ما بين الفرصة والأزمة: سياسة إسرائيل إزاء الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط

شادي محسن

 

تستمر منطقة الشرق الأوسط (أي المنطقة العربية وإسرائيل وتركيا وإيران) في مواجهة متغيرات مستجدة، سواء في الداخل أو في سياستها الخارجية تجاه المنطقة والنظام الدولي (الذي يشهد صراعات بين القوى الكبرى). وأصبح من ضمن أهم سمات المنطقة هو اتساع حدود تفاعلاتها الجيوسياسية لتشمل أقصى غرب منطقة شمال إفريقيا، وبعض الدول الأوروبية القريبة مثل قبرص واليونان، وبعض الدول الآسيوية مثل أذربيجان.

يُرافق هذه المتغيرات التداعيات الكلية لأزمة كورونا بالتحديد في البعد الاقتصادي-الاجتماعي، والاتجاه الأمريكي بالانسحاب التدريجي من المنطقة، وأخيرًا تنامي النفوذ لدول خارجية جديدة بالشرق الأوسط مثل الصين، من ضمن أسبابه تزايد ظاهرة تدويل الصراعات، في حين تجاهد الدول الخارجية التقليدية مثل فرنسا للحفاظ على مساحات حركتها في المنطقة.

وعليه، تسعى دول المنطقة لبلورة هذه المتغيرات في شكل “تباديل” أو معادلات شاملة بهدف تشكيل نظام إقليمي مستقر نسبيًا تأخذ أنماط الصراع فيه طابعا سياسيا بعيدا عن التوتر الأمني أو العسكري.

تُناقش هذه الورقة موقع إسرائيل من الخريطة الإقليمية المستقبلية، وسياستها في ظل هذه المتغيرات المستجدة، وبالتحديد إزاء الاتجاه الأمريكي بالانسحاب، وهل تواجه إسرائيل تحديات في علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة؟.

الانسحاب الأمريكي: الطبيعة، والمدرك الإسرائيلي تجاهه

أولًا: لا تُعد فكرة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط -خاصة في بعدها العسكري- جديدة. بدأت في شكل تصريحات على لسان الرئيس الأسبق “باراك أوباما” عبر وعده بسحب الجيش الأمريكي من العراق في 2011، ثم شدّدت عليها لاحقًا إدارة دونالد ترامب، وكذلك الحال لدى إدارة بايدن، في حين يبقى المتغير الحقيقي هو انسحاب الولايات المتحدة بشكل كامل من أفغانستان في عهد بايدن.

وتعددت العوامل المُشّكِلة لوجهة النظر الأمريكية من الانسحاب العسكري في الشرق الأوسط بين الإدارات الأمريكية المختلفة، ولكنها اتفقت على أن الصين تهدد المصالح الأمريكية في النظامين الدولي والعالمي. يُضاف إلى ذلك أن إدارة بايدن كرست جهدها في رفع ترديات أزمة كورونا في الداخل الأمريكي، وتسعى لتوظيف سياستها الخارجية بما يخدم مصالحها في الداخل، ويقوض تنامي نفوذ الصين.

أما طبيعة الانسحاب وماهيته فلا تزال واشنطن لا تقدم إجابة واضحة بشأنه، وهو ما دفع حلفاءها في الشرق الأوسط للقلق حيال مسارات المنطقة التي تتماس فيها مشاريع إقليمية متعارضة. وتشير الوثائق والقراءات الاستراتيجية الأمريكية إلى أن التوجه لا يمكن تسميته بالانسحاب (أو “فك الارتباط”) بقدر ما يمكن تسميته بـ”إعادة التموضع” المبني على: (أ) تنسيقات استراتيجية مع دول الشرق الأوسط في مجالات السياسة والاقتصاد، تعمل على خفض بؤر التوتر وتقريب وجهات النظر المتعارضة (التي ظهرت ملامحها في انتهاء الأزمة الخليجية على سبيل المثال)، والتي تتفق مع ما جاء في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2015 التي نصت على تحقيق استقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط يعتمد على “شراكات يمكنها الدفاع عن نفسها”.

وبحسب ما جاء في مقال “الفورين أفيرز” المعنون Rightsizing in the Middle East، فقد أضاف النقطتين التاليتين: (ب) إعادة ترتيب أولويات الأمن في الشرق الأوسط: منع الانتشار النووي، مكافحة الإرهاب، تأمين الملاحة وممرات الطاقة. (ج) اعتماد الولايات المتحدة على قوات العمليات الخاصة، وقواعد عسكرية جديدة، وبعض الطائرات الهجومية التقليدية، والموارد اللوجستية النوعية مثل التزود بالوقود جوًا والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لا يلزمها التمركز في جميع أنحاء الشرق الأوسط بل اختيار نقاط استراتيجية جديدة في المنطقة (مثل الأردن).

وعليه، يُثار سؤال لدى حسابات صناع القرار في دول المنطقة وهو: ما هي المحددات الجديدة لطبيعة العلاقة بعد الانسحاب بين الولايات المتحدة ودول المنطقة؟ وما إذا سيدخل شرط جديد في العلاقة وهو حظر التعامل مع الصين؟ وقد مثّل ذلك المؤشر الذي ظهر بين الإمارات والولايات المتحدة في صفقة طائرات إف-35 بعد التحفظ الأمريكي على علاقة الإمارات بالصين.

ثانيًا: أما وجهة النظر الإسرائيلية، فترى إسرائيل الحاجة الماسة لتأسيس نظام إقليمي ينتقل من الفوضى إلى الاستقرار عبر توظيف العلاقة الخاصة التي تجمعها بالولايات المتحدة قبل انسحابها العسكري والارتكان بالدرجة الأولى على العلاقات الدبلوماسية والسياسية. لا ترى إسرائيل أن السياسة الدبلوماسية يمكن أن تحل محل الردع العسكري ضد التهديدات الأمنية الصادرة من إيران ووكلائها.

وتعتبر حكومة إسرائيل أن الاتفاق النووي مع إيران هو تمهيد لهذا الانسحاب، وتمهيد لهيمنة إيرانية على الإقليم تتبدى مؤشراته في التقارب الخليجي الإيراني. كانت قد نشرت وكالة مهر الإيرانية أن هناك دولًا خليجية تتقارب مع إيران، وتَعِد بالاستثمار في اقتصادها دون النظر إلى نتيجة مباحثات فيينا. حتى في حالة عدم صحة ما جاء في الوكالة الإيرانية (القريبة من دوائر صنع القرار الإيرانية) فمن الممكن تأويلها على أنها إشارة جدية من إيران للخليج بضرورة التقارب لبحث فرص الاستثمار فيه؛ الأمر الذي يعد خطرًا على إسرائيل التي حرصت على توظيف صراعها مع إيران لتعظيم فرص اندماجها الإقليمي (خاصة مع دول منطقة الخليج العربي) وتوقيع اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية، وأي متغير جديد في اندماج إيران في الإقليم لا يصب في صالح إسرائيل كون ذلك سيعيد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى اعتباره الصراع الأول ذي الاهتمام في المنطقة، كما سيرفع أسهم نفوذ إيران الجيوسياسي في أماكن جديدة في المنطقة مثل البحر الأحمر.

لذا لا تُعد فكرة الانسحاب العسكري الأمريكي بالنسبة لإسرائيل خطرًا بالقدر الكبير (لعوامل استراتيجية تحكم طبيعة العلاقة بين أمريكا وإسرائيل)، بقدر ما يقلقها التهيئة السياسية التي تسعى واشنطن لصياغتها في الإقليم التي من شأنها: (1) أن تصب في صالح النفوذ الإيراني على حساب المصالح الإسرائيلية. (2) احتمال تزايد فرص فرض شروط سياسية على إسرائيل مثل تقييد العلاقة مع روسيا والصين، وفرض تسوية سياسية مع الفلسطينيين لا تتوافق مع وجهة النظر الإسرائيلية.

العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتحدياتها

تعتبر الولايات المتحدة إسرائيل حليفًا ومرتكزًا استراتيجيًا مهمًا لوجودها في الشرق الأوسط، وعليه نشأت علاقة خاصة ظهرت في الدعم الأمريكي المفتوح لأمن إسرائيل واستقرار دولتها في الشرق الأوسط، كما ظهرت في تحفيز مسارات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية لتحييد سيناريو عزلتها الإقليمية.

خُلقت محددات تحكم هذه العلاقة الخاصة على مر التاريخ، ظلت منذ 1948 حتى قبل صعود إدارة أوباما يحكمها محددان فقط: (أ) الأمن. (ب) المصالح والسياسة. ولكن بعد صعود إدارة أوباما (إدارة ديمقراطية) تم إلحاق محدد جديد هو “القيم”، أي على الولايات المتحدة أن تضمن القيم الديمقراطية والليبرالية في إسرائيل؛ بعد ملاحظة تنامي التيار اليميني المتطرف “الإقصائي” في إسرائيل بعد 2009 أي بعد صعود نتنياهو وهو ما عدته واشنطن مهددًا لديمقراطية إسرائيل. اختفى محدد “القيم” في ظل إدارة ترامب (إدارة جمهورية)، ثم ظهر جديدًا في أجندة الحزب الديمقراطي 2020 في إشارته لإسرائيل بعد صعود إدارة بايدن (إدارة ديمقراطية).

وعليه، أصبحت محددات العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، (أ) الأمن: أي ضمان التفوق النوعي لجيش إسرائيل من خلال المساعدات الأمنية (MOU 2016). (ب) القيم: أي ضمان الولايات المتحدة لديمقراطية إسرائيل عبر تسوية محددة مع الفلسطينيين. (ج) السياسة والمصالح: أي ضمان عدم تقارب إسرائيل مع دول خصوم مثل الصين.

وبالتالي ظهرت تحديات في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وفق هذه المحددات، وهي:

(أ) ضمان إسرائيل لتدفق المساعدات الأمريكية الأمنية غير المشروطة، مثل تمويل ذخائر القبة الحديدية التي لم تقدمها الولايات المتحدة حتى الآن، وتمرير الصفقات المطلوبة للحفاظ على تفوق الجيش الإسرائيلي مثل الطائرات والقنابل الاستراتيجية. بالإضافة إلى تحديث المخازن الاحتياطية المتقادمة نسبيًا للذخائر والصواريخ التي يملكها الجيش الأمريكي في إسرائيل، والسماح للأخيرة باستخدام هذه المخازن استخدامًا مفتوحًا.

هذا على المستوى التكتيكي، أما على المستوى الاستراتيجي فتقدمت الولايات المتحدة بعملية نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي EUCOM إلى القيادة المركزية “سنتكوم”، التي انتهت إجراءاتها رسميًا في 1 سبتمبر 2021. الذي يتيح لإسرائيل تنسيقًا أمنيًا وعسكريًا شاملًا مع الولايات المتحدة، وهو ما يؤشر على متانة العلاقة بين الطرفين في هذا المجال.

(ب) احتمالية فرض تسوية سياسية مع الفلسطينيين على إسرائيل حتى لو كانت فتح قنصلية أمريكية في القدس الشرقية، كون ذلك يقوض سيادة إسرائيل على كامل القدس. كما يحمل محدد القيم في العلاقة بين الطرفين تحديًا آخر لإسرائيل وهو تنامي ظاهرة الأخلاق في السياسة الخارجية للولايات المتحدة (خاصة داخل الكونجرس) وأوروبا، ظهر ذلك في تقديم المشرعين في الكونجرس مشروع قانون لن يقلل أو يحد من مقدار المساعدة الأمريكية المقدمة لإسرائيل، ولكن يمكن أن يضع قيودًا على استخدامها استنادًا لقضايا تتعلق بحقوق الإنسان.

(ج) احتمالية فرض تقييدات سياسية على إسرائيل في علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الصين، التي تعتبرها إسرائيل قوى فاعلة في النظامين الدولي والعالمي، في حين تعتبرها الولايات المتحدة خصمها الأول. ورغم أن الصين تناصر حل الدولتين إلا أن رؤيتها لا تمثل التحدي الأول في العلاقات الصينية-الإسرائيلية (بل يمكن أن يتذيل قائمة التحديات)، علاوة على عدم تدخلها في الشئون الداخلية وعدم اكتراثها بالمحدد القيمي وحقوق الإنسان.

(د) وأخيرًا تواجه إسرائيل أزمة داخل الولايات المتحدة، إذ تتنامى في الأخيرة ظاهرة الانقسام الحزبي التي تؤثر على إسرائيل بتراكم مؤشرات أزمة مع الحزب الديمقراطي الأمريكي (يظهر ذلك في المشرعين الديمقراطيين وتقديمهم مشاريع قانونية لصالح الفلسطينيين أو تمنع مصالح إسرائيل). علاوة على عدم اصطفاف جميع اليهود الأمريكيين مع الرواية الإسرائيلية الحالية (التي يعتبرونها دينية أكثر منها قومية).

وعليه، يمكن القول في هذا السياق إن إسرائيل تواجه تحديات كبيرة في علاقاتها مع الولايات المتحدة (باستثناء المجال العسكري)، وتحرص على معالجتها كأولوية أولى قبل انسحاب الولايات المتحدة العسكري من الشرق الأوسط.

كيف تدير إسرائيل أزمة “الانسحاب”؟

تسعى إسرائيل لخلق مجموعة من التفاعلات السياسية المتوازنة مع أغلب الأطراف الرئيسية في الشرق الأوسط، كما تسعى أن تترقى هذه التفاعلات إلى درجة التطبيع والشراكة الاستراتيجية. مع العلم أن الحدود الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط اتسعت لتشمل دولًا آسيوية وأوروبية. وتقوم محددات هذه التفاعلات أو العلاقات على ثلاثة مرتكزات أساسية، هي: الأمن، والطاقة، والمياه.

ويمكن شرح سياسة إسرائيل في المنطقة بالطريقة التالية:

أولًا- الاتفاقات الإبراهيمية:

بسبب اتّساع حدود الشرق الأوسط، انقسمت المنطقة بين ثلاثة إلى أربعة أقاليم فرعية، وشرعت إسرائيل في تطبيع علاقاتها مع الإمارات والبحرين في الإقليم الفرعي المباشر مع إيران (منطقة الخليج العربي)، ومع السودان في إقليم البحر الأحمر، ومع المغرب في إقليم شمال إفريقيا، مع توثيق العلاقات مع دول مصر والأردن وقبرص واليونان (ودراستها فرص التطبيع مع تركيا) في إقليم شرق المتوسط.

يعود تفسير ذلك إلى أن الولايات المتحدة حسب استراتيجيتها للأمن القومي 2015 ستبدأ في تحديد شركائها في الشرق الأوسط، والتنسيق معهم في قضايا الشرق الأوسط التي تتماس مع أولويات الأمن والسياسة والاقتصاد. لذلك تحسب إسرائيل هؤلاء الشركاء، وتعمل على توثيق التعاون معهم بحجم يسمح بانخراطها في كل قضايا الشرق الأوسط لضمان مصالحها، وعليه لا تتأثر المكانة الإقليمية لإسرائيل في المنطقة في الرؤية الأمريكية الجديدة.

ولا تزال إسرائيل توظف صراعها مع إيران سياسيًا بهدف اندماجها الإقليمي في المنطقة، وهو ما يتوافق مع مصالح كل الدول الخليجية تقريبا، ومع المغرب في شمال إفريقيا.

ثانيًا- السينتكوم الأمريكية والبحر الأحمر:

مثّل انضمام إسرائيل إلى القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط “سينتكوم” دفعة قوية لفكرة اندماج إسرائيل في المنطقة ومحاولة ترتيب الأوضاع الأمنية. ويسمح هذا التطور لعقد اجتماعات عسكرية مفتوحة بين الجيش الإسرائيلي والجيش الأمريكي والجيوش العربية الأخرى، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتدريبات العسكرية المشتركة في إطار السينتكوم.

تطمح إسرائيل في إطار السينتكوم لأن تكون مركزًا إقليميًا للتدريبات والمناورات الجوية المشتركة في المنطقة، وأن تتحول مخازن الاحتياط للذخائر والدفاع الصاروخي في إسرائيل إلى مخازن إقليمية يمكن للجيش الإسرائيلي والجيوش العربية أن تصل إليها. مع العلم أن هذه المخازن هي أهم أصول السينتكوم في المنطقة، وتستهدف إسرائيل أن تتحول خطط تطوير البرنامج الصاروخي الأمريكي الإسرائيلي إلى أداة تطبيع غير تقليدية في الإقليم.

وتركز إسرائيل والولايات المتحدة (قيادة السينتكوم) تدريباتها العسكرية مع الدول العربية في منطقة البحر الأحمر، ويعود ذلك إلى عدة اعتبارات، أهمها: (أ) يعد البحر الأحمر منصة محتملة لنفوذ إيراني جديد يبدأ من اليمن وباب المندب. (ب) طلب الدعم الأمريكي في عقد تكتل سياسي في البحر الأحمر تكون إسرائيل أحد أضلاعه الرئيسية. (ج) السبب الأهم هو: أن البحر الأحمر هو همزة الوصل الحيوية بين منطقتي شرق المتوسط ومنطقة الهندو-باسيفيك، وبحسب الاتجاهات العالمية يتبدى تصاعد دول منطقة جنوبي آسيا التي تستهدف إسرائيل الوصول إلى أسواقها، وتعزيز التعاون مع الهند. (د) قد تشهد منطقة البحر الأحمر اتفاقات ربط إسرائيل بالخليج في مجالي الطاقة والبنية التحتية.

ثالثًا- تحالفات دولية:

تحرص إسرائيل على عقد علاقات متوازنة مع القوى الكبرى مثل الصين والهند، ولا تتقيد إسرائيل كثيرًا بالتحفظات الأمريكية على طبيعة العلاقة بين إسرائيل والصين. وكذا الانخراط في تكتلات دولية وإقليمية مؤثرة مثل دول الفيشجراد في الاتحاد الأوروبي لأهداف تتعلق بتوريد الطاقة.

كما سعت إسرائيل لتقديم طلب انضمام إلى منظمة شنغهاي، ولا تواجه إسرائيل تحفظًا أمريكيًا على ذلك الطلب كونه يتفق مع المصالح الأمريكية المادية التي ترتكز على مجالي الأمن وإقامة شبكة طاقة مستقرة من آسيا إلى أوروبا.

تحرص إسرائيل على الانخراط في منطقة آسيا الوسطى ودول القوقاز كونها منطقة غنية بالمعادن النادرة والطاقة الأحفورية (نفط وغاز طبيعي)، مع العلم أن إسرائيل تستورد 40% من البترول من أذربيجان عبر خط أنابيب باكو-تبليسي- جيهان (التركية). كما تعد أذربيجان مسرحًا مهمًا بالنسبة لإسرائيل لإدارة صراعها مع إيران.

رابعًا- تكتلات الطاقة في الشرق الأوسط:

ترى إسرائيل في مجال الطاقة عاملًا مهمًا في إقامة شبكة تحالفات مستقرة مع دول الشرق الأوسط وبعض الدول الأوروبية الأخرى مثل قبرص واليونان. لذا حرصت على إقامة شراكة استراتيجية مع قبرص واليونان لتوريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا من خلال هاتين الدولتين تحت إشراف وتنسيق من الولايات المتحدة.

تقدمت إسرائيل بمشروع “إيست ميد” بعد إعلانها اكتشافات الغاز الطبيعي قبالة شواطئها، ولكن منع من تقدم المشروع اعتباران: (أ) التكلفة الاقتصادية الباهظة وعدم الجدوى التجارية لمشروع توريد الغاز إلى أوروبا، في حين وقعت على مصر الفرصة البديلة لهذه التكلفة وهو ما دفع إسرائيل للموافقة على تصدير الغاز إلى مصر وإعادة تصديره من المصانع المصرية، وهو ما تبدت ملامحه مؤخرًا في إسهام الغاز الإسرائيلي في تصدير الغاز إلى لبنان بوساطة مصرية عبر الخط العربي. (ب) إقامة منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة، ونجاح مصر في الاتفاق مع الولايات المتحدة على أن يكون الدعم الأمريكي لمشاريع الطاقة في شرق المتوسط تحت مظلة المنتدى المصري.

بعدها تقدمت إسرائيل بمبادرة الربط الكهربي الآسيوي الأوروبي تحت مسمى euro-asia interconnector، وهو مشروع نقل الطاقة المتجددة (الكهرباء) من إسرائيل مرورًا بقبرص واليونان إلى أوروبا. ولكن تمثل مصر فرصة بديلة أيضًا للتكلفة الاقتصادية للطرح الإسرائيلي، إذ دشنت مصر مشروع الربط الكهربي الإفريقي الأوروبي تحت مسمى afro-asia interconnector. وتشير التقديرات إلى أن فائض الطاقة الذي يمكن أن تصدره مصر يفوق أضعاف ما تستطيع إسرائيل تصديره من الكهرباء.

كما يؤشر على استهداف إسرائيل إقامة تحالفات مبنية على الطاقة والمياه، الاتفاق الموقع بين إسرائيل والأردن مؤخرًا بتبادل مشاريع الطاقة الشمسية وتحلية المياه بين الطرفين.

خامسًا- محاولة ترميم قضايا الداخل:

تواجه إسرائيل تحديات في الداخل، وتعمل على مواجهتها وفق رؤيتها في محاولة لإدارة أزمة الانسحاب الأمريكي. يتمثل أبرزها في: (أ) حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إذ شرعت الحكومة الإسرائيلية في دفع اتفاقات سلام اقتصادي مع السلطة الفلسطينية بهدف تقويتها، وبهدف إحكام الصراع في المربع الاقتصادي والحيلولة دون بلورته في تسوية سياسية تقضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

(ب) الانقسام المجتمعي العربي اليهودي، إذ سعت إسرائيل لتقديم مخصصات مالية غير مسبوقة للمجتمع العربي (عرب الداخل) لرأب الصدع العربي-اليهودي في المدن الإسرائيلية. كما وافقت الحكومة الإسرائيلية على ضم حزب عربي إسلامي محسوب على تيار الجناح الجنوبي لتنظيم الإخوان المسلمين (حزب القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس)، وكان آخر التطورات هو الإفراج عن زعيم الجناح الشمالي للحركة الإسلامية “الشيخ رائد صلاح” بقرار من الحكومة وليس المحكمة لمحاولة استرضاء المجتمع العربي.

(ج) الانقسام المجتمعي الحريدي-العلماني، إذ تحاول الحكومة الإسرائيلية الحالية ضم المجتمعي الحريدي بالخدمة العسكرية الإلزامية كمحاولة منها لصهر الصدوع المجتمعية داخل الجيش الإسرائيلي رغم الأزمات الهيكلية في الجيش المتعلقة بسياسات التمييز العرقي، وظواهر سلبية مثل الهروب من الخدمة، ولكن حتى الآن لم تنجح الحكومة في فرض الخدمة على الحريديم.

ختامًا، يمكن القول إن من ضمن أهداف الولايات المتحدة من فكرة انسحابها العسكري من الشرق الأوسط هو دفع دول المنطقة إلى إقامة تحالفات مستقرة تقوم على مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد تحت إشراف سياسي أمريكي.

ورغم تخوف إسرائيل من احتمالية وجود شروط سياسية أمريكية تقييدية لطبيعة علاقاتها مع الخارج، إلا أنها تشرع في انتهاج سياسة أفقية مع الأطراف الأساسية في الشرق الأوسط ترتكن على مجالات الأمن والطاقة والمياه، وعقد تحالفات مع القوى الكبرى من أجل توسيع هوامش حركتها وتضييق هوامش الخطأ المحتملة من الاتجاه الأمريكي بالانسحاب. ولكن تواجه إسرائيل تحديات مهمة في سياستها لإدارة أزمة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/18235/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M