ترى حكومة نتنياهو الائتلافية المكونة من الأحزاب اليمينية المتشددة أن المهدد الأول لاستمرارها في الحكم هي محكمة العدل العليا التي تشكل عنصرًا مهمًا ضمن مؤسسات الدولة العميقة في إسرائيل؛ لذا لم يجد نتنياهو مفرًا من محاولة اختراقها من خلال مشروع قانون جديد قد يُمرر في الكنيست مؤداه السيطرة على محكمة العدل العليا.
في المقابل، تصف أروقة إسرائيلية سياسية وعسكرية ومجتمعية أن مسعى نتنياهو بتغيير منظومة القضاء في إسرائيل سيتسبب في تمزيق إسرائيل، وتهديد تماسكها المجتمعي وتماسكها المؤسسي، وعلى سبيل المثال الجيش الإسرائيلي. تحاول هذه المذكرة البحثية الإجابة على الأسئلة التالية: ما هو التشريع القضائي الجديد؟، ماذا ينوي نتنياهو فعله؟، وكيف سيؤثر على إسرائيل؟
شرح مشروع القانون الجديد
يتضمن مشروع القانون الذي قدمه رئيس لجنة الدستور والقانون والعدل في الكنيست الإسرائيلي “سيمحا روتمان” (عن حزب الصهيونية الدينية) سلسلة من التغييرات المهمة في النظام القضائي، مثل: تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة، وإنشاء بند يحل الكنيست محل المحكمة العليا في قرارات التشريع والموافقة عليها، بالإضافة إلى ذلك يتضمن الاقتراح تشريعات لإضعاف سلطة المستشارين القانونيين في الوزارات الحكومية، بحيث لا تلزم مناصبهم الحكومة، وإزالة سبب المعقولية بشكل من شأنه أن يحد من قدرة المحكمة على التدخل في القرارات لصالح السلطة التنفيذية.
البند الذي يحل محل الفقرة السابقة هو آلية تمنح الكنيست سلطة إعادة سن قانون تم إبطاله من قبل المحكمة العليا، وبالتالي تجاوز القرارات الصادرة عن المحكمة العليا. اليوم، يمكن للمحكمة العليا التدخل في القوانين التي، وفقًا لتفسيره (أي رئيس لجنة الدستور المتشدد)، ينتهك القوانين الأساسية أو مبادئ النظام الديمقراطي. ادعاء الحكومة هو أن هذه السلطة غير متكافئة، ولهذا السبب يروج وزير العدل ياريف ليفين لمشروع القانون للسماح للكنيست “بالتغلب” على حكم المحكمة الذي تدخل في القانون ومن ثم إعادة العمل به مرة أخرى حتى لو خالف القوانين الأساسية أو مبادئ النظام الديمقراطي.
كيف سيتم اختيار القضاة اليوم؟، تضم لجنة تعيين القضاة حاليًا تسعة أعضاء: وزير العدل (الذي يرأسها) ووزير آخر، وعضوان من الكنيست (عادةً أحدهما من الائتلاف والآخر من المعارضة)، ونائبان من نقابة المحامين، ورئيس المحكمة العليا وقاضيان إضافيان في المحكمة العليا. (أي ثلاثة ممثلين عن القضاء، وثلاثة ممثلين عن الحكومة). من أجل تعيين قاضٍ في المحكمة العليا، يلزم الحصول على أغلبية من سبعة أعضاء، وهو ما يشكل في الواقع “كتلة مانعة” لكل من ممثلي الائتلاف وممثلي السلطة القضائية. والغرض من الآلية هو إنتاج “إجماع واسع ومستقر” في اختيار المرشحين للمحكمة العليا.
تقترح الثورة القانونية قبول القضاة بأية أغلبية، مما يعني أنه حتى 5 من أصل 9 ممثلين في اللجنة سيكونون قادرين على اختيار قاضٍ للمحكمة العليا. بالإضافة إلى ذلك، تقترح تغيير ميزان القوى في اللجنة بحيث يكون خمسة أعضاء في اللجنة من الائتلاف. وفقًا لاقتراح عضو الكنيست “روتمان”، ستعين اللجنة الأعضاء التالية أسماؤهم: وزير العدل ووزيران آخران، وثلاثة أعضاء كنيست (اثنان من الائتلاف وواحد من المعارضة)، ورئيس المحكمة العليا وقاضيان إضافيان يختارهما وزير العدل، أي أن التحالف يضم خمسة ممثلين على الأقل، اقتراح “ليفين” يضم 11 عضوًا في اللجنة لكنه يحتفظ بمنطق مماثل. ومن ثم يخلق التغيير الذي اقترحه الإصلاح تركيزًا كبيرًا للسلطة التنفيذية في عملية تعيين وانتخاب القضاة.
ما هي الدوافع؟
هناك عدة عوامل دفعت حكومة نتنياهو إلى قيادة ثورة على منظومة القضاء في إسرائيل، وهي:
1 – “المعقولية”: هو سبب قانوني يسمح للمحكمة بإلغاء قرار رئيس الوزراء أو الوزير أو السلطة العامة على أساس أن القرار غير معقول.على سبيل المثال، في عام 1993، قضت المحكمة العليا بأنه طُلب من رئيس الوزراء يتسحاق رابين إقالة الوزير أرييه درعي منذ تقديم لائحة اتهام ضده، وتقرر أنه من غير المحتمل أن يكون الشخص الذي تم تقديم لائحة اتهام ضده أن يستمر في عمله كوزير في الحكومة.
في عام 2006، عندما قررت وزارتا الدفاع والتعليم حماية المدارس في سديروت وقطاع غزة جزئيًا فقط لاعتبارات الميزانية، طالبت محكمة العدل العليا بضمان الحماية الكاملة، مدعية أنه في هذه الحالة من غير المرجح أن تبقى الميزانية محايدة عن اعتبارات الأمان. وفي عام 2022، عندما قرر وزير المالية أفيجدور ليبرمان وقف دعم مراكز الرعاية النهارية للأطفال الصغار من العائلات التي لديها أطفال، قضت المحكمة العليا بأن القرار كان غير معقول، ويمكن أن يزعج حياة العائلات. وقضت المحكمة العليا بأن هذا القرار لوقف التمويل سيتم تأجيله حتى العام المقبل من أجل الوقت لتقييم وفقا لذلك.
2 – تدرك حكومة نتنياهو أن استمرار طبيعة محكمة العدل العليا (المائلة إلى أن تكون يسارية) هو مهدد خطير لاستمرار حكمها، خاصة بعد أن قضت المحكمة بإقالة الوزير آرييه درعي بعد تقديم لائحة الاتهام ضده. راقبت الأحزاب الدينية المتطرفة رد فعل نتنياهو ما إذا سينتفض على محكمة العدل العليا حيال قرارها التعسفي (في وجهة نظرهم) أم سيعوض آرييه درعي رئيس حزب شاس بمنصب تنفيذي أكبر، مثل أن يكون مناوبًا لنتنياهو في رئاسة الحكومة بعد عام على سبيل المثال. ولكن فضَل نتنياهو أن ينتفض فعلًا على منظومة القضاء بقيادة ثورة تقضي على صلاحياتهم تقريبا في اختيار القضاة واحتكار تيار اليسار هذا السلك المهم في إسرائيل.
3 – العامل الأخير الذي يدخل ضمن حسابات نتنياهو في هذا المضمار هو اختراق الدولة العميقة؛ إذ أن التعليم والإعلام والأجهزة الأمنية والجيش والقضاء هم مؤسسات الدولة العميقة في إسرائيل. بعد أن نجح نتنياهو في اختراق التعليم والاعلام، ونجح نسبيًا في اختراق الأجهزة الأمنية مثل الشرطة والموساد والشاباك؛ يتبقى له اختراق القضاء والجيش الإسرائيلي.
يرى الجيش الإسرائيلي أن ثورة نتنياهو على القضاء هي خطوة تمهيدية لإحكام الجهد الساعي إلى اختراق المؤسسة العسكرية وصناعة قرارها؛ وهو ما يفسر الانزعاج الكبير الذي يسيطر على قيادات عسكرية إسرائيلية من الثورة القضائية لنتنياهو لأنه سيعقبها ثورة من نتنياهو على الجيش. ويعني اختراق الدولة العميقة من قبل نتنياهو تهيئة مؤسسات الدولة العميقة الخمس المذكورة سلفًا بحسب الرواية اليمينية الدينية المتطرفة؛ أي خدمة مصالح المجتمع اليميني القومي المتشدد والديني المتشدد فقط، دون اعتبار لحسابات التيارين الوسطي اليساري، واليساري المتشدد.
تداعيات الثورة القضائية على السياسة الإسرائيلية
إن الثورة في شكلها الحالي تقلل بشكل كبير من سلطة المحكمة العليا وتوسع سلطة الحكومة وتضر بشدة بمبدأ الفصل بين السلطات الذي هو مبدأ أساسي في الحكم في أي نظام ديمقراطي، يجب بموجبه توزيع الصلاحيات بين السلطات الحاكمة حتى لا يكون هناك تركيز للقوة في يد سلطة واحدة. الكنيست هو السلطة التشريعية وهو المسؤول عن وضع القوانين، والمحكمة هي السلطة القضائية وهي المسؤولة عن تفسيرها وتحديد “معقوليتها” وفق المصلحة العامة والمصلحة العليا، والحكومة هي السلطة التنفيذية المسؤولة عن تنفيذها، وكل سلطة تشرف على الأخرى وتوازنها.
الكنيست اليوم هو أضعف السلطات الثلاث على الرغم من أنها مسؤولة رسميًا عن سن القوانين، إلا أنه من الناحية العملية يمكن تمرير أي قانون ترغب السلطة التنفيذية في تمريره في الكنيست من خلال الانضباط الائتلافي (وهو شرط يتطلب من جميع أعضاء الائتلاف التصويت بالإجماع)، بحيث حتى لو عارض أعضاء الكنيست الآخرون القانون فلن يكون لديهم أي عقوبات كبيرة بسبب عضويتهم في الكنيست للتدخل في العملية التشريعية. ونتيجة لذلك، فإن السلطة القضائية في الوقت الحالي هي السلطة الوحيدة التي يمكن أن تؤثر على تصرفات السلطة التنفيذية.
الثورة في شكلها الحالي قد ترتب تداعيات مؤثرة على إسرائيل؛ لأنها تقلل من سلطة القضاء وبالتالي تخلق وضعًا لن تكون فيه سلطة يمكن أن تشرف على تصرفات الحكومة. ذلك علاوة على أنه لا يحتوي على مقترحات للتوازنات وغيرها من الضوابط التي من شأنها أن تمنع الحكومة من تركيز الكثير من السلطة.
التقليل من سلطة المنظومة القضائية قد يسمح لحكومة نتنياهو بالتالي:
- التجسس على المعلومات الشخصية للمواطنين الإسرائيليين أو المستثمرين الأجانب في السوق الإسرائيلية.
- زيادة الاستثمار في قطاعات قد تهدد السلامة البيئية جوًا وبحرًا.
- تثبيت أركان الحكومة الإسرائيلية الحالية من خلال تمرير مشاريع قوانين تصب في صالح الأحزاب الدينية.
- بناء الحرس الوطني للحفاظ على الوضع الاستيطاني الراهن، وبناء واقع جديد.
- تخصيص ميزانيات مؤثرة بالإيجاب على وضع الأحزاب الدينية.
موقف المعارضة الإسرائيلية
أدوات المعارضة برلمانية بالدرجة الأولى، ونفوذها يُمارس في الكنيست. يتمتع جميع أعضاء الكنيست، بمن فيهم أعضاء الكنيست من المعارضة، بفرصة تقديم مشاريع قوانين خاصة، والمشاركة في مناقشات حول مشاريع قوانين في لجان الكنيست، وتمثيل الجمهور الذي انتخبهم في خطب في الكنيست، وتقديم استفسارات إلى الوزراء في جلسة واحدة. وتشرف المعارضة على بعض وسائل الإعلام في كثير من الأحيان لتسخير الجمهور لأهدافها، وتنجح أحيانًا من خلال الرأي العام في التأثير على تحركات التحالف.
لكل حكومة مستشار قانوني للحكومة يشرف على أعمالها، ولكل وزارة حكومية مستشار قانوني وظيفته الإشراف على سير الوزارة بشكل صحيح، وتحذير الوزير المسؤول عن الوزارة من الأعمال غير القانونية. وظيفة المستشارين القانونيين ملزمة للحكومة والوزراء ويعتبرون “حراس البوابة”. أما الآن فسيتم تعيين المستشارين القانونيين للوزارات وفقًا لحسابات الحكومة الحالية، والنائب العام المعين من قبل الحكومة.
تقترح الثورة القانونية أن مناصب جميع المستشارين القانونيين لن تكون ملزمة، وأن جميع أعضاء الحكومة سيكونون قادرين على التصرف على النحو الذي يرونه مناسبًا. بالإضافة إلى ذلك، ترغب الحكومة في تحويل مناصب المستشارين القانونيين للوزارات الحكومية إلى مناصب ثقة، بحيث يصبح الشخص الذي يعينهم وزيرًا في الوزارة الحكومية ذات الصلة بدلاً من تعيينهم من خلال عملية مناقصة مهنية.
وبالنسبة للمدعي العام، تريد الحكومة إلغاء بعض صلاحياته وبالتالي تقليص دوره. وبهذه الطريقة، سيتم المساس باستقلالية جميع المستشارين القانونيين، وستنخفض قدرتهم على الإشراف على الحكومة وشؤونها بشكل كبير. والمدعي العام هو موظف مدني يرأس النظام القانوني للسلطة التنفيذية والخدمة القانونية العامة في إسرائيل. ودوره في إسرائيل معقد يشتمل على:
● رئيس النيابة العامة: مسؤول عن جميع جهات النيابة، من بينها – إدارة مباحث الشرطة، إدارة المباحث بهيئة الأوراق المالية، مكاتب النيابة العامة المختلفة وغيرها. بصفته رئيس النيابة العامة، فإن المدعي العام هو الحزب الوحيد المخول، من بين أمور أخرى، بالموافقة على محاكمة رئيس الوزراء ورفع الحصانة عن أعضاء الكنيست
● تمثيل الدولة أمام القضاء: يمثل المدعي العام الدولة في الشؤون المدنية والإدارية والاقتصادية والدولية وحتى في محكمة العمل، وهو أيضًا الهيئة التي تبت في الخلافات في الرأي بين مختلف الجهات الحكومية من أجل التأكد من أن الدولة تتحدث بصوت موحد، ويمثل كذلك أعضاء الحكومة أمام مختلف المحاكم إذا لزم الأمر.
● المشورة القانونية للحكومة والهيئات العامة: بموجب هذه الصلاحية، يرافق المدعي العام الإجراءات التشريعية الحكومية في وزارة العدل ويشرف على اللوائح، وتوصيته لهذه الهيئات ملزمة (ما لم تقرر المحكمة خلاف ذلك).
● تمثيل الصالح العام: في القضايا ذات الاهتمام العام التي تناقش في المحكمة، يمكن للمدعي العام التدخل والتعبير عن موقفه كما يراه مناسبًا، حتى عندما لا تكون الدولة طرفًا في الأمر.
وتشتمل بعض مقترحات الثورة تقليص سلطة المدعي العام؛ حتى لا تلزم توصياته الحكومة، فضلًا عن أن أعضاء الحكومة مهتمون باختيارهم حسب تقديرهم من سيمثل موقفهم أو منصب رئيس الدولة.
ختاما، يمكن القول إن الثورة القضائية التي يقودها نتنياهو وحكومته المتشددة لها من الدوافع والعوامل التي تجعلها فريدة ومعقدة في آن واحد، ومن الصعب التكهن بفشلها أو انسحابها، وفي حال انسحابها أو اختفائها سيكون الامر مؤقتًا لتعود إلى الواجهة مرة أخرى. أما تحديد المسارات المستقبلية للوضع الراهن مثل الاحتجاجات الإسرائيلية وموقف الحكومة منها ينبني على مجموعة أخرى من المحددات مثل الميزانية التي لم يتم التصديق عليها بعد.
.
رابط المصدر: