٍّ كبير. وقد كشف صعود قوى اليمين القومي إلى السلطة في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، والتراجع الحثيث في قوة وفعالية العديد من المنظمات الإقليمية، و فوز برنامج “أميركا أولًا” في انتخابات الرئاسة، أن حسابات تراجع الدولة القومية لم تكن صحيحة أصلًا. ولم تلبث التدافعات التجارية الحادة، بين دول الاقتصادات الكبرى، أن أظهرت الحجم الحقيقي للشركات العابرة للحدود، وأنها في النهاية شركات ذات أصول قومية، يصعب عليها التمرد على الدولة الأم وقرارها.
ما يصنعه الوباء هو التوكيد على اتجاه “عودة الدولة” إلى مسرح العلاقات الدولية، الذي انطلق بصورة حثيثة منذ عقد على الأقل.
تحولات جيوسياسية حاسمة؟
يتعلق أحد أبرز جوانب الجدل حول عالم ما بعد الوباء بمقولة التراجع الأميركي وصعود الصين كقوة قائدة لنظام دولي جديد. إن أُخذت البيانات الصينية الرسمية على ظاهرها، يبدو أن الصين استطاعت التحكم في الوباء بصورة مبكرة، وبأقل خسائر ممكنة، بالرغم من أن أدلة متضافرة تشير إلى أنها منبع الوباء. اتخذت بكين إجراءات سريعة وقاسية لعزل المدن والمقاطعات، نقلت عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الصحي، من منطقة إلى أخرى، للتعامل مع المرضى، وبادرت إلى تجربة العديد من الأدوية لتخفيف أعراض المرض.
بذلك، عادت معظم المقاطعات الصينية إلى الحياة الطبيعية، أو ما يقاربها، منذ الأسبوع الأول من أبريل/نيسان، وبخسائر إنسانية واقتصادية طفيفة، مقارنة بحجم البلاد وحجم اقتصادها. وبعد أن كانت تقارير الوباء الصيني تثير الرعب في أنحاء العالم الأخرى، بدأت الحكومة الصينية تبيع المعدات الصحية والطبية للدول الأخرى بمئات الملايين من الدولارات، وترسل المساعدات الرمزية لأصدقائها ولدول تعاني من الوباء. طبقًا لهذه الصورة، يتوقع أن تكون الصين أولى الدول الناهضة من أعباء الوباء الثقيلة؛ وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية بين أكثر الدول تأثرًا بالوباء، اقتصاديًّا وإنسانيًّا، ليس من المستبعد أن تصبح أزمة كوفيد-19 العالمية المنعطف الحاسم لصعود الصين النهائي: الصعود الاقتصادي، ومن ثم العسكري والسياسي.
الحقيقة، أن التوقعات بارتفاع الدخل القومي الصيني إلى ما يساوي، أو ربما يفوق قليلًا، الدخل القومي الأميركي مع نهاية العقد الثالث لهذا القرن، سبقت اندلاع الوباء. ما سيفعله الوباء، ربما، ليس سوى تسريع عجلة النمو المطرد للدخل القومي الصيني. ولكن حتى هذا لابد أن يكون محل شك. فالواقع أن معظم الدول التي طبقت سياسة الإغلاق، بما في ذلك تركيا، لم تغلق القطاع الصناعي الإنتاجي كلية، سوى المصانع التي لم يعد ثمة طلب ملح ٌّعلى إنتاجها، مثل صناعة السيارات. بمعنى، أن عودة الصين السريعة للحياة الطبيعية قد لا تحمل بحدِّ ذاتها تفوقًا فوق العادي عن منافسيها الغربيين. كما أن ضعف الطلب بصورة عالمية، والاضطراب الهائل في شبكات النقل والإمداد والاعتماد المتبادل بين الدول، يعني أن أعباء الوباء ستطول الجميع، سواء المنتجون أو الأقل إنتاجًا.
ولكن، حتى إن افتُرض أن الوباء سيسرِّع من عجلة الصعود الصيني الاقتصادي، فإن تحقق مستوى عال من الاكتفاء والرفاه يتطلب النظر إلى الدخل القومي للفرد، وليس مستوى الدخل القومي وحسب. مستوى الرفاه في دولة من مليون شخص، يبلغ دخلها القومي عشرة ملايين من الدولارات، ليس مثل ذلك الذي تتمتع به دولة أخرى بنصف مليون من السكان وبذات الدخل القومي.
الملاحظ، بالتأكيد، أن الولايات المتحدة أظهرت، منذ تولي إدارة ترامب مقاليد البيت الأبيض، انكفاء قوميًّا صارخًا، وتخليًا نسبيًّا عن دورها القيادي في العالم، بما في ذلك في التعامل مع أزمة الوباء. ولكن هذا الانكفاء قد لا يستمر طويلًا، بعد نهاية ولاية ترامب. الأهم، أنه وبغضِّ النظر عن سياسات الإدارة الأميركية، ثمة اتفاق بين دارسي صعود وانحدار القوى الكبرى حول حقيقة أن القوة الاقتصادية ليست المحدد الوحيد لوزن الدول وتأثيرها على المسرح الدولي. ثمة عشرات من وسائل التأثير الأخرى، مثل: اللغة، والموروث الديني والقيمي، والفنون والآداب، ونمط الحياة السياسية والاجتماعية، التي لابد من وضعها في الاعتبار. في كثير من هذه المجالات، لا يصعب على الصين المنافسة وحسب؛ بل ويستحيل أحيانًا عليها المنافسة.
سيشهد العالم في الشهور المقبلة، بالتأكيد، جدلًا، أخذ في الاحتدام منذ الآن، حول فعالية الدول المختلفة في التعامل مع الوباء، وما إن كان النجاح حالف الأنظمة الليبرالية، التي وقع أغلبها صريع انتشار المرض والموت، أو أنظمة التحكم المركزي، مثل الصين وسنغافورة؛ حيث العلاقة بين الدولة وشعبها أقرب إلى العلاقة بين القائد العسكري وجنوده، وكانت الأسرع في التحكم بالوباء وعواقبه. ولكن مثل هذا الجدل لا يتعلق بجانب واحد من أزمة كوفيد 19. دول، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، التي نجحت هي الأخرى في التعامل سريعًا مع الوباء، تتحدث بفخر عن الصلة الوثيقة بين ديمقراطيتها ونجاح جهودها. كما أن ثمة من يطرح مقارنات أخرى حول تباين المصداقية بين الأنظمة الليبرالية الديمقراطية والأنظمة التحكمية السلطوية، وما تستدعيه المصداقية من الحرص على حياة البشر أو إهدارها.
ما لا يجوز أن يكون محل شك أن لحظة القطب الواحد، عندما برزت الولايات المتحدة في التسعينات باعتبارها القوة الكبرى المتفردة في قرار العالم السياسي والاقتصادي، كانت أقصر بكثير من التوقعات. ومنذ أخذت الولايات المتحدة في الغرق في العراق وأفغانستان، في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وأخذت الصين في تسجيل معدلات نمو متصاعدة بصورة مطردة، وقامت روسيا بتدمير الآلة العسكرية الجورجية وفرض إرادتها على تبليسي، بدأ العالم في التحرك إلى مشهد متعدد القطبية.
خلال العقد القادم، قد يصبح هذا المشهد أكثر وضوحًا؛ حيث ستجد الولايات المتحدة في الصين منافسًا اقتصاديًّا يصعب كسره، وفي روسيا منافسًا عسكريًّا وسياسيًّا، وإن بصورة محدودة، وفي عدد من القوى الأصغر منافسًا إقليميًّا أكثر استقلالًا في قراره. ولكن ما يجب ألا يُغفل عنه أن الولايات المتحددة تتمتع بعناصر قوة متعددة وفريدة، ستساعدها في الحفاظ على موقع الدولة الأبرز والأكثر تأثيرًا بين عدد من المنافسين، ربما لأكثر من عقد مقبل من الزمن.
ما بعد الوباء: عالم أقل تضامنًا وأشد ضراوة
كان لينين من قال يومًا: “ثمة عقود حيث لا يحدث شيء، وأسابيع حيث تحدث عقود”. وليس ثمة شك في أن أسابيع الوباء الممتدة من نهاية يناير/كانون الثاني حتى الآن شهدت جملة من الوقائع المتداعية التي لم يشهد العالم لها مثيلًا ربما منذ الحرب العالمية الثانية. سيترك الوباء آثارًا متفاوتة على الحياة ذاتها، على الاقتصاد والاجتماع والصحة النفسية، كما على السياسة وأنماط الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية. ولكن من المبالغة القول بأن عالم ما بعد الوباء سيختلف كلية عن عالم ما قبله.
المؤكد أن هناك اتجاهات سياسية واقتصادية ودولية كانت بدأت التحرك منذ سنوات، لن يفعل الوباء سوى تسريع وتيرتها؛ متغيرات مستجدة كلية سيولِّدها الوباء؛ وأنظمة وعلاقات وتوجهات لن تشهد أي تغير ملموس. إن العالم يواجه أزمة اقتصادية طاحنة، ستتجلى وطأتها بدرجات مختلفة من دولة لأخرى (وفي تناسب مع مقدرات الدولة السابقة على الوباء وليس مع ضراوته)، وقد تفضي إلى اضطرابات سياسة، هو أمر ليس محل جدل. ولكن المؤشرات على عودة الدولة، وتراجع دور الأنظمة الإقليمية وتواضع أهدافها، ومضي النظام الدولي نحو تعددية قطبية، كانت أخذت في البروز منذ سنوات على الأقل. من جهة أخرى، فالأرجح أن ارتفاع درجة المنافسة والتدافع، إقليميًّا ودوليًّا، سيستمر على ما هو عليه، وأن الآمال في أن يعمل الوباء على إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس أكثر إنسانية وعدالة ستبقى مجرد تمنيات.
في حمأة الوباء، وما بدا وكأنه يجتاح الحدود والطبقات والمكونات الاجتماعية بلا تمييز، لم يكن مستغربًا أن يدفع الشعور المتسع بالفاجعة والفقدان البعض إلى توقع ولادة عالم أفضل من رحم المأساة. ولكن التجارب الإنسانية السابقة لا تؤسس بالضرورة لهذه التوقعات المتفائلة. ثمة من يرى من المؤرخين أن طاعون منتصف القرن الرابع عشر، دفع بقوة نحو نهاية النظام الإقطاعي وولادة العالم الحديث، ولكن الذاكرة الأقرب لأزمات العالم الكبرى توحي بعواقب مختلفة.
بكل وقعها المأساوي، لم تجعل الحرب العالمية الأولى الإنسان أكثر عقلانية ولا العلاقات الدولية أكثر عدلًا. الحقيقة، أن سلام نهاية الحرب الأولى حمل في داخله بذور الحرب الثانية، وترك خلفه شرقًا أوسط مسكونًا بالنزاعات والحروب. الكساد العالمي في 1929، كان أحد العوامل الممهدة لصعود النازية؛ كما أن نهاية الحرب الثانية سرعان ما أفضت إلى حرب باردة باهظة التكاليف والمخاطر، وسلسلة من الحروب الإقليمية خارج نطاق القارة الأوروبية. هذا وباء ثقيل الوطأة، بالتأكيد، ولكن يبدو أن الإنسان الحديث لم يكتسب بعد مستوى الحكمة الضروري لرؤية العواقب الكارثية لنمط حياته واجتماعه وعلاقاته.
رابط المصدر: