بعد أيام قليلة من حديث وسائل الإعلام الإيرانية المحلية حول توصل طهران إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن تبادل الأسرى، أعلن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بشكل رسمي يوم 12 مارس الجاري عن “عقد إيران خلال الأيام الماضية اتفاقًا مع الولايات المتحدة يتعلق بقضية تبادل السجناء”. ومع ذلك، لم يلبث المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن نفى ذلك، مشددًا في الوقت نفسه على مواصلة بلاده جهودها للإفراج عن السجناء الأمريكيين في طهران.
يأتي هذا في الوقت الذي لا تزال تشهد فيه المفاوضات النووية لإيران مع القوى الكبرى عثراتِ تقدمٍ واضحة منذ شهر أغسطس الماضي، في ظل تبدل المواقف ودعوة إيران لاستئناف المفاوضات ورفض الولايات المتحدة هذه الدعوات لعدة عوامل من بينها عدم وضوح الرؤية حتى الآن بشأن العثور على مواد مشعة في 3 مواقع نووية إيرانية غير معلن عنها وتوتر علاقات البلدين، وتوتر علاقات طهران أيضًا مع الاتحاد الأوروبي، بعد اندلاع احتجاجات غير مسبوقة في إيران في شهر سبتمبر الماضي نددت واشنطن بطريقة التعامل معها. وفي ضوء ذلك، نتناول فيما يلي أهمية تبلور هذه التطورات بين طهران وواشنطن في الوقت الحالي.
تأكيد إيراني ونفي أمريكي
صرّح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يوم 12 مارس الجاري قائلًا إنه “فيما يتعلق بقضية تبادل الأسرى بين إيران والولايات المتحدة، فقد توصّلنا إلى اتفاق خلال الأيام الأخيرة، وإذا سارت الأمور على ما يُرام لدى الجانب الأمريكي، فإنني اعتقد أننا سوف نشهد تبادلًا للأسرى في فترة قصيرة”. وأكد عبد اللهيان أنه “من جانبنا، كل شيء جاهز، في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة حاليًا على التنسيق الفني النهائي”.
وبعد ساعات من تصريحات عبد اللهيان، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، إنه “قد تم التوصل في شهر مارس من العام الماضي (2022)، بتدخل أحد الوسطاء، إلى اتفاق مكتوب فيما يتعلق بتبادل السجناء. وقد وقّع عليه الممثلُ الأمريكي المرسل رسميًا من جانب واشنطن، إلا أنه لم يَجرِ تنفيذُه حتى الآن من قِبل الولايات المتحدة”. وأضاف كنعاني “جرى خلال الأسابيع الأخيرة تبادل لرسائل غير مباشرة بغية مواصلة الحديث في هذا الشأن”. ودعا المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إلى عدم “وقوع هذا الملف للتأثيرات السياسية”.
وفي أعقاب الإعلان الإيراني، سارعت الولايات المتحدة إلى نفي ما قالته إيران، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إن “تصريحات المسؤولين حول التوافق بشأن تبادل السجناء كذب قاسٍ يهدف إلى زيادة آلام عائلات هؤلاء السجناء”. وفي الوقت ذاته، أوضح برايس أن “الولايات المتحدة تسعى من دون توقف إلى تهيئة الظروف لإطلاق سراح 3 من مواطنيها المسجونين في إيران، ولن تتوقف هذه المجهودات حتى يعودوا إلى عائلاتهم”.
بالتزامن مع ذلك، قالت مصادر إيرانية إن دولتين في منطقة الشرق الأوسط شاركتا في المباحثات الإيرانية الأمريكية “غير المباشرة” الخاصة بتبادل السجناء. ويُشار إلى أن تقارير إعلامية، من بينها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، قد ذكرت في وقت سابق أن “وزيري الخارجية القطري والإيراني قد تحدثا، حين التهنئة بتوصل إيران إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية، بشأن ضرورة الاهتمام الإنساني بمسألة تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة”.
وتلعب دولتا قطر وسلطنة عمان منذ سنوات دورًا بارزًا في الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران في ملف المفاوضات النووية، وكانت الدوحة قد استضافت منتصف العام الماضي محادثات غير مباشرة بين طهران وواشنطن قيل إن الطرفين تطرقا خلالها إلى ملفات عالقة بينهما على رأسها الملف النووي وقضية تبادل السجناء.
أما على المستوى الدولي، فتلعب بريطانيا أيضًا دورًا في تحريك ملف تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة إلى الأمام؛ فقد أشارت، على سبيل المثال، قناة (NBC) الإخبارية الأمريكية في 15 فبراير 2023 “ونقلًا عن مصادر مطلعة” إلى أن “بريطانيا تبذل مجهودات في سبيل المضي قدمًا في المباحثات الأمريكية الإيرانية المتعلقة بتبادل السجناء”.
لماذا تحتل قضية السجناء الأمريكيين والإيرانيين أهمية خاصة؟
تُعد قضية السجناء الأمريكيين في إيران ونظرائهم الإيرانيين في الولايات المتحدة واحدة من بين القضايا الأكثر إثارة للجدل في العلاقات الإيرانية الأمريكية، حيث قامت الولايات المتحدة ولأسباب متعددة خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها انتهاك العقوبات المفروضة على طهران، باحتجاز عشرات الإيرانيين، من بينهم أفراد يحملون جنسيات مزدوجة أمريكية إيرانية، وكذا تعتقل إيران عددًا آخر من الأمريكيين تتهمهم بـ “التجسس” للخارج. ومن الجدير الإشارة إلى أن إيران لا تعترف بمسألة ازدواج الجنسية من الناحية القانونية، لذا فإنها تعد المواطنين الأمريكيين-الإيرانيين إيرانيين فقط من دون جنسية أخرى.
ويثير اعتقال الأمريكيين في إيران باستمرار حالة من الغضب والجدل داخل المجتمع ووسائل الإعلام الأمريكية المختلفة، وهو ما يضغط ويدفع الإدارة الأمريكية بشكل متواصل إلى تناولها ومحاولة حلحلتها. ويعتبر أيُ رئيس أمريكي الإفراج عن مواطنين لبلاده مكاسب سياسية له على الناحية الأخرى. وفي الوقت نفسه، تصر إيران على الاستمرار في جهود الإفراج عن مواطنين لها معتقلين في الولايات المتحدة. وانعكاسًا لهذه الحالة، أصبح ملف تبادل السجناء بين طهران وواشنطن إحدى مفاتيح التوصل لاتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى، حيث جرى اعتقال مواطنين أوروبيين أخرين في إيران خلال السنوات الماضية.
ومن زاوية أخرى، تسعى إيران مقابل الإفراج عن مواطنين أمريكيين، أو أوروبيين، إلى الحصول على بعضٍ من أرصدتها الدولارية المجمدة في الخارج. فقد أفرجت طهران في مارس 2022 عن مواطنين بريطانيين اثنين يحملان الجنسية الإيرانية مقابل الحصول على مبلغ مالي ضخم كان بمثابة دين أعلنت لندن عن تسديده وهو بقيمة 400 مليون جنيه استرليني (حوالي 467 مليون يورو)، وذلك بالتزامن مع “الإفراج المؤقت” داخل البلاد عن المواطن البريطاني الأمريكي الإيراني “مراد طاهباز”. وكان هذان المواطنان البريطانيان هما الصحفية “نازنين زاغري راتكليف” ورجل الأعمال “أنوشه آشوري”.
أما فيما يخص العملية نفسها مع الأمريكيين فی الوقت الراهن، فإن إحدى النقاط العالقة تتمثل في تسوية قضية الإفراج عن أموال مجمدة لطهران في كوريا الجنوبية تصل إلى 7 مليارات دولار أمريكية تريد إيران الحصول عليها مقابل إتمام الصفقة مع واشنطن، حسب تصريحات صحفية لمصدر مطلع على ملف تبادل الأسرى لم يتم الكشف عن اسمه.
أبرز السجناء الأمريكيين والإيرانيين
تسعى الولايات المتحدة خلال الآونة الأخيرة إلى الإفراج عن 3 سجناء أمريكيين معتقلين في إيران بتهم “التجسس”، بينما تطالب إيران منذ سنوات بالإفراج عن حوالي 13 سجينًا إيرانيًا في الولايات المتحدة، ومن بين أبرز السجناء الأمريكيين يجيء:
“سياماك نمازي”: هو رجل أعمال إيراني أمريكي يبلغ من العمر 51 عامًا كان يعمل مديرًا تنفيذيًا لإحدى الشركات العاملة في مجال النفط. تم اعتقاله في سجن “إيفين” الإيراني في 13 أكتوبر 2015 بتهمة “التجسس والتعاون مع الحكومة الأمريكية”. وفي 22 فبراير 2016، ألقت السلطات الإيرانية القبض على والد سياماك وهو “باقر نمازي” الذي يحمل أيضًا الجنسية الأمريكية وكان حاكمًا لمحافظة “خوزستان “الأحواز” غربي إيران في عهد الشاه الأخير محمد رضا بهلوي، حيث قُبض عليه عند وصوله إلى إيران لزيارة نجله. وقد تم الحكم في أكتوبر 2016 على سياماك وأبيه بالسجن 10 سنوات بالتهمة نفسها.
“عماد شرقي”: رجل أعمال إيراني أمريكي كان يعمل في شركة استثمار تكنولوجي، اعتقل هو وزوجته في سجن “إيفين” في 23 أبريل 2018 حين زيارته إيران. وقد قُدِّم شرقي إلى المحكمة في نوفمبر 2020 بتهمة “التجسس” وأدين بالسجن 10 سنوات.
“مراد طهباز”: تاجر وخبير يعمل في إحدى المنظمات المعنية بمجال البيئة ويحمل إلى جانب جنسيته الإيرانية والأمريكية الجنسية البريطانية. أدين في 2019 بتهمة “التجسس لصالح الولايات المتحدة وتقويض الأمن القومي الإيراني”. وجرى إطلاق سراحه بكفالة في يوليو 2022، إلا أن المساعي لا تزال مستمرة للإفراج عنه بشكل دائم.
أما السبب الرئيس لكثير من المدانين الإيرانيين في الولايات المتحدة، فهو انتهاك العقوبات المفروضة على إيران على أصعدة مختلفة. ومن بين هؤلاء المدانين الإيرانيين وفقًا لبيانات وزارة العدل الأمريكية 7 إيرانيين مزدوجي الجنسية واثنان لديهما إقامة دائمة في الولايات المتحدة و4 مواطنين إيرانيين لا يملكون وضعًا قانونيًا في الولايات المتحدة. أما من بين أبرز هؤلاء المدانين: “بهروز بهروزيان، ورضا أولانجيان، وحسن علي مشير فاطمي، وصدر عماد فايز، ومهدي هاشمي، ومنصور أربابسيار الذي أدين بتهمة التآمر لاغتيال سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن عام 2011”.
دوافع إعلان إيران الأحادي عن “اتفاق” لتبادل السجناء رغم النفي الأمريكي
رغم النفي الأمريكي، إلا أن طهران أصرت على أن الاتفاق قد تم وأن ما ينتظر تنفيذه هو بعض القضايا التقنية. وعلى أي حال، فإن دوافع إيران من وراء هذا الإعلان في التوقيت الراهن تكمن فيما يلي:
1 – الحصول على مبلغ ضخم من الأموال المجمدة في كوريا الجنوبية:
تهدف إيران من وراء السعي إلى عقد صفقة تبادل سجناء مع الولايات المتحدة إلى الحصول على مبالغ مالية ضخمة في كوريا الجنوبية كان قد تم تجميدها في وقت سابق إثر فرض الولايات المتحدة عقوبات على قطاع النفط الإيراني عقب إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، خروج بلاده من الاتفاق النووي في مايو 2018.
وليست هذه المساعي وليدة اللحظة، بل تعود إلى سنوات مضت، وكانت إيران قد طرحت هذه القضية بعد تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة في يناير 2021. ويستحوذ هذا الملف على اهتمام واسع في إيران منذ ذلك الوقت. وفي هذا الإطار، نقلت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية (ايرنا) في أكتوبر 2022 عن مسؤولين إيرانيين “توقعهم قرب الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية في إطار صفقة الإفراج عن سجناء بين إيران والولايات المتحدة”.
ومثلما يجري تداول هذه القضية في إيران على هذا النحو، تحدثت بعض المؤسسات الفكرية الأمريكية العام الماضي حول الشأن نفسه وتوقعت أن تفرج إدارة الرئيس جو بايدن عن 7 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في سول. وكان من بين هذه المؤسسات “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” الأمريكية (FDD) التي قالت في تقرير لها، صدر خلال الأيام التالية لزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الولايات المتحدة في شهر سبتمبر الماضي للمشاركة في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة حينذاك، إن “الولايات المتحدة قد تصدر إعفاءً أمنيًا قوميًا يُسمَح على أساسه لحكومة كوريا الجنوبية بالإفراج عن 7 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في حسابات بمصارف بكوريا الجنوبية”.
2 – تشجيع الولايات المتحدة على العودة إلى طاولة المفاوضات النووية
يتزامن هذا الإعلان الإيراني (من جانب واحد) عن عقد اتفاق تبادل سجناء مع واشنطن من ناحية مع تعثر المفاوضات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى في فيينا منذ شهر أغسطس الماضي، وزيارة يقوم بها نائب وزير الخارجية الإيراني ورئيس مجموعة المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كني، إلى سلطنة عمان التقى خلالها بوزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي، ونائبه.
قد تقودنا هذه المعطيات إلى أن الهدف الثاني والأكثر أهمية لدى طهران من وراء إعلانها في هذا التوقيت عن عقد اتفاق مع الولايات المتحدة هو تشجيعها لواشنطن على العودة إلى طاولة المفاوضات النووية والتي قد تعثرت منذ شهر أغسطس الماضي لأسباب عدة من بينها عثور الوكالة الدولية للطاقة الذرية على آثار مواد مشعة في 3 مواقع نووية غير معلن عنها داخل إيران، وتوتر العلاقات بين طهران والغرب بوجه عام بعد اندلاع الاحتجاجات المحلية في إيران العام الماضي، علاوة على اضطراب العلاقات بسبب الموقف الإيراني من الحرب في أوكرانيا.
يضاف إلى ذلك أن الإعلان الإيراني عن عقد اتفاق مع واشنطن جاء بعيد التوصل إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية ينص على عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في غضون شهرين اثنين من يوم 10 مارس 2023. وتدرك إيران أن انعقاد الاتفاق بوساطة من الصين قد يثير تحفظًا في واشنطن؛ لأنه قد يُفهم على أنه “تنامي لدور بكين في الشرق الأوسط على حساب المكانة الأمريكية”. ولمّا كانت إيران ترغب أساسًا في التوصل إلى اتفاق نووي مع واشنطن، فإن الإعلان الإيراني الأحادي بشأن عقد اتفاق لتبادل السجناء مع واشنطن قد تقصد طهران من ورائه تحفيز الولايات المتحدة على موازنة ذلك الدور الصيني أو الوقوف أمام نموه عن طريق عقد اتفاق نووي مع طهران تكون واشنطن فيه اللاعب الرئيس.
.
رابط المصدر: