شهدت قمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” التي انعقدت في العاصمة الليتوانية “فيلنيوس” بمشاركة زعماء الدول الأعضاء في الحلف خلال يومي 11-12 يوليو الجاري، ديناميكية في الأحداث فيما يخص أهم ملفات الساعة، في مقدمتها ملف انضمام أوكرانيا للحلف، وهو ملف تباينت فيه المواقف، ولم يحدث فيه تقدم يذكر، على عكس الملف الثاني الذي شهد توترًا ثم انفراجًا وإنجازًا مهمًا وهو الذي يخص مسألة انضمام السويد للحلف.
فقد تقدمت كل من السويد وفنلندا بطلب لعضوية حلف الناتو في قمة الحلف بمدريد عام 2022، وكانت العقبة الرئيسة أمام انضمام السويد اعتراض تركيا التي رفضت هذا الانضمام لموقف السويد من الأكراد وإيوائها لمن تصنفهم أنقرة إرهابيين، ولفرضها حظرًا على بيع الأسلحة لها. وبما أن انضمام دولة جديدة للحلف يتطلب موافقة كل أعضائه بدون استثناء، وبما أن انضمام السويد مسألة بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية لأنه يسمح للحلف بإحكام السيطرة على بحر البلطيق؛ تطلب حل هذه المشكلة إجراء سلسلة من المحادثات لتمهيد الطريق لموافقة تركيا، شملت مسؤولين من تركيا والسويد وفنلندا والناتو. ويبدو أن هذا الملف كان أيضًا مجالًا لمساومات بين أنقرة وواشنطن حول صفقات سلاح.
فشهدت الأشهر الأخيرة جهودًا كبيرة من قبل السويد لتلبية مطالب تركيا، تمثلت في تعديل دستورها، وإقرار تشريع جديد لمكافحة الإرهاب، والموافقة على تسليم العديد من الأتراك المتهمين بارتكاب جرائم في تركيا. في المقابل، منعت المحاكم السويدية عمليات تسليم أخرى خاصة فيما يخص الأكراد؛ حفاظًا على تدابير حماية حرية التعبير في البلاد. ومع ذلك، وافقت تركيا وقتها بالفعل على السماح لفنلندا بالانضمام إلى الناتو في مارس ٢٠٢٣ مقابل تنازلات سياسية، على خلفية قمع ستوكهولم للنشطاء الأكراد المنضمين لتنظيمات مسلحة.
وبالرغم من قيام السويد باتخاذ بعض التدابير والخطوات المهمة، لم يغير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقفه، بل طالب السويد بأن تقدم المزيد، وخاصة فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، قام الرئيس “أردوغان” بتوظيف حادث إحراق مصحف علنًا في احتجاج في ستوكهولم الشهر الماضي منتقدًا سماح السلطات السويدية بالاحتجاج قائلًا إنها بحاجة إلى محاربة “الإسلاموفوبيا”، برغم عدم اندراج هذه القضية من ضمن القضايا التي تم الاتفاق على معالجتها بين البلدين.
توجه براجماتي
على إثر ذلك، أصدر الرئيس “أردوغان” قبل قمة الناتو يوم 10 يوليو تصريحًا أكد فيه أن تركيا ستدعم محاولة ستوكهولم فقط مقابل استئناف محادثات العضوية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، رابطًا انضمام السويد لحلف الأطلسي بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قائلًا: “أدعو من هنا تلك الدول التي جعلت تركيا تنتظر على باب الاتحاد الأوروبي لما يزيد على 50 عامًا… تعالوا أولًا وافتحوا الطريق أمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وعندئذ سنفتح الطريق أمام السويد، مثلما فعلنا مع فنلندا”. الأمر الذي لاقى ردود فعل متباينة؛ فمن ناحية، نفى المستشار الألماني أولاف شولتز وجود أي رابط بين الموضوعين، ومن ناحية أخرى، قال الأمين العام للناتو إنه يدعم طموح تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن مسالة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي هي مسألة مستبعدة، وإن أعيدت المفاوضات مرة أخرى بعد توقفها منذ 2019؛ بناءً على اختلافات ثقافية دفينة بين أوروبا وتركيا خاصة من الناحية الدينية، بجانب وجود ما يمكن تسميته برفض شعبي أوروبي لانضمام تركيا. من ناحية أخرى، تخشى الدول الأوروبية من موجات هجرة للعمال الأتراك، ومن اختلال موازين القوة داخل الاتحاد، فدخول تركيا سيضعف مركز عدة دول وتمثيلها في قمة بيروقراطية الاتحاد. وأخيرًا وليس آخرًا لا تزال معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي متشككة للغاية في التزام تركيا بالإصلاحات الديمقراطية وسيادة القانون.
ولكن بعد ساعات فقط من وضع الرئيس التركي شروطًا جديدة، حدث تراجع مفاجئ في الموقف التركي، فأعلنت السويد أنها ستدعم بقوة انضمام تركيا للاتحاد، ووافقت أنقرة على إحالة طلب انضمام السويد إلى الناتو إلى البرلمان. ويبدو أن تركيا قد حصلت على وعد أمريكي فيما يخص إتمام صفقة مقاتلات “إف-16”.
ويجعل هذا التحول انضمام السويد قريبًا إلى حلف الناتو أمرًا شبه مؤكد، رغم أن الرئيس التركي عاد ليقول إن البرلمان التركي لن يوافق على الانضمام قبل أكتوبر، مما يوحي بأن هناك أمورًا وقضايا تحتاج إلى مناقشات إضافية. وأيًا كان الأمر، فإن حقبة حياد السويد بين الغرب وروسيا التي دامت ما يقرب من 80 عامًا على وشك الانتهاء، وعليه نرى الموقف التركى كموقف مثير للاهتمام من ناحية وليس بجديد من ناحية أخرى.
الثابت هو خشونة سياستها وحزمها وصرامتها في الدفاع عن مصالحها، واستغلالها لأقصى درجة مزايا موقعها الجغرافي وقوتها العسكرية. وإضافة إلى ذلك، يتبنى الرئيس التركي مشروعًا يبدو وكأنه عثمانية جديدة، والجديد هو سعيها الحالي إلى تحسين علاقتها مع الدول الغربية وابتعادها بعض الشيء عن روسيا؛ فالخطوة الأخيرة سبقتها خطوات أخرى متعلقة بدعم أوكرانيا. وفسر موقع “ستراتفور” هذا بمشكلات تركيا الاقتصادية التي تفاقمت بشدة.
يمكن القول إن الموقف التركي بين الاعتراض والرجوع عنه يشير إلى العديد من جولات التفاوض التي جرت بين المسؤولين الأتراك والسويديين. بالإضافة إلى وجود صفقة الطائرات “إف-16” الأمريكية على طاولة التفاوض رغم نفي المسؤولين وجود علاقة بين الملفين. يمكن الإشارة بأن هذا التراجع المفاجئ لتركيا عن موقفها الأصلي يعكس انتزاع أنقرة لما يكفي من التنازلات والصفقات؛ ويبقى تأخيرها لعملية انضمام السويد مجالًا لمخاطرة بتدهور علاقتها مع حلفائها في الناتو مما قد يترتب عليه آثار لاحقة.
مكاسب مُتوقعة
استطاعت تركيا تحقيق أكبر قدر من المكاسب من خلال هذا النهج الشائك الذي اتسم بدخولها في مفاوضات عالية المخاطر بما عاد عليها بالنفع اقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا. فبالنسبة للمكاسب الاقتصادية وملف الاتحاد الأوروبي، أكدت السويد أنها ستدعم بنشاط الجهود المبذولة لإعادة تنشيط عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وتحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي والتأشيرة. ولكن ذلك في غياب محادثات العضوية الرسمية.
أما عسكريًا، جاءت مكاسب أنقرة في إتمام صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على مقاتلات من طراز “إف-16” المصنعة من قبل شركة “لوكهيد مارتن”، بقيمة 20 مليار دولار والتي كانت تسعى إلى الحصول عليها منذ أكتوبر عام 2021؛ بهدف تحديث طائراتها الحربية الحالية. وهو ما جاء بعد ترحيب الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بالتزام نظيره التركي بالموافقة على انضمام السويد ونقل بروتوكول الانضمام للناتو إلى البرلمان للتصديق عليه والمتوقع انعقاده حتى 27 يوليو، ولذلك أعلن “بايدن” دعمه أيضًا لخطة تسليم مقاتلات “إف-16” لأنقرة.
وعلى الصعيد الأمنى، فقد تم التوصل إلى «اتفاق أمني ثنائي جديد» بين تركيا والسويد، مع تقديم ستوكهولم “خارطة طريق كأساس لجميع مكافحتها المستمرة للإرهاب”. وبالتالي، تم التوسع في التعاون بين تركيا والسويد في ملف مكافحة الإرهاب ضد حزب العمال الكردستاني (PKK)، واستئناف ستوكهولم صادرات الأسلحة أنقرة.أما بالنسبة للناتو، فقد وافق الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرج على إنشاء منصب جديد وهو منصب “المنسق الخاص لمكافحة الإرهاب”.
وختامًا، يجب الإشارة إلى أن انضمام السويد الذي أضحى أمرًا حتميًا هو أحد تبعات تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وهو تتويج لتعاون وثيق بدأ إثر ضم روسيا للقرم، ويقوي هذا الانضمام الحلف لا سيما الدفاع عن شمال أوروبا، خاصة لترابط أمن ودفاع فنلندا بالسويد، وسيعزز انضمامهما قوات الناتو بأكثر من 280 ألف جندي من ذوي الكفاءة في القوات النظامية والاحتياطية. وانضمام السويد إلى الناتو سيحيط ويطوق روسيا من خلال تحويل بحر البلطيق إلى بحر الناتو تسيطر عليه قوات الحلف.
وفي النهاية نشير إلى أهمية الرسالة السياسية التي يرسلها الناتو للدول الأخرى؛ إذ أظهرت الموافقة على عضوية السويد مدى تماسكه في إدارته لهذه “الأزمة”، التي تجلت في التعاطي السريع مع اعتراض الرئيس التركي على عضوية ستوكهولهم، التي كشفت أنها خطوة محسوبة مسبقًا من الرئيس “أردوغان” قام بمقتضاها بتأخير انضمام السويد لمدة عام، وفي الوقت ذاته وافق على الانضمام اتساقًا مع تفضيله توسع الناتو ليكون لتركيا ومصالحها صوت ونفوذ في أكبر عدد من الدول.
وقد أثبتت تطورات وأزمات السنة الماضية قدرة الدول الأعضاء على الوصول إلى توافق، وأثبتت كذلك مركزية الحلف وقوته وبالطبع تأثيره خاصة بعد التحولات التي شهدها عقب اندلاع الحرب الروسية واتضح أن وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحلف بأنه يعاني من سكتة دماغية في عام 2019 تشخيص أثبتت الأحداث أنه سابق لأوانه.
.
رابط المصدر: