ليس هناك ثمة شك في أن الزمان دائمًا له أحكامه التي لا ينبغي لأحد أن يُخطئها. ولأن التاريخ غالبًا ما يُعيد تكرار نفسه، نجد أنه على من يرغب في فِهَم الحاضر واستيعاب ما قد يجري في المستقبل، أن يلقي بإمعان نظرة على الماضي في محاولة لفهم كيف انعكس الوقت على تطور الحروب والنزاعات المسلحة ومشاهدة طبيعة هذه التداخلات المحمومة في محاولة لربطها بما يشهده العالم في الوقت الراهن. وذلك في ضوء تصريح وزير الخارجية الأمريكي، “أنتوني بلينكن”، خلال تصريحاته في مؤتمر صحفي انعقد في أواخر ديسمبر 2022، عندما قال إن الانسحاب الذي تعرض لانتقادات شديدة من أفغانستان قد ساعد واشنطن على إعادة توجيه الموارد إلى أوكرانيا بعد ذلك بأشهر قليلة فقط. وواصل “بلينكن” حديثه مشيرًا إلى أنه “إذا كنا لا نزال في أفغانستان، لكان ذلك، على ما أعتقد، قد زاد من تعقيد الدعم الذي قدمناه لأوكرانيا”. وهو التصريح الذي يطرح تساؤلًا عن طبيعة تسلسل التحركات العسكرية الأمريكية عبر التاريخ، وهل من الممكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها البقاء في الأرض دون اشتباك مسلح؟
أزمنة وحروب
عرفت البشرية الصراعات والتناحر بين بعضها البعض منذ بدء الخليقة. وبغض النظر عن الأسباب التي لطالما دعت الناس إلى اللجوء للعنف، فإن شكل الحروب والصراعات المسلحة اتخذ أنماطًا مختلفة بالتزامن مع مرور الوقت. وأصبحت الحروب، وفقًا للتطور الزمني، تنقسم إلى أجيال؛ الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس. ففي حروب الجيل الأول: اعتمد المقاتلون على المواجهة المباشرة بالسيوف والأسهم وغيرها من الأسلحة التي تسترعي لقاء وجه لوجه بين عدوين. فيما بدأت البشرية تنتقل إلى النمط الثاني من الحروب، بمجرد اكتشاف البارود، وترتب على ذلك اندلاع عدد من الحروب المعتمدة على قوة النيران التي كان من أبرزها معارك نابليون بونابرت في الفترة ما بين “1793- 1815”. أما عن حروب الجيل الثالث: فهذا النوع، المُكلف للغاية، قد عرفته البشرية بالتزامن مع التطور الذي أدى لظهور الدبابات والمدرعات والمقاتلات الجوية والغواصات وهو ما يترتب عليه وقوع اشتباك عسكري بين قوتين نظاميتين -أي جيوش دولتين- يشتمل على القوات البرية والبحرية والجوية.
وقد شهد هذا العصر أحداثًا جسامًا كان مُفترضًا بها أن تضفي تحولات في أنماط تفكير ورؤية صناع قرار من عاصروه؛ كان من ضمنها إسقاط القنبلة الذرية على “هيروشيما وناجازاكي” في 1945، مما أدى إلى مقتل نحو 2200000 شخص. وكان الحدث الأبرز الذي نتج عنه هو أن يعرف العالم نمطًا جديدًا من الحروب يتمثل في الحروب الذرية أو النووية. غير أن ظهور هذا النمط لم ينف أو يقض على حروب الجيل الثالث التي ظلت مستمرة جنبًا إلى جنب مع هذا الحدث الجسيم، وكان من أبرزها حرب فيتنام “1955- 1975″، وهي الحرب التقليدية التي تكبدت فيها الولايات المتحدة على مدار 9 سنوات تقريبًا أكبر الخسائر البشرية في تاريخها، بعد أن فقدت نحو 58 ألف جندي بالإضافة إلى آلاف المفقودين.
تلي ذلك ظهور مفهوم “الحرب بالوكالة”، وهو لفظ أمريكي الجذور اضطرت الولايات المتحدة اللجوء لابتكاره أملًا في تحقيق مبتغاه من أطراف خارجية دون الحاجة لتكبد خسائر كبيرة في الأرواح. إذ ينطوي على تكتيك يسمح باندلاع نزاع عسكري مسلح بين طرفين متحاربين لا يرغبان في شن مواجهة مباشرة بين بعضهما البعض، وذلك من خلال استخدام حكومات دول أخرى، أو جماعات منفصلة تعيش في هذه الدول، أو أي أطراف داخلية ممكنة وتحريكها نحو نزاع عسكري ضد الطرف عدو الولايات المتحدة.
ونشبت هذه الحروب وازدهرت بفعل سنوات الحرب الباردة، واتخذت شكلًا أكثر جدية بمجرد وقوع انقلاب عام 1973 في أفغانستان، وسقوط نظام الملك محمد ظاهر شاه، وما ترتب عليه من صعود النظام الشيوعي الذي آل في نهاية المطاف إلى توقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1978. وهي المعاهدة التي كان من المفترض أن تُبيح للسوفييت التدخل العسكري في أفغانستان لقتال المتطرفين. وهو ما يعني بطبيعة الحال، أن أي اقتراب روسي من أفغانستان يعادل اقترابًا آخر من نفط الخليج لذلك عقدت واشنطن العزم على طرد السوفييت من أفغانستان دون إراقة الدماء الأمريكية، في تطبيق يُعد هو الأول من نوعه، لهذا النوع من الحروب.
وبناء عليه، دعمت الولايات المتحدة المتطرفين بالمال والعتاد الغزير. وعقب مرور عشر سنوات، انحرفت الأمور عن مجرياتها، ووجدت الولايات المتحدة أن المقاتلين اللذين كانوا مدعومين بالأمس القريب فقط منها، أنهم قد غدوا أكبر أعدائها، وذلك عقب منعطف هجمات 11 سبتمبر 2001 على برجي التجارة العالمي في نيويورك.
وهنالك ظهرت حروب الجيل الرابع، وبدورها تكون حرب أمريكية المنشأ كسابقتها كذلك، تم تطويرها لملائمة المواجهة مع تنظيم إرهابي دولي ليس له جيش واضح أو موقع محدد يمكن استهدافه. لذلك، سميت بأنها الحرب غير المتماثلة، التي لا تكون بين جيش وآخر، وتقوم الدولة فيها باستخدام كل الوسائل والأدوات المتاحة ضد العدو لإنهاكه وإضعافه من دون تحريك جندي واحد. ويكون من ضمن هذه الأدوات؛ الإعلام، والاقتصاد، والرأي العام، بما في ذلك مواطني الدولة العدو اللذين يتم استئجارهم وتجنيدهم لخدمة الأهداف التخريبية في الخارج.
انقلبت المواجهات فيما بعد، لتتخذ شكلًا متعدد الأبعاد، وذلك عبر ما يُعرف “بحروب الجيل الخامس“: وهي تلك التي تقوم على جعل التناقضات الموجودة داخل المجتمع الواحد محورًا أساسيًا في وجودها وذلك من خلال الاعتماد على احتلال العقول لا الأرض. وهي حرب يتم إجراؤها من خلال القيام بعمل عسكري غير حركي مثلما يُطلق عليه، “الهندسة الاجتماعية”، من خلال نشر المعلومات المضللة وتنفيذ الهجمات السيبرانية ذلك إلى جانب الاعتماد على التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة. وبشكل أساسي، تعتبر هذه الحروب هي حروب المعلومات والإدراك.
تسلسل التحركات العسكرية الأمريكية: انسحاب يعقبه هجوم
وفقًا لما تقدم أعلاه، تلاحظ أن الولايات المتحدة لعبت دورًا مهمًا في مسرح العنف العالمي إما من خلال المشاركة المباشرة في الصراعات العسكرية، أو من خلال إعادة تخليق وابتكار طرق جديدة تجعلها طرفًا لا غنى عنه في أي صراع عسكري محوري يجري في واحدة من بقاع الأرض. بشكل يجعل من الأقرب القول، إن الفترة بدءً من العام 1833 وصولًا للحظة الراهنة. لم تخل يومًا من ضلوع الولايات المتحدة في أي عمل عسكري على الساحة الدولية. بحيث من الممكن تصنيف التحركات العسكرية الأمريكية إلى عدة محاور؛ أولها: غزو عسكري مسلح – محدود- لدولة بلا جيش يُذكر مثل غزو بنما الذي أطلقت عليه الولايات المتحدة “عملية القضية العادلة” عام 1989. ثانيها: قصف شائن لدولة أقدمت على فعل معاكس للإرادة الأمريكية على غرار قصف هيروشيما وناكازاجي، والقصف الأمريكي على يوغوسلافيا تحت غطاء حلف شمال الأطلسي، واستمراره على مدار 78 يومًا انهارت على إثرها البلاد في 2001. ثالثهما: هجمات تهدف للاحتلال الشامل أو الاحتلال الجزئي أو حتى وضع أسس وقواعد عسكرية أمريكية في أراض أجنبية بالقوة لأسباب عدة من ضمنها دعم كفة النظام الحاكم الموالي لواشنطن بها أو لتحقيق أهداف أخرى غير شرعية، مثلما حدث في الحالات التالية؛ “قمع الانتفاضة المناهضة للولايات المتحدة في الفلبين عام 1911، التدخل الأمريكي في الدومينيكان ضد الثوار وفرض حكومة موالية للولايات المتحدة بها في عام 1916، زعزعة استقرار تشيلي واغتيال رئيسها سلفادور الليندي المعارض وإقامة حكومة موالية لواشنطن في عام 1973.
وبناءً عليه، نتناول فيما يلي خريطة الهجوم والانسحاب العسكري الأمريكي في بقاع ساخنة من العالم في محاولة لربطها بأحداث وتحركات أخرى. ونُركز في السطور التالية على الخطوط العريضة لما أقدمت عليه الولايات المتحدة من تحركات عسكرية بدءً من العام 2000:
- غزو أفغانستان: في عام 2001، اجتاحت القوات الأمريكية أفغانستان تحت ذريعة القضاء على حركة طالبان. وتشير تقديرات إلى أن عدد القوات الأمريكية التي دخلت إلى أفغانستان وصل إلى ذروته بنحو 110 آلاف في خلال 2011. وفي أغسطس 2021، أكملت الولايات المتحدة انسحابها من أفغانستان منهية بذلك ما أطلقت عليه عملية عسكرية امتدت لنحو عشرون عامًا. وهو الانسحاب الذي اعترف وزير الخارجية الأمريكي أنه لولاه لما استطاعت الولايات المتحدة توجيه مواردها العسكرية نحو دعم أوكرانيا في الحرب التي اندلعت بعد ذلك بفترة قصيرة في فبراير 2022.
- غزو العراق: هاجمت الولايات المتحدة العراق عام 2003، واحتلتها بشكل غير شرعي ومن دون الحصول على تفويض من الأمم المتحدة في شكل يمثل خرق واضح للقانون الدولي. وفي عام 2008، أبرمت الولايات المتحدة اتفاق أمنى ثنائيًا مع الحكومة العراقية يتم من خلالها اتباع سياسة الخفض التدريجي للقوات الأمريكية في العراق وصولًا إلى تاريخ ديسمبر 2011 باعتباره التاريخ المفترض أنه سيكون تاريخ الانسحاب الكامل من العراق. وقد وصل عدد الجنود الأمريكيين في عام 2007 إلى ذروته بقوام يصل إلى 167 ألفًا. ووفقًا للاتفاق المبرم، فقد تم الإعلان عن انتهاء العمليات القتالية الأمريكية في العراق بتاريخ أغسطس 2010، وتم خفض عدد القوات الأمريكية في العراق بحلول الأول من سبتمبر في العام نفسه إلى 50 ألف جندي. وفي العام 2011، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق، “باراك أوباما” الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية مع الإبقاء على سفارتي بلاده في بغداد جنبًا إلى جنب مع قنصليتيها هناك، بالإضافة إلى الإبقاء على عدد يتراوح بين 4000 إلى 5000 مقاول دفاعي. وذلك في مؤتمر صحفي مشترك أجراه، 12 ديسمبر 2011، مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.
وعند هذه النقطة، يطرح تساؤل نفسه، ماذا فعلت الولايات المتحدة في عام 2011 عقب دخول اتفاقية الانسحاب من العراق حيز التطبيق العملي؟!
- قصف ليبيا في مارس 2011: بدأ التحالف العسكري –تحت لواء حلف الناتو- وبقيادة أمريكية في قصف ليبيا بذريعة وقف فوري لإطلاق النار، وإسقاط النظام الليبي هناك، وفرض حظر طيران في سماء ليبيا. وكنتيجة لذلك، أطلقت القوات البحرية الأمريكية والبريطانية ما يزيد عن 110 صاروخ “كروز-توماهوك”. بينما قام سلاح الجو الفرنسي والبريطاني والكندي بتنفيذ عدد ضخم من الطلعات جوية في أنحاء ليبيا وفرضوا حصارًا بحريًا على شواطئها. نتج عن التدخل الأجنبي بقيادة أمريكية في ليبيا أن سقط النظام وانغمست البلاد برمتها في دوامة مستمرة من الفوضى التي لم تخرج منها حتى الآن رغم تضافر الجهود الدولية والإقليمية. ورغم ندرة المعلومات حول عدد الوفيات في صفوف المدنيين التي نجمت عن ضربات التحالف في ليبيا، إلا أن تقارير منظمة “هيومان رايتس ووتش“، تثبت أن غارات الناتو الجوية أسفرت عن مقتل مدنيين من بينهم نسبة تصل إلى الثلث من الأطفال. وتؤكد أن الناتو أخفق في الإقرار بهذه الخسائر أو في فحص كيفية وأسباب وقوعها. حيث أوردت المنظمة في تقريرها عن الفترة ما بين أغسطس 2011- إبريل 2012، أن غارات التحالف أسفرت عن مقتل عددا كبيرًا من المدنيين، جنبًا إلى جنب مع وقوع إصابات وتدمير ممتلكات. إجمالًا، ذكرت المنظمة أن الناتو شن نحو 9700 طلعة جوية شملت أعمال قصف، أسقط خلالها 7700 مقذوفة موجهة بدقة، أثناء حملة دامت سبعة أشهر.
- دعم الجماعات الإرهابية في سوريا قدمت الولايات المتحدة، بدءًا من العام 2011، دعمًا عسكريًا رسميًا للجماعات الإرهابية السورية المسلحة بغرض إسقاط النظام السوري. ونتيجة لذلك، دخلت القوات الأمريكية مع قوات أخرى تابعة للتحالف الدولي إلى عدة مناطق في سوريا واستولت عليها بشكل تام، بذريعة إقامة قواعد عسكرية لقطع الطريق على التواجد الروسي والإيراني في المنطقة. حيث انتشرت المواقع الأمريكية عبر 28 موقعًا في سوريا من ضمنها 24 قاعدة عسكرية. ويتوزع التواجد الأمريكي شرق سوريا، في المنطقة الممّتدّة شرق نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التّنف الحدوديّ، إلى الشّمال الشّرقيّ بالقرب من حقول رميلان النّفطيّة، وتتوزّع في الحسكة ودير الزّور. والناظر عبر الخريطة يُدرك كيف تطوق الولايات المتحدة منابع النفط والغاز السوري –غالبية ما تملكه سوريا من طاقة- شرق الفرات وتستأثر بها لنفسها حتى اليوم الحاضر.
رؤية تحليلية
نستخلص في ضوء ما سبق عدة نقاط نسردها فيما يلي:
- كان من المفترض لنمط الحروب وتسلسل تطورها الزمني، أن تسير هذه الحروب على نمط تصاعدي من حيث التطور في الشكل والطريقة والمضمون. بشكل نستنتج معه استبعاد حدوث حرب برية، مرشحة لأن تكون طويلة الأمد، على نطاق واسع بين جيوش نظامية في الوقت الراهن. واقتصارها فقط على نمط حروب الجيل الخامس ذات الطابع السيبراني الخطير، غير أن مجرد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، غيرت هذه الموازين. بطريقة بات يصلح معها القول إنها ربما تكون قد أعادت العجلة الزمنية إلى الوراء خاصة في ظل توارد أنباء كثيرة تؤكد وجود عناصر عسكرية أجنبية مدربة نظاميًا من الغرب –قوات عسكرية- تشارك بشكل غير معلن في المعارك ضد الجيش الروسي على الأرض. مما يعني، أننا بصدد نموذج أقرب إلى تسميته بـ “حرب عالمية فعلية”
نظرًا لتعدد الأطراف المشاركة والمنخرطة فيها بشكل أو بآخر. - يأخذنا تتبع نمط التحركات العسكرية في العالم، من انسحاب يعقبه دائمًا هجوم في بقاع أخرى، إلى استنتاج مفاده، أن أي انسحاب أمريكي من أي بقعة مُحتلة من قِبلها في العالم، لابد وأن يعقبه اندلاع حرب أو صراع عسكري في مكان آخر تمتلك فيه الولايات المتحدة، بشكل أو بآخر، مصالح من أي نوع.
- على هذا الأساس نستنتج أن انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، سينتج عنه بالضرورة اندلاع حرب تكون الولايات المتحدة أحد عناصرها في مكان آخر حول العالم..
- من ناحية أخرى، هناك عددًا من الأسباب التي تشير إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية من المرجح أن تكون بمثابة شرارة انطلاق لحروب أخرى قادمة في العالم في بقاع متفرقة. إذ إن الحديث الآن ليس مقتصرًا عن الحرب المحتمل اندلاعها حال إقدام الصين على احتلال شبه جزيرة تايوان فحسب، أو حتى الحرب النووية الكبرى التي طال الحديث عنها في وسائل الإعلام خلال الآونة الأخيرة. بل هناك أيضًا صدام لابد منه من المحتمل أن يقع في يوم من الأيام بين حلفاء اليوم “موسكو وبكين”.
- وفيما يتعلق بسيناريو صدام المستقبل بين موسكو وبكين: نجد أنه سيناريو تتزايد احتمالات وقوعه على المدى البعيد، تحديدًا بعد وفاة الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، وظهور خليفته المنتظر على الساحة الدولية. ونذهب بالاحتمالات إلى هذا السيناريو لعدة أسباب، يندرج من ضمنها أنه على الرغم من وجود تعاون غير مسبوق بين البلدين، إلا أن لكل شيء حدود يقف عندها، مثال على ذلك؛ أن كلتا البلدين لديها مصالح ورغبات استحواذيه في نطاق آسيا الوسطى، مما يضعهما في مسار تصادمي لا محالة في نهاية المطاف. كما أن الصين كقوة اقتصادية كبرى لا يمكن مقارنتها بمثيلتها الروسية، التي ستظل تقف دائما على مسافة من بكين تجعلها هي الشريك الأصغر. والقوة العسكرية، أي قوة، كي تصبح بالفعل قوة فهي في الأساس تستمد قوتها من الاقتصاد القوي.
لذلك، يعتقد أن أي تمدد في حدود الاتحاد الروسي في الوقت الراهن، مرشح لأن يقابل بتآكل مستقبلي لصالح الصين في المستقبل البعيد. خاصة في ظل ما تعاني منه موسكو من تآكل ديموغرافي يشكل خطرًا بالغًا على مستقبلها كدولة ووجودها في المستقبل القريب. بشكل يجعلها تلجأ لتعويض فجوة العمالة والمزارعون من العمالة الصينية المتدفقة من البلد المتاخم لها. وهو الشيء الذي يحدث بالفعل منذ أوائل التسعينيات، حيث بدأ الآلاف من الصينيين التوافد على المساحات الشاسعة في الشرق الأقصى الروسي بعد أن أصبح الروس يفقدون شغفهم بالبقاء فيه على حساب اهتماماتهم بالسفر للحياة في المدن الكبرى. وظل تعداد السكان الصينيين هناك في تنامي حتى اللحظة الراهنة، وبنوا لأنفسهم تجمعات سكانية مغلقة على نفسها، تعيش في داخل جدرانها تمامًا كأنك في قطعة من أرض صينية خالصة. وعلى الرغم من ندرة البيانات الرسمية في هذا الصدد، إلا أن هيئة الإذاعة البريطانية، نشرت تقريرًا، في 2018، استشهدت من خلاله ببيانات من السجلات العقارية الروسية الحكومية، كانت تُقدر أن الصينيين يمتلكون أو يستأجرون ما لا يقل عن 350 ألف هكتار من الأراضي في الشرق الأقصى الروسي، مما يعني أن نحو 16% من أراضي هذه المنطقة يشغلها الصينيون. وأشارت هيئة الإذاعة البريطانية إلى أن النسب الفعلية قد تكون في الحقيقة أعلى بمراحل. ووفقًا لمسح أجرته الأكاديمية الروسية للعلوم عام 2017، فقد قال أكثر من ثلثي الأشخاص الذين تمت مقابلتهم إن الصين تعتمد سياسة توسعية على المدى الطويل تجاه روسيا. وعبر نحو نصف المشاركين في الاستطلاع عن اعتقادهم بأن الصين تهدد وحدة أراضي روسيا، واعتقد ثلثهم أن الصين تُهدد التنمية الاقتصادية لروسيا. وهو ما يشكل نمو سكاني ونمو اقتصادي ونمو نفوذ صيني داخل الحدود الروسية، مرشح لأن يتحول لاستقطاع هذه الأراضي منها في المستقبل البعيد، مما قد ينجم عنه صدام يتخذ شكل عسكري.
- وفيما يتعلق بحروب ونزاعات أفريقيا والشرق الأوسط: نجد أنه لا غنى هنا عن الإشارة إلى أن أي حرب أو نزاع عسكري دائما ما يتصل به أزمة في الأمن الغذائي. ولدينا الحالة اليمنية خير دليل على ذلك، ومن قبلها الوضع في الصومال، علاوة على ذكر ما آلت إليه أحوال الاقتصاد السوري الداخلي المتضرر من الحرب.
.
رابط المصدر: