فيليب سميث
في 25 شباط/فبراير، ضربت الطائرات الحربية الأمريكية أهدافاً في منطقة البوكمال السورية التي تستخدمها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران لتهريب الأسلحة وفرض سيطرتها الاستراتيجية وشن هجمات ضد مختلف الأعداء في سوريا. وتسببت الغارة في وقوع خسائر قليلة. وقد يرغب بايدن في إحياء الاتفاق النووي مع إيران، لكنه بعث برسالة مفادها أنه لن يفعل ذلك بأي ثمن. وإذا كان هذا العمل الدفاعي في صحراء شرق سوريا أكثر من مجرد حدث واحد، فسيكون بمثابة تغيير كامل عن الأخطاء التي وقعت عام 2015.
في 25 شباط/فبراير، ضربت الطائرات الحربية الأمريكية أهدافاً في منطقة البوكمال على الحدود الشرقية لسوريا التي تستخدمها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران بشكل كبير لتهريب الأسلحة وفرض سيطرتها الاستراتيجية وشن هجمات ضد مختلف الأعداء في سوريا، من بينهم تنظيم «الدولة الإسلامية». وأصابت الغارة الجوية سبعة أهداف، ودمرت عدة منشآت لكنها تسببت في وقوع خسائر قليلة. ووفقاً لتقارير صحفية، اختار الرئيس جو بايدن هدفاً أكثر تواضعاً أو “متوسطاً” من مجموعة الأهداف التي عرضها عليه فريقه الاستخباراتي بهدف الانتقام من هجوم شنته ميليشيا شيعية مدعومة من إيران في 15 شباط/فبراير في أربيل، والذي قُتِل فيه مقاول أمريكي وأصيب تسعة آخرون، بينهم جندي أمريكي.
وفي حين أفادت وسائل إعلام الميليشيات الشيعية عن مقتل أحد عناصر «كتائب حزب الله» المدعو راحي سلام في الضربة الجوية، إلا أنها قللت مع ذلك من حجم الانتقام الأمريكي وحدّته. وفي الوقت نفسه، أجمع منتقدو العملية على عدم أهمية تلك الخطوة. فقد شن الإسرائيليون ضربات مماثلة أكثر فتكاً في سوريا كل أسبوع أو نحو ذلك على مدى العامين الماضيين، حتى وإن لم تكن ناتجة عن استفزازات سابقة. وفي هذا السياق، نشر الباحث في شؤون الميليشيات نيكولاس كروهلي تغريدة وقحة جاء فيها: “لحظة صمت على مصنع الإسمنت المهجور المصنف من الدرجة الثانية في ضواحي البوكمال”.
ومع ذلك، لم يكن ضرب وكلاء إيران في سوريا عمليةً تستحق هذا القدر من الاستخفاف. وأحد أسباب ذلك هو أن بايدن لفت إلى أنه تعلّم من الإخفاقات السابقة للرئيس باراك أوباما من حيث الرضوخ للعدائية الإيرانية في محاولة لكسب استحسان دبلوماسي مع طهران، وهي خطوة اعتبرها الإيرانيون بشكل محق بمثابة تصريح لمواصلة أعمالهم دون خوف من أي عواقب ملموسة. (وهذا مهم بشكل خاص في ضوء الرغبة المعلنة للإدارة الأمريكية الحالية في إعادة الدخول إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أي الاتفاق النووي الموقّع مع إيران بقيادة الولايات المتحدة عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب في عام 2018).
بالإضافة إلى ذلك، فإن استهداف أصول عراقية خاضعة للسيطرة الإيرانية في سوريا قد جنّب رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي صعوبات سياسية أكبر في الداخل حيث تَعتبر الميليشيات أساساً أن رئيس الوزراء دُمية أمريكية، (وتشير التقارير الإضافية إلى أن الكاظمي ربما يكون قد شارك معلومات استخباراتية مع الولايات المتحدة حول وجود الميليشيات في البوكمال). كما أنه لعب دوراً مفيداً في تسليط الضوء على سؤال محرج للتنظيمات المسلحة التي تم إنشاؤها للدفاع عن العراق من المحتلين الأجانب، ودُمجت الآن بشكل قانوني في جهاز الأمن المركزي في بغداد: ما الذي تفعله أصلاً تلك التنظيمات في سوريا؟
ومنذ أواخر عام 2012، بدأ إرسال المقاتلين الشيعة العراقيين بالآلاف إلى سوريا. وجاء البعض كمتطوعين في ما اعتقدوا أن عملية الإرسال هي مهمة من الله “للدفاع” عن مقام السيدة زينب جنوب دمشق. وكان بعضهم الآخر يبحث عن المغامرة. لكن آخرين كانوا يسعون وراء الراتب. ومهما كان الدافع، فبالنسبة لإيران لم يكن لهذا التجنيد الجماعي والنشر الحاشد سوى هدف استراتيجي واحد، وهو إنقاذ نظام الرئيس السوري بشار الأسد المحاصر والمتخبط في الحرب آنذاك من حركة احتجاجية تحوّلت إلى بداية تمرد سني. وبحلول عام 2016، تم استخدام أكثر من 20 منظمة لتجنيد ونشر ما لا يقل عن 10,000 إلى15,000 مقاتل شيعي عراقي.
ووصلت الذروة في عام 2015 واستمرت نحو عامين، بالتزامن مع المعارك الشديدة التي قادتها إيران لاستعادة حلب من المتمردين السوريين والجهاديين السنة. ومنذ ذلك الحين، انحسر التجنيد العلني للشيعة العراقيين للقتال في سوريا بشكل كبير، لا سيما بعد توقف العمليات العراقية لسحق تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموصل عام 2017.
وتتمركز الجماعات العراقية التي لا تزال تعمل في سوريا بشكل أساسي في دمشق أو في مناطق شرق سوريا بالقرب من دير الزور. وفي الواقع، أصبحت هذه المنطقة مرتعاً جيوستراتيجياً رئيسياً للنشاط الإيراني في الشرق الأوسط لأنها المكان الذي سيتم فيه بناء ما يسمى بالجسر البري الذي يربط طهران بالبحر المتوسط. والجسر البري – الذي هو بالفعل خط اتصال مباشر لمرور العناصر ونقل العتاد – كان حلماً طال انتظاره للجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» الإيراني، الذراع العسكري لـ «الحرس الثوري الإسلامي»، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية في بغداد قبل عام.
وكان جزء لا يتجزأ من مشروع سليماني، والذي لا يزال قائماً، هو نشر الميليشيات الشيعية التي يسيطر عليها «فيلق القدس» على طول هذه المنطقة، مما يسمح لها بالتسلل بسهولة إلى منطقة البوكمال والخروج منها عبر بلدة القائم الحدودية العراقية. ومن بين الجماعات المتشددة المنتشرة هناك «حركة حزب الله النجباء»، و«كتائب حزب الله» (إحدى الميليشيات التي تم استهدافها في 25 شباط/فبراير)، و«سرايا الجهاد»، و«حزب الله» اللبناني، بالإضافة إلى فصيل أفغاني وباكستاني تحت إدارة إيرانية. وقد قامت جميع هذه الميليشيات بتهريب أسلحة متطورة عبر هذه البوابة المهمة، ومن أجل ضمان ديمومة عملياتها وولاء المجتمعات المحلية التي يجب عليها اجتيازها، أفادت حتى بعض التقارير أنها عرضت مبالغ مالية للسنة المحليين للانضمام إلى قواتها شبه العسكرية أو حتى التحوّل إلى المذهب الشيعي.
ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة، أصبح وجود الميليشيات في بلد أجنبي لا يحظى بشعبية متزايدة في العراق، لا سيما بين السكان الشيعة الهائجين والشباب الذين يرون أن هذه الميليشيات هي ليست استنزاف للموارد العراقية فحسب، بل كونها أيضاً دليل كبير على أن العراقيين من أبناء البلاد لا يساوون ما يزيد قليلاً عن وقود مدفعي للطموحات الإستراتيجية لـ «فيلق القدس». وعلى وجه الخصوص، تشكل «كتائب حزب الله»، عنصراً مركزياً في عجلة طهران العدائية في العراق، وبالتالي تشكّل مصدر استياء كبير بين العراقيين. وبالنسبة للبنتاغون، إنها واحدة من الجماعات الإرهابية الأسوأ سمعة في العراق.
تأسست «كتائب حزب الله» في عام 2005، وسرعان ما أصبحت رائدة في مجال الأسلحة المتقدمة، مثل العبوات الناسفة التي اخترقت المركبات المدرعة الأمريكية أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق. وقد لعب هذا التنظيم الإرهابي، المدرج على قائمة الولايات المتحدة للإرهاب، دوراً محورياً في المساعي الإيرانية لمهاجمة القوات الأمريكية خلال الاحتلال الأمريكي، بتجنيده المقاتلين في سوريا، وهو يشكل حالياً ركيزة أساسية في الجهود الإيرانية لتطوير عدة ميليشيات شيعية معترف بها رسمياً والسيطرة عليها أيضاً. وقد قُتل أحد مؤسسيها وأحد مساعدي سليماني الرئيسيين، هو أبو مهدي المهندس، مع سليماني في 3 كانون الثاني/يناير 2020، في غارة جوية أمريكية بالقرب من مطار بغداد الدولي. وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، تعرضت «كتائب حزب الله» لهجوم من قبل القوات الأمريكية لمشاركتها في تهديد السفارة الأمريكية وتهديداتها للأفراد العسكريين الأمريكيين.
أما الجماعة الأخرى المذكورة التي استهدفتها القوات الأمريكية في 25 شباط/فبراير، أي «كتائب سيد الشهداء»، فهي مجرد جماعة منشقة عن «كتائب حزب الله». وتم تشكيلها في أوائل عام 2013، ظاهرياً بسبب نزاع على القيادة داخل صفوف المنظمة الأم. ومنذ ذلك الحين، نشرت «كتائب سيد الشهداء» مرشحين للبرلمان العراقي في الانتخابات الوطنية وجنّدت آلاف المقاتلين للقتال في العراق وسوريا، وكل ذلك بينما بقيت بالكامل تحت السيطرة الإيرانية. ومن المحتمل أن يكون لـ «كتائب سيد الشهداء» دور في هجوم جماعة «سرايا أولياء الدم» في أربيل، نظراً لتأثيرها على الجماعات المحلية في تلك المنطقة.
وفي حين ربما يكون الرئيس بايدن قد قاد حملةً لتجديد الدبلوماسية مع إيران، إلّا أنه أشار أيضاً إلى أن معاودة الدخول في اتفاق نووي لن يكون سريعاً أو سهلاً وحذر من مثل هذا الاحتمال بشأن الحد من سوء سلوك إيران في المنطقة. ولطالما أدركت إيران أن قوتها الحقيقية تكمن في التنظيمات العاملة بالوكالة عنها في مختلف أنحاء المنطقة. إنه افتراض ذكي، مبني على الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن إيران كانت قادرة، خلال السنوات الخمس الأخيرة، على توسيع نفوذها إلى ما وراء حدودها مع الإفلات من العقاب، معتمدة على استماتة أمريكا للتوصل إلى اتفاق نووي. بعبارة أخرى، كان عليها أن تفعل الكثير مما تريد أن تفعله القنبلة (النووية)، دون الاستفادة من القنبلة.
وبعد مضي شهر على استلام بايدن منصبه، لا شك في أن البيت الأبيض تعلّم أيضاً درساً مهماً، وهو أن الشرق الأوسط تغيّر كثيراً عما كان عليه قبل وصول ترامب إلى الرئاسة. فقد برزت تركيا كقوة تدخل رئيسية، وهي على خلاف مع إيران في شمال العراق على نحو متزايد. وفي غضون ذلك، قامت دول الخليج بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل سواء بعدل أو بحكم الأمر الواقع. ومع القضاء على “دولة الخلافة” التي أسسها تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق، ظهرت قائمة جديدة من الشكاوى الاجتماعية والاقتصادية الموجهة ضد الحكومات المركزية والبنى غير الحكومية أو شبه الحكومية التي تبقيها قائمة. لذلك فإن احتواء إيران يعني باختصار إضعاف الميليشيات، أينما وُجدت على طول “الجسر البري” الذي أقامه سليماني لأن تمركزها نادراً ما يكون مهماً، وهذا أمر يدركه الإسرائيليون جيداً.
وقد يرغب بايدن في إحياء الاتفاق النووي مع إيران، لكنه بعث برسالة مفادها أنه لن يفعل ذلك بأي ثمن. وإذا كان هذا العمل الدفاعي في صحراء شرق سوريا أكثر من مجرد حدث واحد، فسيكون بمثابة تغيير كامل عن الأخطاء التي وقعت عام 2015.
رابط المصدر: