في مساء الثاني من أغسطس بتوقيت تايبيه المحلي، حطت طائرة تقل رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي ووفدًا من النواب على أرض الجزيرة التي ترى فيها بكين جزء متمردًا من أراضيها لم يخضع بعد لسيطرة الحزب الشيوعي المنتصر في الحرب الأهلية عام 1949 على حزب الكومنتانغ القومي؛ “حكومة جمهورية الصين” التي تراجعت إلى تايوان وظلت ممثلة للشعب الصيني في الأمم المتحدة حتى عام 1971 حينما أصبحت الصين الشعبية الممثل الرسمي للبلاد.
زيارة بيلوسي إلى تايوان تأتي ضمن جولة لها تضم 4 محطات رئيسة هي سنغافورة وماليزيا الصديقين لواشنطن، إضافة إلى حليفي الولايات المتحدة في شرق آسيا اليابان وكوريا الجنوبية؛ من أجل الأمن المشترك والشراكة الاقتصادية والحوكمة الديمقراطية بحسب بيانها.
وتشير بيلوسي في البيان الخاص بزيارة تايوان –التي لم تكن معلنة مسبقًا- إلى أن “النقاشات مع قيادة الجزيرة من أجل تأكيد الدعم للشركاء وتعزيز مصالحنا المشتركة والنهوض بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ للبقاء حرة ومفتوحة”. وفيما يخص العلاقات مع الصين التي حذرت من عواقب هذه الزيارة، فقد أشارت إلى أنها لا تتعارض مع سياسة الولايات المتحدة والتي تستند إلى قانون العلاقات مع تايوان التي عدتها واحدة من أهم “ركائز” السياسات الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتأكيدات الستة والبيانات المشتركة الثلاثة بين واشنطن وبكين.
دعم الديمقراطية أم صراع من أجل أشباه الموصلات؟
شرحت بيلوسي في مقال بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية الأسباب المعلنة لهذه الزيارة؛ فأشارت في بداية المقال إلى قانون العلاقات مع تايوان الذي أصبح الأساس للشراكة مع ما وصفتها بـ”جزيرة الصمود” وأن هذه الزيارة تؤكد احترام واشنطن للديمقراطية ووجوب احترام الحريات في تايوان وكل الديمقراطيات.
المقال أيضًا لم يخلُ من توجيه سهام النقد إلى الحزب الشيوعي الصيني وسياساته في هونغ كونغ والتبت وإقليم شينجيانج موطن قومية الأويجور، قائلة: “لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي بينما يواصل الحزب الشيوعي الصيني تهديد تايوان – والديمقراطية نفسها”. اللافت، هو إشارة رئيسة مجلس النواب إلى أن هذه الرحلة القصيرة تأتي في وقت يواجه فيه العالم الاختيار بين الديمقراطية والأوتوقراطية، ضاربة المثل بالحرب في أوكرانيا التي زارتها في أبريل الماضي مع وفد بقيادتها.
لكن ربما تحمل هذه الزيارة جانبًا آخر على قدر كبير من الأهمية، فقد أشارت بيلوسي في مقالها إلى أن تايوان “تحوي ثقافة الابتكار والبراعة التكنولوجية التي يحسدها العالم عليها”، وقبيل جولتها في آسيا كان مجلس النواب قد أقر قانونًا لتمرير حزمة تقدر ب280 مليار دولارلتعزيز صناعة أشباه المواصلات والبحث العلمي، لتوفير الوظائف في هذا المجال للمنافسة مع الدول الأخرى وخاصة الصين بحسب أسوشيتد برس.
وهو ما يتوازى مع محاولة الولايات المتحدة إقناع عملاق هذه الصناعة شركة TSMC للاستثمار في أمريكا واليابان في إطار المنافسة مع الصين في هذا المجال؛ إذ إن بكين تعتمد على تايوان بشكل كبير في هذه الصناعة التي تدخل في تصنيع الهواتف الذكية بحسب أستاذ الشؤون الدولية في جامعة فيرجينيا ديل كوبلاند.
ورغم قصر مدة الزيارة، فإن مؤسس الشركة السابق ذكرها موريس تشانغ ورئيسها الحالي مارك ليو -عقدت معه بيلوسي اجتماعًا لاحقًا- ونائب رئيس شركة بيغاترون للصناعات الإلكترونية كانوا على مائدة الغداء مع بيلوسي ورئيسة تايوان تساي إينغ وين التي قالت عبر مواقع التواصل الاجتماعي إن “الجميع تبادل وجهات النظر حول تعميق التعاون بين تايوان والولايات المتحدة في مختلف المجالات.. فتايوان والولايات المتحدة لا يتشاركان فقط قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، لكن يعملان معًا من أجل التنمية الاقتصادية والتعاون من أجل سلاسل إمداد ديمقراطية”
وبحسب واشنطن بوست، فإن الشركات التايوانية تنتج وحدها ما يزيد على 90% من الإنتاج العالمي للرقائق ذات التكنولوجيا العالية، وأن واشنطن تعتمد على رقائق TSMC في طائرات F-35 وصواريخ جافلين. الملاحظ أيضًا أن جولة بيلوسي الآسيوية التي تشمل “سول” قد سبقتها زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين ومن قبلها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى كوريا الجنوبية من أجل دعم سلاسل التوريد لأشباه الموصلات من الدول الصديقة للولايات المتحدة، وذلك في إطار المنافسة مع الصين في هذا المجال.
دعم جمهوري لزيارة بيلوسي.. وقانون مرتقب من أجل تايوان
كما أشرنا في الورقة السابقة، فقد زار رئيس مجلس النواب الأمريكي السابق المنتمي للحزب الجمهوري نيوت جينجريتش تايوان عام 1997، إضافة إلى ذلك فقد نشر مقالًا قبيل جولة بيلوسي الآسيوية في نيوزويك يحثها على اصطحاب وفد يضم نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خلال زيارتها لتايوان.
ورغم أن الوفد الذي ترأسه بيلوسي من النواب الديمقراطيين عكس نصيحة جنجريتش، إلا أن الزيارة حظيت بتأييد الجمهوريين؛ فقد أصدر 26 من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين من بينهم زعيم الأقلية ميتش ماكونيل بيانًا يدعم هذه الزيارة. ليس هذا فحسب، بل تناقش لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون السياسات مع تايوان والذي صاغه كل من رئيس اللجنة الديمقراطي بوب مينينديز والجمهوري ليندسي جراهام، والذي بموجبه ستصبح تايوان “حليفًا رئيسًا من خارج الناتو”، إضافة إلى تخصيص 5.6 مليار دولار كتمويل عسكري خلال السنوات الأربع المقبلة لبيع السلاح والتدريب لتايوان، فضلًا عن “تقديم السلاح الذي يفضي إلى ردع الاعتداءات التي يقوم بها جيش التحرير الشعبي الصيني”.
ويشرح مينينديز في مقالة لنيويورك تايمز أسباب التقدم بهذا المشروع قائلًا: إن “الولايات المتحدة في حاجة إلى أن تكون أقل غموضًا فيما يتصل بنهج واشنطن في التعامل مع تايوان، وأن الوضع الحالي يتطلب الردع القوي والموثوق للحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وهو ما يتطلب الوضوح في القول والفعل”، مشيرًا أن الولايات المتحدة فشلت في اتخاذ إجراءات رادعة ضد عدوان روسيا في أوكرانيا منذ عام 2014، وأن هذا “الخطأ” يجب ألا يتكرر في الحالة التايوانية، وهو ما دفع إلى العمل من أجل اتخاذ استراتيجية جديدة تضمن دفاع الولايات المتحدة عن تايوان لعقود قادمة.
حال تمرير هذا القانون، يصبح لدى الولايات المتحدة مرجعية جديدة للتعامل مع تايوان تضاف إلى الركيزتين الأساسيتين في هذا الأمر وهما قانون العلاقات مع تايوان والتأكيدات الستة، وفي الوقت نفسه تزداد هوة الخلاف بين بكين وواشنطن حول القضية الأكثر حساسية لدى بكين.
ماذا ستفعل الصين أمام الولايات المتحدة؟
خلال الأيام الماضية، اتخذت الصين إجراءات على عدة صُعد للاعتراض على زيارة بيلوسي، فتجري حاليًا مناورات عسكرية من الجهات الأربع المحيطة بجزيرة تايوان، إضافة إلى اختراق 27 مقاتلة صينية المجال الجوي للجزيرة بحسب وكالة الأنباء التايوانية، أما على الصعيد الاقتصادي فقد علقت الصين تصدير الرمال الطبيعية واستيراد الفواكه والأسماك إضافة إلى 35 نوعًا من المنتجات الغذائية التايوانية.
دبلوماسيًا، استدعى نائب وزير الخارجية الصين شيه فنغ السفير الأمريكي لدى بكين نيكولاس بيرنز لتقديم مذكرة احتجاج على زيارة بيلوسي إلى تايوان، وبحسب التلفزيون الصيني فقد أشار شيه إلى أن هذه الخطوة تعد انتهاكًا خطيرًا لمبدأ الصين الواحدة، وأن لها تأثيرًا خطيرًا على الأساس السياسي للعلاقات الصينية-الأمريكية، وتنتهك بشكل خطير سيادة الصين ووحدة وسلامة أراضيها.
أما في المرحلة المقبلة فربما تسعى الصين إلى منافسة الولايات المتحدة في مناطق نفوذها البعيدة عن منطقة شرق آسيا، ويظهر ذلك جليًا على سبيل المثال في إفريقيا؛ فقبيل تنحيه عن منصبه كقائد للقيادة الأمريكية في إفريقيا تحدث الجنرال ستيفن تاونسيند إلى الصحفيين قائلًا: إن ظهور الصين هو التحدي الأول والأخير للقيادة، مشيرًا إلى أن الصين تعمل بطريقة شاملة عبر التدابير والإجراءات الاقتصادية والتنموية لزيادة تأثيرهم في القارة، إضافة إلى رغبتهم في التوسع بإنشاء قواعد عسكرية.
ساحة المنافسة الأخرى هي المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، فبحسب مركز ستيمسون للدراسات فإن مساهمات الصين في ميزانية الأمم المتحدة قد تضاعفت إلى 15.25% خلال عام 2022 بعد أن كانت 2% فقط في مطلع القرن الحالي، ويتوقع أن تتزايد بصورة كبيرة خلال العقد القادم.
علاوة على ذلك، فقد بدأت الذين تمويل بعض المشروعات بالمشاركة مع الأمم المتحدة بشكل طوعي، على سبيل المثال دخلت الصين عام 2016 في شراكة مع الأمين العام للأمم المتحدة حينها بان كي مون لإنشاء صندوق الأمم المتحدة الاستئماني للسلام والتنمية (UNPDF)، ووافقت على تمويله بمبلغ 200 مليون دولار من المساهمات الطوعية التكميلية على مدى عشر سنوات، وينقسم هذا التمويل بين الصندوق الفرعي للسلام والأمن ، لتمويل مشاريع وأنشطة الأمم المتحدة المتعلقة بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين، والصندوق الفرعي لخطة التنمية المستدامة لعام 2030.
وهو ما عده المتابعون إضافة قوية لوجود الصين في الأمم المتحدة، خاصة وأن اللجنة التوجيهية للصندوق تتكون من سفير الصين لدى الأمم المتحدة، وممثلين عن وزارتي الخارجية والمالية الصينية، ووكيل الأمين العام الوطني الصيني للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
الخلاصة
أشعلت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان حدة المواجهة بين الولايات المتحدة والصين. ورغم الشعار المعلن للزيارة من جانب بيلوسي أنها لدعم تايوان والديمقراطية فيها، إلا أن دعم الاقتصاد الأمريكي لا سيما في مجال أشباه الموصلات الذي تتربع تايوان على عرشه كان حاضرًا وبقوة على أجندة بيلوسي التي مررت لتوها قانونًا في بلادها يدعم هذه الصناعة التي تشكل أحد مجالات التنافس مع بكين.
على الجانب الآخر، يستمر المشرعون الأمريكيون في مساعيهم لتغيير الاستراتيجية الأمريكية لدعم تايوان سواء عبر هذه الزيارة أو مساعي رئيس لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ بوب ميندنيز ولندسي جراهام لتمرير قانون يوافق عليه الحزبان يجعل تايوان حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو، وما يترتب على ذلك من تبعات تؤدي إلى مزيد من التوتر بين واشنطن وبكين. أما الصين التي اتخذت إجراءات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ردًا على الزيارة، فقد تعمل في المدى القريب على زيادة حدة المنافسة مع الولايات المتحدة في مناطق نفوذ بعيدة عنها مثل إفريقيا، ووجودها في منظمات دولية كبرى وعلى رأسها الأمم المتحدة.
.
رابط المصدر: