محمد منصور
بطبيعة الحال يمكن تعداد نتائج وتبعات عديدة ومتشعبة ستترتب على نتائج الاستفتاء الذي رعته موسكو في الأقاليم الشرقية والجنوبية الأوكرانية، خيرسون وزابوريجيا ودونيتسك ولوهانسك، وأسفر عن خروج الأقاليم الأربعة من العباءة الأوكرانية، ودخولها ضمن التقسيمات الإدارية للاتحاد الروسي.
وإذا ما نحينا جانبًا الوضع القانوني لهذا الاستفتاء والدلالات السياسية والاقتصادية له، يمكن القول إن الجانب العسكري في تبعات هذه الخطوة قد تطرأ عليه تغيرات تكتيكية مهمة في المدى المنظور، ليس فقط كنتيجة الواقع الجيوسياسي والميداني الذي فرضته نتائج هذا الاستفتاء، بل أيضًا كنتيجة للتغيرات التي طرأت على الأهداف المرحلية الروسية من عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
بشكل عام، يمكن القول إن خطوة ضم موسكو للأقاليم الأوكرانية الأربعة تجعل من الواجب إثارة نقطتين أساسيتين فيما يتعلق بمستقبل المعارك الميدانية في أوكرانيا: الأولى تتعلق بالاتجاهات الهجومية والدفاعية المتوقعة خلال المدى المنظور، والثانية تتعلق بطبيعة الأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا وماذا إذا كانت قد تحولت بالفعل من “عملية عسكرية خاصة” إلى “حرب دفاعية شاملة”. بمعية هاتين النقطتين، يجدر تناول مسألة تمت إثارتها خلال الأيام القليلة الماضية وتتعلق بتعامل موسكو مع استهداف المناطق المنضمة حديثًا لها على أنه “اعتداء على سيادتها” يستلزم شن حرب شاملة على الجهة المعتدية.
النطاق الجغرافي لمعارك أوكرانيا بعد ضم الأقاليم الأربعة
مسألة اعتبار المناطق الأوكرانية المنضمة حديثًا إلى الاتحاد الروسي بمثابة جزء من التراب الوطني الروسي، لا تعد مسألة جديدة او مستحدثة في حد ذاتها؛ فقد تعاملت موسكو عمليًا منذ بدء سيطرتها على المناطق الجنوبية والشرقية في أوكرانيا مع هذه المناطق بشكل إداري وعسكري على أنها جزء من الكيان الروسي.
بعض التحليلات المتداولة حول هذا الشأن ترى أن عملية الاستفتاء الأخيرة على انضمام هذه المناطق إلى روسيا، أوجدت إطار “شبه قانوني” للعلاقة بين هذه المناطق وموسكو، بشكل يعطي للجيش الروسي الحق في التعامل بشكل قتالي مع اي اعتداء على هذه المناطق.
حقيقة الأمر أن هذا الرأي يتعارض مع عدة حقائق ميدانية، أهمها أن الأراضي الروسية بما في ذلك شبه جزيرة القرم -التي ضمتها روسيا عام 2014- وكذا الأقاليم الروسية الحدودية مع أوكرانيا، خاصة إقليم “بيلجورود” وإقليم “روستوف”، قد تعرضت للقصف الأوكراني عدة مرات خلال الأشهر الماضية، وشمل ذلك قواعد جوية روسية رئيسية مثل قاعدة “Novofedorivka” الجوية في شبه جزيرة القرم، وقاعدة “ميليروفو” الجوية في إقليم روستوف.
إذًا بالنظر إلى ما تقدم، يمكن القول إن التعامل الروسي مع الضربات الأوكرانية لن يختلف من حيث المبدأ مع الوضع الذي كان عليه التعامل معها خلال الأشهر الماضية؛ فقد كانت القوات الروسية ترتكز بشكل أساسي على محاولة تدمير القدرات التي استخدمتها أوكرانيا لتنفيذ هذه الضربات، بجانب تنفيذ ضربات صاروخية على بعض المدن الرئيسة مثل “أوديسا” و”خاركيف”.
لكن هذا يقتضي وضع حقيقة ميدانية حالية في الحسبان، وهي أن الجيش الروسي لا يسيطر بشكل كامل على كافة أنحاء المناطق الأوكرانية الأربع المنضمة حديثًا للاتحاد الروسي، فما زالت عدة نقاط في منطقتي “زابوريجيا” و”خيرسون” إما توجد فيها قوات أوكرانية أو تتعرض لزخم هجومي مستمر من جانب الوحدات الأوكرانية، وهنا نتحدث بشكل كبير عن الأجزاء الشمالية من منطقة “زابوريجيا”، والمناطق الشمالية الغربية من منطقة “خيرسون”، التي شهدت منذ أواخر أغسطس الماضي، هجمات أوكرانية متعاقبة عبر ستة محاور قتالية من غرب مدينة خيرسون غربًا إلى نهر الدنيبر شرقًا، مع التركيز خلال الأسبوعين الأخيرين على المحور الشمالي الغربي، وهو الأقرب لمدينة خيرسون.
بجانب هذه المناطق، يمكن التأكيد على أن الزخم الهجومي الأساسي في الميدان الأوكراني، والذي يتوقع أن يستمر في تصدر المحاور القتالية العامة بين أوكرانيا وروسيا، هو المحور الشمالي الشرقي، وتحديدًا الجبهة التي تمتد شمالًا من شرقي مدينة “كوبيانسك”، الواقعة شرقي مدينة خاركيف، وصولًا إلى “باخموت” جنوبًا.
القوات الأوكرانية تعمل في هذا الجيب القتالي منذ أوائل الشهر الماضي؛ بهدف استثمار نجاحها في السيطرة على بعض المدن الرئيسية جنوبي وشرق خاركيف مثل إيزيوم وكوبيانسك، وتحاول في الوقت الحالي تطبيق نفس التكتيك الذي اتبعه خلال سيطرتها على مدينة “إيزيوم”، ألا وهو المحاصرة التدريجية للقوات الروسية في المدن الرئيسة؛ بهدف إجبارها على الانسحاب، بجانب العمل على إكمال السيطرة على ما تبقى من مناطق في مقاطعة “خاركيف”، والوصول إلى الحدود الإدارية لمقاطعة لوهانسك.
الهدف المرحلي للقوات الأوكرانية في هذا الجيب هو تأمين عقدة المواصلات البرية والحديدية في هذا النطاق، ألا وهي مدينة “ليمان”، حيث تحركت نحوها من الشمال الشرقي والجنوب والغرب؛ بهدف حصار القوات الروسية الموجودة فيها، وتمكنت بالفعل من السيطرة عليها وإجبار القوات الروسية على الانسحاب منها بشكل كامل. في المقابل، تنفذ القوات الروسية هجمات متقطعة على مدينة “باخموت”، التي تعد من النقاط الجغرافية الأساسية في هذه الجبهة، لكن حتى الآن ما زالت القوات الأوكرانية المتمركزة في المدينة محافظة على مواقعها الحالية.
إذًا، يمكن القول إن المتوقع على المستوى الميداني خلال الأيام القادمة هو تركيز الوحدات الروسية على محاولة إيقاف التقدم الهجومي للقوات الأوكرانية في المحور الشمالي الشرقي للجبهة الشرقية، بجانب تأمين خطوط التماس بين الدونباس والقوات الأوكرانية، والعمل كذلك على تأمين كامل المناطق الخارجة عن السيطرة الروسية في زابوريجيا، وإيقاف التحركات الأوكرانية المهددة لمدينة خيرسون.
أي أن الوضع الميداني -بمعنى آخر- سيكون متمحورًا حول المناطق التي تم ضمها إلى روسيا مؤخرًا، مع ملاحظة أن المدن التي انسحبت منها القوات الروسية في الجبهة الشمالية الشرقية -وتحديدًا كوبيانسك وإيزيوم وليمان- هي فعليًا خارج حدود إقليم دونيتسك، وهو ما يمكن أن يفسر بشكل أو بآخر عدم تمسك القوات الروسية بالبقاء فيها.
النقطة الأساسية في هذا الإطار تتمحور حول أن الميدان الأوكراني بات فعليًا ضمن سيناريوهين محتملين على المستوى العسكري، الأول هو استنساخ الوضع الذي كان قائمًا في الدونباس منذ عام 2014؛ بمعنى تحويل خط الاشتباك المحاذي للحدود الشمالية لكل من خيرسون وزابوريجيا، والمحاذي للحدود الغربية لإقليم الدونباس، إلى حالة “حرب الخنادق” التي كانت سائدة في الدونباس خلال الأعوام الماضية.
أما السيناريو الثاني فهو فرض أمر واقع في هذه المناطق كما حدث سابقًا في شبه جزيرة القرم، والدفع نحو وقف لإطلاق النار، مع وجود احتمالية ليست كبيرة لانتقال العمليات العسكرية الروسية -أو بالأحرى عودتها- إلى سيناريو مشابه لما حدث في معركة نهر الدنيبر مع القوات الألمانية عام 1943، وهو ما يتطلب اعادة تفعيل الجبهة الشمالية، ومن ثم استنساخ تجربة ألمانيا في مرحلة الحرب الباردة.
المعيار الأساسي لتحديد أي سيناريو سوف يتخذه الميدان الأوكراني في المرحلة المقبلة يبقى مصير العمليات العسكرية في شمال شرق الجبهة الشرقية “خاركيف”، خاصة أن الزخم الهجومي الأوكراني، رغم عدم تحوله إلى شكل “الهجوم المضاد” بشكل كامل، ما زال مستمرًا بنجاح رغم انتقال إقليم الدونباس عمليًا إلى التبعية الروسية.
التحديات “التسليحية” للمرحلة المقبلة في أوكرانيا
بات من الواضح أن ردة الفعل الغربية حيال الاستفتاءات الذي قامت بها روسيا في المناطق الأوكرانية الأربع ما زالت ضمن الحدود التي كانت عليها منذ بدء العمليات الروسية في أوكرانيا. فمن حيث المبدأ ما زال الالتزام الغربي بتقديم المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني قائمًا، لكن بدأت بعض التباينات تظهر في حجم ومستوى المساعدات المقدمة من هذه الدولة أو تلك؛ نظرًا إلى بعض التعقيدات اللوجستية والمالية، وكذا لأسباب تتعلق بخلافات في وجهات النظر حيال المستوى الذي يمكن أن تصل إليه هذه المساعدات بدون أن يتم استفزاز موسكو بشكل يجعلها تقدم على خطوات عسكرية واقتصادية دراماتيكية، وهي معادلة تبدو حيوية ومهمة بالنسبة لأوروبا في هذه المرحلة، في ظل حادث تخريب خطي “نورد ستريم”، والتأثيرات السلبية التي ألقت بها أشهر الحرب في أوكرانيا على الاقتصادي الأوروبي.
هذه التأثيرات -التي شملت أيضًا التناقص الحاد في حجم المخزونات الأوروبية من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وذخائرها، بجانب تراجع في حجم القوة النارية المتوفرة لبعض الجيوش الغربية، نتيجة لإرسالها أقسام متفاوتة من منظوماتها التسليحية العاملة خاصة في ما يتعلق بالدفاع الجوي والمدرعات إلى أوكرانيا- ربما تكون السبب الأساسي خلف عدم قدرة أوروبا حتى الآن على مجاراة الحماس الأمريكي الواضح لتسليح أوكرانيا، خاصة لو وضعنا في الحسبان أن القدرات التسليحية الأهم على المستوى “شبه النوعي” التي حصلت عليها وحدات الجيش الأوكراني كان مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، مثل صواريخ “هيمارس”، والصواريخ الجوية المضادة للرادارات “هارم”، وصواريخ “هاربون” المضادة للسفن.
هذا الوضع ربما ألقى بظلاله على الأجماع الأخير لـ “مديري التسليح الوطني”، في العاصمة البلجيكية بروكسل، والذي ضم ممثلي أكثر من 40 دولة، اجتمعوا بهدف بحث إمكانية التوسيع “النوعي” للمساعدات العسكرية المرسلة إلى اوكرانيا، لتشمل منظومات بعيدة المدى للدفاع الجوي، ومنظومات صاروخية ذات مدى أطول. هذا الهدف لم يتم التوافق عليه خلال هذا الاجتماع، بل كان التوافق مركزًا فقط على تعويض النقص الحالي في المخزونات الأوروبية من الأسلحة والذخائر، عبر تكثيف عمليات الإنتاج والتصنيع.
كانت الآمال الأوروبية والأمريكية من هذا الاجتماع تتضمن أيضًا الاتفاق على تشكيل بعثة أوروبية مشتركة لتنظيم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، تماثل القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة التي يعتزم البنتاجون تشكيلها في ألمانيا؛ بهدف الإشراف على الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا، والذي بلغ حتى الآن أكثر من 16 مليار دولار. لكن انتهى هذا الاجتماع دون التوصل إلى توافق حول هذه الخطوة، وتم تأجيل بحث هذا المقترح إلى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الشهر الجاري.
وعلى الرغم من التفوق الواضح للمساعدات العسكرية الأمريكية مقارنة بما تم تقديمه لأوكرانيا من الدول الأوروبية، إلا أن مسألة توسيع هذه المساعدات على المستوى النوعي -على خلفية التطورات الأخيرة المتعلقة بضم موسكو للمناطق الأوكرانية الأربعة- تبقى محل دراسة وتوجس من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة أن كلا الطرفين لم يمنحا كييف إمكانية تنفيذ هجمات باليستية نوعية في الداخل الروسي، أو القدرات الكافية لإغلاق المجال الجوي الأوكراني جزئيًا او كليًا أمام سلاح الجو الروسي. هذا الموقف ما زال حتى الآن بمثابة الإطار العام للذهنية الأوروبية والأمريكية حيال تسليح كييف، لكن هذا لم يمنع بدء بحث إمكانية منح كييف المزيد من القدرات “شبه النوعية” على المستوى التسليحي.
في هذا الإطار، لم تخفِ واشنطن تفكيرها في تزويد كييف بمنظومة الصواريخ التكتيكية “إم جي إم-140″، البالغ مداها الأقصى 300 كيلو متر، لكن تحذير موسكو الصريح من أن دخول هذه المنظومة إلى أوكرانيا سوف يعد “تجاوزًا للخط الأحمر”، جعل واشنطن تفكر في بدائل أخرى، فاستمرت في رهانها على منظومة “هيمارس” الصاروخية، وبدأت فعليًا في تزويد كييف بنسخة أخرى من الصواريخ الصالحة للإطلاق من هذه المنظومة، ألا وهي “إم 30 إيه1”. واللافت في هذه النسخة أنها مخصصة للتعامل مع الأهداف واسعة النطاق؛ نظرًا إلى أن صاروخ هذه النسخة ينفجر فوق الهدف مباشرة، ناثرًا آلاف الشظايا، وهي تقنية مخصصة للتعامل مع وحدات المشاة المتحصنة في خنادق.
على مستوى الدفاع الجوي، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية منتصف الشهر الماضي عن بدء تسليم أوكرانيا منظومات “NASAMS” النرويجية للدفاع الجوي متوسط/بعيد المدى، والتي تعد من الإضافات المهمة؛ نظرًا إلى قدراتها المتفوقة على مستوى الكشف الراداري “120 كيلو متر”، وقدرتها على استهداف كافة التهديدات الجوية في نطاق يقع بين 40 و160 كيلو متر، بارتفاعات تصل إلى 20 كيلو مترًا، وهو ما يضع عمليًا كافة قدرات سلاح الجو الروسي ضمن دائرة الاستهداف.
لكن تحديد مدى أهمية هذه المنظومة في أوكرانيا يبقى رهنًا بتبيان نوع الصواريخ الذي سيتم تزويدها به، سواء صواريخ “سايد وايندر” البالغ مداها 40 كيلو مترًا فقط، أو صواريخ “أمرام” البالغ مداها ما بين 160 و180 كيلو متر. يتوقع أن تعمل هذه المنظومة بالتنسيق مع منظومات “IRIS-T” الألمانية متوسطة المدى التي تعمل على نفس الارتفاعات لكن بمدى أقل وهو 25 كيلو متر، وسيبدأ تسليم أول بطارية من أصل إحدى عشرة بطارية من هذا النوع إلى أوكرانيا الشهر الجاري.
هنا لابد من التنويه أن دولًا أوروبية عدة مثل ألمانيا وفرنسا لجأت إلى تعديل وجهة قسم من المنظومات القتالية المرتبطة بعقود تصدير للخارج، وتوجيهها إلى أوكرانيا، كما فعلت ألمانيا مثلًا في ما يتعلق بمنظومات “IRIS-T”، وكذا فعلت فرنسا التي تبحث حاليًا مع الدنمارك امكانية توجيه ستة من أصل 12 مدفعًا من نوع “قيصر” كانت تصنعها باريس لصالح الجيش الدنماركي إلى الجيش الأوكراني، خاصة أن الثمانية عشر مدفعًا التي أرسلتها باريس إلى كييف من نفس النوع، كانت من المدافع العاملة في الجيش الفرنسي، وتشكل نحو 25 بالمائة من الترسانة الفرنسية من هذا النوع.
الأنظمة المسيرة بات لها حضور مهم في المساعدات العسكرية المقدمة إلى أوكرانيا، فبالإضافة إلى الأنواع المتعددة من الطائرات بدون طيار وآخرها طائرات “بوسايدون” القبرصية، تسلمت كييف مؤخرًا روبوتين على الأقل من روبوتات “THEMIS” إستونية الصنع، المخصصة لعمليات إخلاء الجرحى ونقل الذخيرة.
الجانب البحري من المعارك في أوكرانيا كان على موعد مع تطور مهم الشهر الماضي، حين ظهر قرب قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم زورقان موجهان عن بعد، يحملان في مقدمتهما مستشعرات تصادمية تبدو مصممة لجعل هذه الزوارق بمثابة “زوارق انتحارية”، تستنسخ التجربة الألمانية واليابانية في هذا الإطار خلال الحرب العالمية الثانية.
مصاعب تسليحية روسية في ضوء العمليات في أوكرانيا
ربما يمكن أن نضع النقص الواضح في التجهيزات القتالية والذخائر من ضمن التبعات الرئيسية والمباشرة التي ترتبت على انفتاح القوات الروسية -في المرحلة الأولى من العمليات في أوكرانيا- على ثلاث جبهات رئيسة، ومن ثم التركيز في المرحلتين الثانية والثالثة على الجبهتين الشرقية والجنوبية. هذا النقص أثر بشكل واضح على سير العمليات حتى في المرحلة الأولى، التي كانت القوات الروسية فيها تقاتل قرب التخوم الشمالية الغربية للعاصمة كييف، لكن المشكلات التي طرأت على الأرتال اللوجيستية -من ضمن عوامل أخرى- أدت إلى فشل القوات الروسية في هذه الجبهة بشكل دفعها إلى التراجع بشكل كامل عن أي عمليات عسكرية في هذا المحور.
هذا العامل دفع موسكو إلى اللجوء إلى بدائل اخرى لتعويض الذخائر الخفيفة والمتوسطة والقذائف الخاصة بالمدفعية الصاروخية، وهي القدرات الأهم التي تحتاج إليها في معارك متماثلة كما هو الحال عليه في الميدان الأوكراني.
طهران كانت البديل الأول الذي لجأت إليه موسكو، وقد تحدثت الولايات المتحدة الأمريكية منذ أغسطس الماضي عن رصد رحلات جوية روسية إلى طهران، وهو ما أكدته بعد ذلك نوعية الأسلحة الإيرانية التي تم رصدها في أوكرانيا، والتي لا تشمل فقط طائرات “مهاجر-6” الاستطلاعية بدون طيار، أو الذخائر الجوالة “شاهد-136″، التي تم استخدامها بكثافة في الجبهة الشمالية الشرقية، وفي مناطق متفرقة بالجبهة الجنوبية، مثل اوديسا وميكولايف؛ بل شملت هذه الأسلحة أيضًا أنواع عديدة من الذخائر والأسلحة تم رصدها للمرة الأولى في مدينة “كريفي ريه” في أبريل الماضي، وشملت أنواعًا إيرانية الصنع، وأخرى صينية كانت طهران قد استوردتها خلال العقود الماضية، مثل النسخة الصينية من بنادق “كلاشينكوف” الروسية، المسماة “تايب-59″، بجانب قذائف صاروخية وذخائر إيرانية خاصة بمدافع الهاون الثقيلة ومدافع الهاوتزر من عيار 152 ملم.
إذًا بالنظر إلى ما تقدم، يمكن القول إن استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا ينطوي على استنزاف واضح للقدرات الروسية والأوروبية على حد سواء، وهو ما بدأت آثاره تظهر بشكل أو بآخر على المستوى الميداني، خاصة بالنسبة للجانب الروسي، لذا قد يطرح هذا فرضية محاولة هذا الطرف أو ذاك القيام بمجازفة نوعية ما لحسم الموقف الميداني أو إجبار الطرف الآخر على إيقاف العمليات العسكرية، والقبول بالميزان الميداني الحالي.
وهذا يشمل استخدام “السلاح النووي التكتيكي”، وإن كان هذا التقدير لا يحظى بموجبات ميدانية قوية تبرر استخدامه، لكن توجد بعض التحركات الروسية التي توحي بأنه يوجد استعداد ما لتنفيذ هذا الخيار، مثل التحركات الغامضة لإحدى الغواصات الروسية -غير معروفة الفئة- في البحر المتوسط، وكذا تزايد أنشطة القاذفات الروسية النووية الاستراتيجية في قاعدة “إولينيا” الجوية في شبه جزيرة كولا قرب فنلندا.
حرب الطاقة ربما تكون جانبًا آخر من جوانب محاولة روسيا إنهاء العمليات العسكرية في أوكرانيا، وبغض النظر عن المتسبب الرئيس في حادثة استهداف خط “نورد ستريم” الغازي، إلا أن حديث بعض الدول الأوروبية، مثل الدنمارك والنرويج، عن نشاط غير محدد الهوية أو الهدف لطائرات بدون طيار، في أجواء منصات التنقيب عن الغاز في بحر الشمال، ربما يمكن وضعه في نفس هذا الإطار.
أخيرًا، بات من الجائز النظر إلى الوضع الحالي في أوكرانيا على أنه نقطة فاصلة قد تحدد مستقبل هذه الأزمة، سواء الذهاب نحو إنهاء العمليات العسكرية بفرض أمر واقع مشابه لما كان الحال عليه في الدونباس عام 2014، أو عودة الأهداف الروسية في أوكرانيا إلى سيناريو “شرق الدنيبر”، وتحويل أوكرانيا فعليًا، إلى تطبيق معاصر لمعادلة تقسيم ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
.
رابط المصدر: