أعلن الاتحاد السوفيتي عن استسلام ألمانيا النازية، في 9 مايو 1945، في الحرب العالمية الثانية التي تُعد النزاع العسكري الأكبر على مستوى العالم بشكل من الممكن القول إن البشرية لم تشهد له مثيلًا بعد. لذلك، أصبحت احتفالات ذكرى يوم النصر، في 9 مايو، من كل عام، تمثل دلالة وطنية شديدة الأهمية في نفوس الروس.
ويتزامن هذا اليوم عادة مع تنظيم احتفالات واستعراضات عسكرية عادة ما تجري، بهذه المناسبة، في الساحة الحمراء في وسط موسكو. غير أن هذا الحدث، يكتسب أهمية محورية هذا العام، وسط ترقب عالمي شديد انتظارًا للطريقة التي سيقوم الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، باستغلال هذا الحدث لأجلها، خاصة في ظل تصاعد أحداث الحرب الروسية الأوكرانية الجارية في الوقت الراهن.
ووفقًا لما أوردته تقارير إعلامية، فإنه من المقرر أن يُلقي الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، كلمة في الميدان الأحمر قبل بدء استعراض الجنود والدبابات والصواريخ الباليستية العابرة للقارات. فيما أوضحت وزارة الدفاع الروسية أنه من المقرر إقامة استعراضات طيران فوق كاتدرائية القديس باسيل، وستشارك في هذا الاستعراض مقاتلات تفوق سرعتها سرعة الضوء وقاذفات “تو-160” الاستراتيجية. وسيضم الاستعراض ولأول مرة منذ عام 2010 طائرة القيادة (إل-80) التي تحمل اسم “يوم القيامة”، والتي ينوط بها حمل كبار الضباط في حالة نشوب حرب نووية.
وبوجه عام، يتزامن الاقتراب من ذكرى “يوم النصر” هذا العام، مع حالة من الترقب الدولي التي تسترعي معها ضرورة التوقف لمتابعة أبرز التطورات المتلاحقة التي سبقت هذا اليوم، أملًا في وضع تكهنات بشأن السيناريوهات المحتملة التي ستنتج عنه.
نقاط فاصلة: أحداث سبقت يوم النصر
تداولت قناة “سي.إن.إن” الأمريكية تقارير، بتاريخ 3 مايو، تفيد بأن مسؤولين غربيين وأمريكيين يعتقدون أن الرئيس الروسي سيحاول الاستفادة من الأهمية الرمزية والقيمة الدعائية لاحتفالات ذكرى يوم النصر من خلال الإعلان عن إما إنجاز عسكري في أوكرانيا، أو تصعيد كبير في الأعمال العدائية، أو كليهما. لذلك، ذهبت آراؤهم إلى أنه ربما يعلن الحرب على أوكرانيا بشكل رسمي، مما يسمح له بالتعبئة الكاملة لقوات الاحتياط الروسية.
ولقد ترافقت هذه التقارير الإعلامية مع تصريحات من مسؤولين غربيين بارزين، من ضمنهم المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، “نيد برايس”، الذي صرح الاثنين 2 مايو، “إن هناك سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن الروس سيفعلون كل ما في وسعهم لاستخدام 9 مايو لأغراض دعائية”. مضيفًا أنه اطلع على التكهنات بشأن إعلان روسيا للحرب الشاملة على أوكرانيا، قائلًا “ستكون مفارقة كبيرة إذا استغلت موسكو مناسبة يوم النصر لإعلان الحرب، الأمر الذي سيسمح في حد ذاته بزيادة المجندين بطريقة لا يمكنهم القيام بها الآن، بطريقة من شأنها أن ترقى إلى الكشف للعالم عن فشل جهودهم الحربية، وأنهم يتخبطون في حملتهم العسكرية وأهدافهم العسكرية”.
ردًا على ذلك، نفى المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، الأربعاء 4 مايو، كل هذه التكهنات الغربية، وقال، ردًا على سؤال حول اعتزام بوتين إعلان الحرب على أوكرانيا في التاسع من مايو، “لن يحدث أمر كهذا، هذا هراء”. وأضاف بيسكوف أنه لا ينبغي للناس الاستماع إلى التكهنات بإمكانية اتخاذ قرار بشأن التعبئة الوطنية.
غير أن تصريحات، “بيسكوف”، التي كانت تُبشر بشيء ولو طفيف -إن لم يكن بتهدئة- سيكون ببقاء الأمور على ما هي عليه على الأقل، سرعان ما تم إرفاقها بتصريحات أخرى لاحقة لا تعطي أي دلالات سوى على اتساع نطاق الأطراف المتورطة في الحرب. فقد أعلن المتحدث الرسمي باسم الكرملين، الجمعة 6 مايو، أن “بولندا كانت منذ فترة طويلة غير ودية، وفي الأشهر الأخيرة أصبحت عدائية”. موضحًا أنه ربما تكون بولندا تُشكل تهديدًا واضحًا لوحدة الأراضي الأوكرانية.
وبتاريخ 6 مايو، بدأت صحف روسية في تداول تقارير إعلامية، تحتوي على تصريحات الرئيس البولندي، “أندريه دودا”، بشأن خطط وارسو تجاه أوكرانيا في مناسبة يوم استقلال الشتات البولندي. حيث قال، “إنه لن يكون هناك المزيد من الحدود بين البلدين”. مشيرًا إلى أن شعبي هذين البلدين سيكونان قادرين على العيش معًا على هذه الأرض.
من ناحية أخرى، ظهرت استعدادات عسكرية تجري على الحدود البيلاروسية الأوكرانية المشتركة. ففي صباح 4 مايو، شوهدت معدات عسكرية بيلاروسية تتحرك من مينسك باتجاه الحدود المشتركة مع أوكرانيا وليتوانيا. وكانت تلك المعدات تشتمل على فرقة من منظومة الصواريخ المضادة للطائرات “إس-300″، التابعة للقوات المسلحة البيلاروسية، في خطوة أثارت القلق والمخاوف لدى دول الجوار البيلاروسي التي خشيت من احتمال تلقيها لضربات صاروخية موجهة إليها من الأراضي البيلاروسية.
فيما نفت وزارة الدفاع البيلاروسية، في الصباح نفسه، كل هذه المخاوف، مؤكدة أن الجيش البيلاروسي بدأ بالفعل في تنفيذ تدريبات واسعة النطاق لاختبار مدى استعدادات القوات المسلحة للرد السريع على الأزمات المحتملة ومواجهة التهديدات الجوية والبرية.
وفي مقابلة خاصة أجراها الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” مع وكالة “اسوشيتد برس” بتاريخ 5 مايو، ألقى “لوكاشينكو” بعدة تصريحات ليس من الممكن النظر إليها إلا من زوايا تنذر بتطورات شديدة الخطورة؛ فقد تحدث عن السلوك العدائي لبولندا واتهمها بمحاولة المساس باستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا، وقال إنه، “إذا استمرت بولندا في التصرف على هذا النحو، فإن روسيا البيضاء وروسيا وأوكرانيا ستقاتل معًا لحماية استقلال أوكرانيا”. وشدد “لوكاشينكو” على أنه لن يكون في مقدور الأوكرانيين أنفسهم مواجهة ما يسمى بالحلف الغربي الحالي. ووعد ببذل قصارى جهده للإبقاء على أوكرانيا داخل حدودها.
وأكد “لوكاشينكو”، خلال اللقاء نفسه، أن الصراع في أوكرانيا من الممكن أن ينتقل إلى مستوى مختلف نوعيًا إذا لم يتوقف الآن. وقال، “الآن، هي اللحظة التي ينتقل فيها هذا الصراع إلى مستوى نوعي جديد، وسيكون من الصعب إيقافه”. وعبر الرئيس البيلاروسي كذلك عن ضرورة وقف الصراع بين روسيا وأوكرانيا طالما أنه يوجد هناك فرصة كبيرة لذلك ولم ينتقل بعد إلى مستوى نوعي جديد. مؤكدًا أن روسيا لم تستخدم بعد أسلحتها الأكثر خطورة، وهي إمكانية أشار “لوكاشينكو” أنها متاحة بالفعل لدى روسيا. حيث قال، “أنا لا أتحدث عن أسلحة نووية. روسيا لديها بالفعل ترسانة ضخمة”.
من جهة أخرى، نشر الموقع الرسمي للكرملين اليوم 8 مايو، بيانًا حول برقيات التهنئة التي أرسلها “بوتين” إلى قادة ومواطني عدد من الدول من ضمنها شعبي جورجيا وأوكرانيا، وقد ضمت قائمة الأطراف المُرسل إليها برقيات دولًا مثل “أذربيجان، وأرمينيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، ومولدوفا، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وأبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وجمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوهانسك الشعبية”. وقال بوتين في برقياته، “إن الواجب المشترك اليوم هو منع عودة النازية التي جلبت الكثير من المعاناة للناس من مختلف البلدان. ومن الضروري الحفاظ على الحقيقة حول أحداث سنوات الحرب والقيم الروحية المشتركة وتقاليد الصداقة الأخوية ونقلها إلى الأجيال القادمة”.
وفي برقيتي تهنئة أرسلهما لرئيسي جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين، أشار الرئيس الروسي إلى أن “جنودنا اليوم، مثل أسلافهم، يقاتلون جنبًا إلى جنب من أجل تحرير وطنهم من نجس النازية”، معبرًا عن ثقته في أنه “كما في 1945، النصر سيكون لنا”. وفي رسالة موجهة إلى قدامى المحاربين في الحرب الوطنية العظمى ومواطني أوكرانيا، أكد بوتين عدم جواز السماح لـ “الورثة الأيديولوجيين لأولئك الذين هزموا في الحرب الوطنية العظمى”، بالانتقام.
احتفالات “يوم النصر”: دلالات وسيناريوهات
في ضوء ما سبق، يقود المشهد الراهن إلى استخلاص عدة سيناريوهات محتملة قد تترتب على احتفالات، “يوم النصر” المرتقب إحياؤها يوم غد 9 مايو. وتذهب هذه السيناريوهات إلى نتائج متعددة، نسردها كالتالي:
- سيناريو ضم أراضٍ جديدة إلى روسيا:
يذهب هذا السيناريو إلى أن بوتين سيكون بحاجة للإعلان عن انتصارات جديدة في هذا اليوم. ويُرجح أن هذه الانتصارات ستدور حول ضم أجزاء جديدة تحت علم دولة الاتحاد الروسي، ويُحتمل أن يشتمل هذا السيناريو على، أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، وخيرسون، ولوهانسك ودونيتسك، التي ستقوم بإجراء استفتاءات شعبية بهذا الصدد.
ويعد هذا السيناريو مرجحًا بشدة؛ نظرًا إلى أنه لا يوجد هناك ما يعوقه من الناحية العملية، فضلًا عن أنه ومن ناحية أخرى لن يكلف روسيا الكثير نظرًا لأن جميع هذه الأجزاء إما خاضعة لسيطرة روسيا بالفعل أو موالية تمامًا لها ويعتمد عليها بشكل كلي فيما يتعلق بإدارة اقتصاداته الوطنية. بجانب أنه من المرجح كذلك، في حال تحقق الرواية الأكثر تطرفًا، أن يُعلن إقليم ترانسينستريا بدوره، الاستفتاء على الانضمام لروسيا.
- سيناريو إعلان النصر الجزئي:
نظرًا لأنه يصعب على روسيا، في اللحظة الراهنة، إعلان نصر شامل على أوكرانيا؛ سيكون السيناريو الأقرب هو الاكتفاء بإعلان نصر جزئي، ربما سيمس هذا النصر بشكل أساسي مدينة ماريوبول الساحلية ذات الأهمية الاستراتيجية.
ويُعد اقتراب إخلاء مصنع آزوفستال في ماريوبول –آخر بقاع المدينة التي لم تكن تقع تحت سيطرة القوات الروسية- واحدًا من ضمن الدلالات التي تجعل كفة هذا السيناريو تميل. فقد أعلنت نائبة رئيس الوزراء، “إيرينا فيريشوك”، أمس السبت 7 مايو، أنه تم بالفعل إجلاء جميع النساء والأطفال وكبار السن من هناك.
- سيناريو إعلان الحرب الشاملة على أوكرانيا:
على الرغم من أن مصادر غربية أكدت مرارًا وتكرارًا على صواب هذا الاحتمال الذي، وفقًا لهم، من المقرر إعلانه خلال احتفالات يوم النصر. إلا أنه يظل سيناريو من المستبعد تحقيقه، أو بالأحرى، من المستبعد أن يتحقق تحت هذا المسمى. بمعنى، من المرجح أن تتخذ العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا شكل نوعي جديد أكثر تطورًا، وأكثر جموحًا وعنفًا، لكن من دون تعديل الاسم اللازم للحرب من عملية عسكرية خاصة –بالنسبة للروس- إلى حرب شاملة على أوكرانيا.
وإذا أرادت روسيا القيام بإعلان التعبئة العامة، التي بالمناسبة، وردت بالفعل تقارير متعددة عن قيام وزارة الدفاع الروسية بتنفيذ تحركات تندرج تحت مهام استدعاء وتعبئة عامة للمواطنين من دون الحاجة للخروج وإعلان ذلك علانية، فهي في هذه الحالة قد لا تلجأ لإعلان حرب شاملة على أوكرانيا.
بل على العكس، تأخذ الدلالات الحالية إلى احتمالية تطور الأمر لإعلان حرب على دولة عضو في الناتو، وفي هذه الحالة سيتحقق لروسيا ما ترغب به من إمكانية الإعلان عن تعبئة عامة من دون الحاجة للظهور في شكل الدولة المتخبطة التي خسرت الكثير من جنودها في معاركها على الأراضي الأوكرانية التي لم يكن الكرملين يحظى بتأييد شعبي لها. سيكون هذه المرة هناك خطر جديد الدولة باتت بحاجة لإعلان التعبئة العامة لأجله.
- سيناريو الحرب مع الناتو:
يحظى هذا السيناريو بترجيحات عالية، استنادًا بالطبع لما تقدم من مبررات وردت على ألسنة مسؤولين روس وآخرين من حلفائهم تمهد لانتهاك سترتكبه بولندا لوحدة أراضي أوكرانيا بالشكل الذي يستلزم معه ضرورة توحيد الجهود للدفاع عن شمال أوكرانيا خوفًا من ذوبانه في بولندا.
علاوة على ذلك، لطالما كان من المنطقي أن الصدام مع الناتو قادم بحكم طول أمد الحرب في شكلها الحالي؛ نظرًا لإمدادات الأسلحة المكثفة التي تنهال على رأس أوكرانيا من خلال بولندا. بجانب أن هناك سببًا آخر يجعل من الضروري تفهم أن الحرب مع الناتو قادمة لا محالة في حالة استمرار الأحوال على ما عليها.
وذلك يتمثل في أنه لو كان من الأجدر وصف الرئيس الروسي، “بوتين”، بسمة شخصية مؤكدة ظهرت على ملامح جميع تصرفاته منذ توليه الحكم في عام 2000، سنجد أن هذه السمة هي “النِدية”. لذلك، سيكون من الطبيعي توقع اهتمامه البالغ برد الصاع صاعين على كل من ينتهك طموحاته –التي يرى أنها حقوقه الشرعية- في أوكرانيا. لذلك تتزايد احتمالات الصدام بين روسيا والناتو بشكل طردي كلما زاد الغرب من كميات الأسلحة التي يتم إرسالها إلى هناك.
- سيناريو الحرب النووية:
في الوقت الراهن، لا يُرجح هذا السيناريو. لكن مستقبلًا، سواء في المستقبل القريب أو الأبعد منه، ربما يتحول هذا السيناريو إلى واقع لا مفر منه خاصة في حالة اندلاع حرب بين روسيا والناتو. وهذا السيناريو، ليس بعيد لأسباب أخرى، تبدأ من عند نقطة تكرار تلويح روسيا لإمكانية ضربها أوروبا بالرؤوس النووية من جهة، الذي يعاد الإشارة له من خلال مشاركة طائرات “يوم القيامة” في الاستعراض العسكري المرتقب غدًا من جهة أخرى.
فمن الضروري أخذ هذا التلويح الروسي على محمل جد، وعدم النظر إليه على اعتبار أنه مجرد تهديد. ووصولًا إلى إدراك حقيقة مفادها، إن “بوتين” الذي يبلغ من العمر 69 عامًا، يعلم يقينًا أنه لن يعيش للأبد ولن يظل كذلك رئيسًا للأبد. لكنه مع ذلك يسعى بكل ما أوتي من قوة ويسابق الزمن لأجل استعادة مجد روسيا البائد، لأنه يبغي الخلود في التاريخ. إنه يريد أن يُكتب في تاريخ بلاده أنه الشخص الذي أعاد لروسيا مجدها القديم وصحح أخطاء من سبقوه من قيادات سوفيتية.
ومن هذا المنطلق، سيكون من المنطقي، التنبؤ بالطريقة التي سينفث بها بوتين عن غضبه في حالة خسارته للحرب في أوكرانيا. هو بالطبع لن يستدير عائدًا إلى شعبه ليخبرهم أنهم خسروا أبناءهم الذين ماتوا في الحرب هباءً، ولن يخبرهم كذلك أنه سيتعين عليهم تحمل أعباء العزلة والعقوبات الغربية هباءً. سيكون خيار إعلان الحرب النووية بالنسبة له، هو الأفضل، في هذه الحالة.
.
رابط المصدر: