مباحثات جزائرية- أميركية حول ليبيا… هل تنجح في إيجاد تسوية؟

حراك دبلوماسي مكثف شهدته العاصمة الجزائرية مؤخرا حول الأزمة الليبية، وسط تحرك إقليمي ودولي للتوصل إلى قرار يقضي بوقف الأعمال العسكرية واستئناف الحوار السياسي، وتجلى التحرك في المساعي الجديدة التي أطلقتها الجزائر وواشنطن بهدف وضع حد للصراع والانقسام وفق ما ورد على لسان جوشوا هاريس، السفير الجديد لأميركا في الجزائر، خلال “جلسة استماع” انعقدت بداية يوليو/تموز الجاري في الكونغرس الأميركي تناولت الأوضاع في ليبيا والسودان.

ونقلت تقارير صحافية عن هاريس، الذي سيتسلم منصبه الجديد في الجزائر قريبا خلفا للسفيرة إليزابيث أوبين، أن “البلدين يعملان معا على مستوى مجلس الأمن بهدف تعزيز الأمن الإقليمي من أجل إنهاء الحرب الضروس التي تدور رحاها اليوم في السودان بين الجيش و(قوات الدعم السريع)، ومنع ليبيا من الغرق أكثر في الفوضى مع تواصل حرب بلا نهاية”، مؤكدا في هذا المضمار أنهما “يعملان أيضا على إرساء الأمن والاستقرار في منطقة الساحل التي تستهدفها قوى معادية تستغل نقاط الضعف في المنطقة”.

وقد انطلقت المشاورات الجزائرية- الأميركية فعليا، في يناير/كانون الثاني الماضي، عندما عقد سفير الجزائر في واشنطن صبري بوقادوم لقاءات مع مسؤولين أميركيين، من بينهم جوشوا هاريس، لمناقشة نزاع الصحراء والصراعات في دول جنوب الصحراء لا سيما في مالي والنيجر.

ومن الأهمية الإشارة أيضا إلى الحراك الدبلوماسي الذي تقوده الجزائر داخل مجلس الأمن الدولي بصفتها تشغل مقعد عضو غير دائم، فإلى أي مدى وبأي أدوات يمكنها أن تؤثر اليوم في إيجاد حل سياسي شامل في ليبيا؟ وما الذي تنتظره العواصم الدبلوماسية الكبرى منها؟

عقبة ازدواجية المعايير

يقول خبراء السياسية إن تجسيد المقاربة الجزائرية لحل الأزمة الليبية التي طال أمدها ليس بالمسألة السهلة لعدة أسباب، يذكر من بينها الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية والمتخصص في الشؤون الأفريقية عمار سيغة: “تقاطع جهود حلحلة الأزمة السياسية والأمنية في ليبيا مع الأطراف التي لها حضور قوي في المشهد الليبي نظرا لعلاقتها العميقة مع البرلمان الليبي وقربها من رئيسه عقيلة صالح”. وهنا يُشير إلى الغموض الذي يكتنف مواقف بعض الدول التي تنسق في إطار ثنائي وعلى مستوى المؤتمرات الدولية غير أنها تتدخل عسكريا في ليبيا لمساندة أحد أطراف النزاع.

إن سياسة “الكيل بمكيالين” و”ازدواجية المعايير” تشكل أحد أهم الأسباب التي تكبح التسوية السلمية للصراع، والمطلوب اليوم حسب عمار سيغة “إقناع الفواعل المهتمة والمعنية بالإقليم لا سيما الدول المحاذية لليبيا بتفعيل مقاربة تكبح بها المصالح الأجنبية المتنامية اليوم في المنطقة”.

 

سياسة “الكيل بمكيالين” و”ازدواجية المعايير” تشكل أحد أهم الأسباب التي تكبح التسوية السلمية للصراع

 

 

لكن لماذا لجأت أميركا إلى الجزائر؟ سؤال آخر يطرح نفسه اليوم، فيجيب سيغة بالقول إن “واشنطن تدرك جيدا أهمية دور القاطرة الذي يمكن للجزائر أن تشغله، فمنذ بداية التناحر سنة 2011 وهي تحاول إقناع الأطراف المعنية بالإقليم لا سيما دول الجوار بضرورة الحد من التدخل الخارجي وحلحلة الأزمة داخليا وأن أية حلول للأزمة الليبية يجب أن تمر من خلال التوافق سواء داخليا أو خارجيا ومن دون ذلك قد تتجه الأمور إلى ما لا يحمد عقباه”.

وما يُعقد الأوضاع كثيرا ويجعلها اليوم عصية على الإحاطة، فوضى “السلاح السائب” في ليبيا وتسرب جزء منه إلى دول أفريقية، إذ تشير أحدث دراسة نشرتها “أفريكوم” إلى “تسرب الكثير من الأسلحة المتداولة في نيجيريا من ترسانة الأسلحة الضخمة التي كان يمتلكها نظام معمر القذافي” (الرئيس الراحل) حسبما نقلته مجلة “منبر الدفاع الأفريقي”، الصادرة عن القوة العسكرية الأميركية، عن الرئيس التنفيذي لمبادرة “سولهو” للتنمية إدريس محمد.

لا تسوية للنزاع دون الجزائر

ويُدرج المحلل السياسي التحركات الأميركية نحو الجزائر ضمن سياق إعادة إحياء المبادرة الجزائرية والاستعانة بقربها من الأطراف الليبية، كما أنها ترافع لصالح التزام الحياد بين الأطراف المتصارعة وعدم القفز على الأطر القانونية الدولية التي تعزز من شرعية الحكومة الليبية.

واللافت للنظر أن هذا التحرك تزامن وميلاد “حلف دول شمال أفريقيا” والذي يضم كلا من تونس وليبيا والجزائر وأفضت الاجتماعات المتعاقبة التي انعقدت إلى تفعيل المقاربة الاقتصادية والأمنية لتخطي الأزمات الداخلية التي تعرفها دول الجوار لا سيما ليبيا وقد تخرجها هذه المبادرة من عزلتها.

وفي المحصلة، يقول سيغة إنه “لا يمكن أن يُبنى الدور الاستراتيجي المقبل في ليبيا إلا بإدراك دور القاطرة الذي يمكن للجزائر أن تقوده، وقد اتضح جليا هذا الدور من خلال الحراك الدبلوماسي الذي أصبحت تلعبه في منظومتها الدولية كمجلس الأمن الدولي وما قامت به في إطار الحرب على غزة والمساعي التي بذلتها من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط”.

تحرك استباقي

أما البروفيسور نور الصباح عكنوش، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة، فيربط “التحركات الأممية الجديدة في ليبيا بتفاقم حدة الأزمات فيها، مثل أزمة الهجرة وتجارة الأسلحة”، ويقول عكنوش في حديثه لـ”المجلة” إن “كل هذه المعضلات تدفع باتجاه تحريك الوضع الداخلي نحو إنتاج بيئة حاضنة للسلم ودور الجزائر في هذا الإطار مهم جدا على صعيد تجربتها الدبلوماسية في إدارة الأزمات الدولية وعلى صعيد الثقة التي تحظى بها في المنطقة وعلى صعيد الدعم الدولي لها”.

وقد يكون التحرك الجزائري في هذا البلد المحاذي للجنوب الجزائري الكبير استباقيا لمخططات معادية للأمن والاستقرار، وهنا يمكن الإشارة إلى ما تشهده مدينة “تاجوراء” القريبة من مطار معيتيقة الدولي والواقعة على بعد نحو 20 كيلومترا شرق طرابلس إذ تشهد بين الحين والآخر اشتباكات بين مجموعات مسلحة محليا تستخدم فيها مختلف الأسلحة الثقيلة الشائعة.

وتشهد منطقة الاشتباكات انتشارا كثيفا للعناصر المسلحة بعد تجدد الخلافات بين كتيبة “رحبة الدروع” المعروفة بكتيبة “البقرة” نسبة لقائدها بشير البقرة، وكتيبة “صبرية الرثيمي”، مما أثار الذعر والقلق بين سكان المدينة.

ويحتاج الوضع الليبي حسب المحلل السياسي إلى “إعادة هندسة مؤسساتية واستراتيجية لأن الجمود الراهن لا يخدم أي طرف داخليا وخارجيا”.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف يتحدثان إلى وسائل الإعلام قبل اجتماع في وزارة الخارجية في واشنطن العاصمة 9 أغسطس 2023

 

وحتى تخرج المنطقة بأقل أضرار من صراع قد يمتد على مدى عقود من الزمن ليشكل هاجسا للجوار الليبي، يرى البروفيسور نور الصباح عكنوش أنه “يجب تبني مقاربة جديدة في حلحلة الملف الليبي حتى لا تتراكم أسباب الانقسام وتصبح حالة مزمنة على حساب الأمن والاستقرار في المنطقة، لا سيما مع تزايد مستوى الاحتراب في السودان والسياق الانتقالي لمنظومة الحكم في دول الساحل وهي كلها بيئة حاضنة للقلق والتوتر والعنف حول ليبيا كدولة مهمة في المنطقة، وهناك اعتقاد لدى دول فاعلة كالجزائر وأميركا بأن هناك دائما فرصة ممكنة لإعادة بناء السلم المستدام في إطار العودة للمسار الانتخابي ووحدة الدولة والمجتمع وتحقيق عقد اجتماعي وسياسي مع الفرقاء تأمينا للوضع الداخلي والمحيط الخارجي لليبيا التي تبقى عامل توازن إيجابيا في شمال أفريقيا بمنظور استراتيجي”.

ويتفق الدكتور عبد الرزاق صاغور أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر مع هذا الطرح، ويقول إن “أميركا صارت تتباحث مع الجميع حول هذه الأزمة لكن مؤخرا لمسنا تقاربا جزائريا أميركيا في الرؤى، لا سيما فيما يخص التدخلات الخارجية وعلى رأسها مجموعة فاغنر المنتشرة في عدة دول بمنطقة الساحل ووسط أفريقيا والتي أصبح اسمها اليوم الفيلق الروسي الأفريقي”.

وبناء على هذه التطورات الميدانية، يصف صاغور الوضع في ليبيا بـ”المقلق جدا بالنظر إلى الوجود الأجنبي على الأرض، فتركيا منتشرة في الغرب، وفاغنر تستحوذ على الجهة الشرقية، وهناك الكثير من التدخلات الجهوية والمحلية التي أعاقت أي حل سلمي توافقي”، لذلك يقول المحلل السياسي إن “الحل صعب المنال لا سيما وأن الوضع الداخلي لليبيا والصراع الدولي القائم من أجلها أفشل كل المبادرات السياسية، وأميركا تركز على أهم دولة في المنطقة وهي الجزائر”.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321632/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7%E2%80%A6-%D9%87%D9%84-%D8%AA%D9%86%D8%AC%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D9%8A%D8%AC%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9%D8%9F

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M