من أهم السمات الرئيسة التي يتسم بها حلف شمال الأطلسي “الناتو” كونه منطلقًا للتعاون الدفاعي والتسليحي بين الدول المنضمة إليه، بشكل جعله منذ خمسينيات القرن الماضي بمثابة منصة تكتشف وتبتكر من خلالها الدول الأعضاء طرقًا ووسائل مختلفة ومتجددة للتعاون في ما بينها؛ لإكمال منظوماتها الدفاعية وسد الفجوات الأساسية في تسليحها على مستوى الكم والنوع.
يعد الدفاع الجوي من أهم المجالات التي تعاونت فيها دول الحلف خلال العقود الماضية؛ نظرًا إلى أن هذا الجانب -بالإضافة إلى التسلح النووي الاستراتيجي- كان حيويًا بالنسبة لدول الحلف، خاصة خلال فترة الحرب الباردة، حيث كانت الخشية الأوروبية الدائمة من الأنشطة الجوية السوفيتية -وبشكل خاص القاذفات الاستراتيجية والصواريخ التكتيكية- من أبرز ملامح المقاربات الدفاعية الأوروبية المشتركة خلال تلك الفترة.
عقب انتهاء هذه الحرب، بدا أن دول الحلف قد خفضت بشكل عام من وتيرة تسلحها وميزانياتها العسكرية، وهو ما انعكس أيضًا على دفاعاتها الجوية والمبادرات المشتركة فيما بينها للتعامل مع التهديدات الجوية المختلفة، سواء عبر الشراكات التصنيعية أو التعاون على المستوى القيادي والمعلوماتي. لكن تسببت الحرب في أوكرانيا في “إعادة تعيين” المعادلة الأوروبية الدفاعية حيال التهديد الذي تمثله روسيا، وهو ما بدأ عمليًا عام 2014 بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم، حيث كانت التحركات الروسية في أوكرانيا منذ ذلك التوقيت محفزًا أساسيًا لمعظم الدول الأوروبية كي تعيد تشكيل استراتيجيتها الدفاعية والتسليحية.
من أهم هذه الدول ألمانيا التي حفزها بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022 لبدء تحول عسكري كامل، سواء على مستوى الإنفاق العسكري وتوسيعه، أو على مستوى الاستحواذ على أنظمة دفاعية وهجومية جديدة. بشكل تحولت برلين بموجبه إلى قوة أساسية محركة للتوجهات العسكرية الأوروبية، فقادت الجهود الأوروبية لتزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة والذخائر المختلفة، وكانت تدابيرها الداخلية المتعلقة بإعادة تقييم تسليح وتدريب وميزانية الجيش نموذجًا حذت حذوه معظم الدول الأوروبية -جزئيًا أو كليًا- ضمن إرهاصات مرحلة ما بعد بدء العمليات الروسية في أوكرانيا.
وقد كانت التفاعلات الجوية والصاروخية التي صاحبت بدء هذه العمليات من أهم الدروس التي لاحظتها المنظومات العسكرية الأوروبية خلال أكثر من عام ونصف من المعارك في أوكرانيا؛ إذ أظهرت هذه المعارك مدى أهمية إدامة وتأمين السيطرة على المجال الجوي لساحة المعركة، وحمايته ضد التهديدات الجوية المحتملة التي تزايد حجمها وقدراتها التدميرية والعملياتية خلال العقدين الأخيرين. وهي تشمل بجانب المقاتلات والقاذفات بأجيالها المختلفة، الصواريخ المطلقة من المنصات الأرضية والجوية والبحرية، بما في ذلك الصواريخ الجوالة والباليستية، وكذا أنواعًا مختلفة من الطائرات بدون طيار، خاصة “الذخائر الجوالة” التي أثبتت الحرب في أوكرانيا مدى فاعليتها ومدى التطور الذي خضعت له، بشكل جعلها رمانة ميزان مؤثرة في نتائج المعارك الميدانية.
في ضوء هذا الوضع، تأتي محاولة ألمانية لإيجاد مبادرة أوروبية فعالة ومستدامة للتعامل مع التهديدات الجوية المختلفة -وبشكل أكثر تحديدًا مخاطر الصواريخ الباليستية المختلفة سواء كانت تكتيكية أم عابرة للقارات- وهو الجانب الأكثر أهمية بالنسبة للحلف في هذا التوقيت، في ضوء التجربة الأوكرانية مع التسليح الصاروخي الروسي.
سُمّيت المبادرة الألمانية “درع السماء الأوروبية” -المعروفة اختصارًا باسم (ESSI)- وهي تعد المبادرة الدفاعية الأحدث المبنية على العقيدة العسكرية للحلف. أُعلن عنها رسميًا في 13 أكتوبر 2022 من قبل وزراء دفاع أربع عشرة دولة من دول الحلف، بالإضافة إلى فنلندا التي كانت حينها في طور الانضمام للحلف. وبشكل عام، تهدف هذه المبادرة إلى إنشاء منظومة دفاع جوي وصاروخي مشتركة، للدفاع عن المجال الجوي لدول الحلف، بشكل يعزز قدرات الدفاع الجوي الأوروبية القصيرة والمتوسطة والطويلة المدى.
مبادرة “درع السماء”… بين الدول المنخرطة والدول المتحفظة
حقيقة الأمر أن طرح فكرة هذه المبادرة تم للمرة الأولى في أغسطس 2022 خلال خطاب ألقاه المستشار الألماني، أولاف شولتز، في العاصمة التشيكية براغ، وحينها تحدث “شولتز” عن إمكانية دمج أنظمة دفاع جوي أوروبية مختلفة في نظام دفاعي مشترك على مستوى أوروبا، وقد كان لافتًا في هذا التوقيت أن النظرة الألمانية التي عبر عنها “شولتز” للتكامل الدفاعي في أوروبا ترتكز على إعادة قولبة القدرات العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي، بشكل يكون مكملًا للتكامل الدفاعي الذي تسعى إليه الدول المنخرطة في حلف الناتو، وبالتالي كان هذا الطرح متقدمًا -بشكل كبير- عن الطرح الفرنسي السابق الذي يقترح تشكيل “قوة اوروبية موحدة”، علمًا أن برلين لم تكن من الدول المؤيدة للطرح الفرنسي.
كان الطرح الألماني السالف ذكره متزامنًا مع بدء توريد عشرات من منظومات الدفاع الجوي الغربية للجيش الأوكراني، ومن ضمنها منظومات “IRIS-T” الألمانية، وهي الاستراتيجية التي كان تصاعد الضربات الصاروخية الروسية على المدن الأوكرانية محركًا أساسيًا من محركاتها، ناهيك عن بدء تأثر بعض الدول الأوروبية القريبة من أوكرانيا بالأنشطة الجوية والصاروخية المصاحبة للعمليات العسكرية هناك، مثل كرواتيا وبولندا اللتين تكررت منذ مارس 2022 وحتى الآن حوادث اختراق مجالهما الجوي من جانب الطائرات المسيرة وصواريخ الدفاع الجوي.
وهو ما دفع الدول الأوروبية بشكل عام إلى إعادة تقييم دفاعاتها الجوية، وتبيان نقاط الضعف التي تعتريها، وبالتالي تزايد الوعي بين الدول الأوروبية -خاصة الدول المنخرطة في حلف الناتو- بضرورة علاج نقاط الضعف هذه -خاصة تلك المتعلقة بالدفاعات الجوية ضد الطائرات المسيرة ذات المقطع الراداري الصغير، والصواريخ الجوالة والباليستية- لأن التهاون في هذا الصدد من الممكن أن يؤدي إلى تبعات مستقبلية خطيرة لقدرات الردع العامة لحلف الناتو.
في بداية إعلان مبادرة “درع السماء” كان عدد الدول المنخرطة فيها 15 دولة، وهي: ألمانيا “الدولة الداعية لهذه المبادرة”، ودول البلطيق الثلاث “إستونيا – لاتفيا – ليتوانيا”، بجانب بلجيكا، وبلغاريا، وجمهورية التشيك، والمجر، وهولندا، والنرويج، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ورومانيا، وبريطانيا، وفنلندا. وانضمت لهذه الدول كل من: الدنمارك، والسويد في فبراير الماضي، ثم أعلنت الشهر الماضي سويسرا والنمسا عن رغبتهما في المشاركة في هذه المبادرة.
النظرة العامة لخريطة توزيع الدول المنخرطة في هذه المبادرة يظهر من خلالها عدة ملاحظات، منها ملاحظة أساسية تتعلق بأن بعض هذه الدول ليست عضو بحلف الناتو، مثل السويد “المرشحة للانضمام لاحقًا للحلف”، وكل من سويسرا والنمسا اللتين تتسم توجهاتهما الدفاعية والسياسية بهامش كبير من الحيادية.
نطاق هذه الخريطة يظهر منه بشكل واضح أن دول المواجهة في شرق أوروبا، سواء دول البلطيق وفنلندا أو الدول المواجهة لأوكرانيا وروسيا وهي بلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا والتشيك، قد دخلت جميعًا ضمن المبادرة الألمانية. وعلى الرغم من أن المبادرة تعد شاملة للأراضي الأوروبية بشكل عام، فإنها تبدو مركزة بشكل أكبر على دول شمال وشرق أوروبا.
هذا يظهر بشكل كبير من خلال غياب بعض من أهم دول جنوب وغرب أوروبا على رأسها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وهو الغياب الذي يمكن، إذا ما وضعناه جنبًا إلى جنب مع غياب أحد أهم الدول التي تقع على خط التماس المباشر مع روسيا -ألا وهي بولندا- عن هذه المبادرة، أن نعده بمثابة أهم الملاحظات التي يمكن رصدها حيال هذه المبادرة. ويتوقع أن يكون لاستمرار غياب هذه الدول من عدمه عن هذه المبادرة دور مؤثر في تحديد مدى إمكانية التفعيل المؤثر لها في المدى القريب.
الملاحظة الرئيسة الثالثة ترتبط بحقيقة أن هذه المبادرة؛ فهي تعد أوروبية المنشاة من حيث الشكل، ولكنها من حيث المضمون لا تقتصر فقط على الدول الأوروبية، حيث تفتح عمليًا تفتح الباب أمام انضمام دول أخرى حتى لو كانت خارج المدار الأوروبي، فقد صرحت سابقًا وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت أن الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بتشغيل بعض مواقع الدفاع الجوي في أوروبا الشرقية دون أن تصبح عضوًا رسميًا في هذه المبادرة، وبالتالي من المرجح ان تنضم دول أخرى من خارج أوروبا إلى هذه المبادرة، سواء لأسباب استراتيجية أو لأسباب تسليحية وفنية محضة.
آليات واتجاهات تنفيذ مبادرة “درع السماء”
على المستوى التقني والعملياتي، تبدو معظم بنود هذه المبادرة غير واضحة حتى الآن، لكن الخطوط العريضة لها تبدو واضحة حاليًا بشكل كبير، فهي تستهدف حصول الدول المشاركة فيها على أنظمة للدفاع الجوي متعددة الطبقات بشكل سريع ومتكامل، عبر شراء أنظمة موجودة بالفعل في الأسواق الدولية، وإدماجها ضمن منظومة موحدة للدفاع الجوي، وبالتالي تعزيز القدرات الأوروبية فيما يتعلق بالدفاع الجوي بشكل متزامن وفعال.
تشمل هذه المبادرة بشكل رئيس إنشاء شبكة مشتركة ومتكاملة من الدفاعات الجوية متعددة الطبقات، بحيث تكون هذه الشبكة قابلة للتشغيل البيني والمتزامن بين الدول المشاركة فيها، عبر شراء منظومات للدفاع الجوي والصاروخي موجودة بالفعل في السوق الدولية، ودمج أنظمة الدفاع الجوي الموجودة بالفعل في حوزة الدول المشاركة في المبادرة، والتي تتوافق مع المنظومات الرئيس\ة التي تم اختيارها للعمل ضمن شبكة هذه المنظومة.
في مضمون هذه المبادرة، تكمن عمليات التطوير والشراء والصيانة المشتركة لقدرات الدفاع الجوي والصاروخي التي ستتوفر للدول المنخرطة في هذه المبادرة، وتطوير قاعدة التكنولوجيا والصناعة المرتبطة بهذه القدرات، مع التركيز على توفير التكاليف ورفع مستوى كفاءة المنظومات التي يتم اختيارها واستخدامها، مع التعاون بشكل كامل فيما بين دول هذه المبادرة في الخدمات اللوجستية والصيانة والإصلاح، وهذا من شأنه -من الناحية النظرية- خفض التكاليف المترتبة على كل دولة مشاركة في هذه المبادرة.
المقترح الألماني الخاص بهذه المبادرة يتضمن من حيث الشكل تحديد ثلاثة منظومات رئيسة للدفاع الجوي، ليتم تشغيلها ضمن هذه المبادرة: المنظومة الأولى قصيرة المدى ومخصصة للتعامل مع الأهداف الجوية على مسافات تتراوح بين 15 و35 كيلو مترًا وارتفاعات تصل إلى 6 كيلو مترات وهي منظومة “IRIS-T” الألمانية؛ في حين تم تخصيص منظومات الدفاع الجوي المتوسطة – طويلة المدى “باتريوت” الأمريكية الصنع، لتعمل ضمن نطاق الطبقة الثانية من هذه المبادرة والمخصصة للتعامل مع الأهداف الجوية على مسافات تتراوح بين 50 و100 كيلومترات وارتفاعات تصل إلى 25 كيلو مترًا؛ المنظومة الثالثة مخصصة لمواجهة الأهداف الجوية بعيدة المدى على مسافات تتجاوز مئة كيلو متر وارتفاعات تصل إلى 35 كيلو مترًا وهي منظومة “حيتس” الإسرائيلية – الأمريكية. وبالتالي تتشكل بموجب المنظومات الثلاث شبكة متعددة الطبقات للدفاع الجوي، تتركز على الجانب الشرقي لأوروبا، وتتدرج نحو بقية مناطق القارة العجوز.
من حيث المضمون، تعد مبادرة “درع السماء” محاولة ألمانية وأوروبية لتعزيز مجموعة من الأنظمة الأوروبية السابقة المتعلقة بالدفاع الجوي والصاروخي، وبشكل خاص مبادرة الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل لحلف الناتو (IAMD) التي أُطلقت في خمسينيات القرن الماضي وتعد أساس الاستراتيجية الدفاعية الجوية للحلف، وتتكون من شبكة من منظومات الدفاع الجوي الخاصة بدول الحلف، تتألف من: أجهزة استشعار ورادار، وأنظمة الصواريخ المضادة للطائرات، ومنظومات القيادة والسيطرة. وقد تم تعزيز هذا النظام بشكل سريع عقب بدء العمليات الروسية في أوكرانيا.
وقد حاول حلف الناتو خلال الأعوام الماضية إيجاد عدة مبادرات دفاعية لتطوير استجابة الدفاعات الجوية الأوروبية، لكن كانت هذه المحاولات في مجملها غير ناجحة؛ نتيجة لتعقيدات مالية وأخرى ترتبط بضعف التنسيق الداخلي بين الدول المنخرطة فيها، من أبرز هذه المبادرات:
● مبادرة الدفاع الجوي متوسط المدى لحلف الناتو (MEADS): وقد أسستها بجانب ألمانيا كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا عام 1995؛ بهدف استبدال أنظمة الدفاع الجوية متوسطة المدى مثل “HAWK” و”Roland”، لتحل محلها أنظمة حديثة. هذا النظام لم يكتب له النجاح بسبب عزوف ألمانيا عن الاستمرار فيه، بعد أن قررت الحكومة الألمانية في شهر ديسمبر من عام 2020، إيقاف تمويل برنامج تطوير هذا النظام.
● مبادرة الدفاع الجوي ضد الصواريخ الباليستية لحلف الناتو (BMD): قررت معظم دول الحلف عام 2010، تطوير قدرة موسعة للدفاع ضد الصواريخ الباليستية، وهو ما تم تفعيله بشكل جزئي عام 2016؛ لمواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية، وهذا يشمل الدفاعات الجوية الأرضية، والقطع البحرية المزودة برادارات الكشف الجوي المتقدمة.
● مبادرة الدفاع الجوي قصير المدى لحلف الناتو (GBAD): والتي تم تفعيلها بشكل أولي عام 2019؛ للتعامل مع التهديدات الجوية قصيرة ومتوسطة المدى. وقد قادت بريطانيا هذه المبادرة، وشاركت فيها كل من: بلجيكا، والدنمارك، وألمانيا، والمجر، وإيطاليا، ولاتفيا، وهولندا، وسلوفينيا، وإسبانيا.
● مبادرة الاتحاد الأوروبي للرصد المبكر والاعتراض الصاروخي المعزز بالأقمار الصناعية (TWISTER): والتي بدأت عام 2019، بقيادة فرنسية ومشاركة كل من: فنلندا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وإسبانيا؛ لتدعيم مبادرة الدفاع الجوي ضد الصواريخ الباليستية (BMD)، ولكنها لا تزال في طور التطوير، ويتوقع أن تكون مفعلة بشكل كامل -في حالة إيجاد التمويل اللازم لذلك- بحلول عام 2030.
ملامح الخلافات المرتبطة بمبادرة “درع السماء”
غياب دول أوروبية وازنة ومهمة عن هذه المبادرة يعد -كما سبق ذكره- من أهم النقاط السلبية التي يمكن تسجيلها في هذا الصدد، خاصة فرنسا التي تقود “الموجة الرافضة” لهذه المبادرة. وتتعدد في هذا الإطار المنطلقات الفرنسية، بدءًا من المنطلق “المعلن” وهو الرغبة في أن تكون الدول الأوروبية مستقلة بشكل كامل -على المستوى التسليحي- عن الدول غير الأوروبية، وهذا ما ترى باريس أن مبادرة “درع السماء” تعمل لتحقيق عكسه؛ عبر تشجيع الدول الأوروبية على شراء منظومات دفاع جوي من خارج المنظومة الأوروبية.
المنطلقات “غير المعلنة” للرفض الفرنسي لهذه المبادرة تبقى مهمة و”مفهومة”، وترتكز بشكل أساسي على رؤية باريس أن المبادرة الألمانية تستهدف بشكل أساسي دعم المجمعات الصناعية العسكرية في ألمانيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يسير عكس ما تريده فرنسا التي تنتج بالمشاركة مع إيطاليا -الغائبة أيضًا عن هذه المبادرة- منظومات الدفاع الجوي “SAMP/T”. ومن ثم ترى فرنسا أن المبادرة الألمانية في شكلها الحالي ستتسبب في أضرار بالغة لقطاع صناعة الأسلحة الأوروبية بشكل عام، والصناعات العسكرية الفرنسية بشكل خاص.
هذه النظرة أوضحها في يونيو الماضي الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي قال إن بلاده تميل إلى تعزيز التعاون الأوروبي الجماعي، وترى أن الحل الأجدى لتحقيق هذا هو زيادة أعضاء حلف الناتو استثماراتهم في مجال الصناعات الدفاعية والتطوير التكنولوجي، عوضًا عن شراء المنظومات العسكرية من الخارج، على أن يأخذوا في الحسبان الأنواع المستحدثة من التهديدات الجوية والفضائية، خاصة التهديدات المسيرة.
حديث الرئيس الفرنسي تضمن أيضًا إشارة إلى جانب مهم من جوانب النظرة الاستراتيجية الفرنسية لانعكاسات الحرب في أوكرانيا على تسلح حلف الناتو، إذ رأى أنه لا يجب أن تؤدي العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى تحديد اتجاهات تطوير القدرات العسكرية لدول حلف الناتو، فهذه حسب النظرة الفرنسية استراتيجية مكلفة وغير واقعية، في ظل اعتماد فرنسا على الردع النووي كوسيلة أساسية للتعامل مع التهديدات الخارجية. ويرى “ماكرون” في هذا الصدد أن عمليات الاستحواذ “السريعة” للدفاعات الأوروبية ضد الصواريخ الباليستية قد تحفز موسكو إلى تسريع وتيرة تطوير قدرات هجومية غير تقليدية، من شأنها تقويض فاعلية الردع النووي الفرنسي.
تنضم إلى فرنسا في هذه النظرة -ولكن بدرجات متفاوتة- كل من: إيطاليا، وبولندا، وإسبانيا، والبرتغال؛ إذ تتحفظ إيطاليا على هذه المبادرة لعدة أسباب، منها: تأثر صناعتها العسكرية ببنود هذه المبادرة، ورؤيتها أنها تركز بشكل كبير على الجانب الشرقي من أوروبا ولا تضع الجنوب الأوروبي في حسبانها. نفس هذه المنطلقات تقريبًا هي ما يحرك بولندا في رفضها لهذه المبادرة؛ فهي من جانب تتمتع بقدرات دفاع جوي جيدة، سواء عبر اتفاقيات التعاون العسكرية -في المجال الجوي- التي وقعتها مع واشنطن عامي 2008 و2010، أو عبر برامج الدفاع الجوي الخاصة بها، مثل برنامج (Wisla) بالمشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبرنامج (NAREW) للدفاع الجوي قصير المدى، بالمشاركة مع المملكة المتحدة. وقد وقعت وارسو مؤخرًا، صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية تتزود بموجبها بما يصل إلى 48 منصة إطلاق لمنظومات الدفاع الجوي “باتريوت باك-3”.
نقاط سلبية أخرى حول هذه المبادرة يمكن إضافتها إلى النقطة المرتبطة بغياب دول وازنة واساسية عنها، منها الصعوبات اللوجستية والمالية والفنية التي تواجه عملية إدامة التواصل والتوافق بين هذا الكم من الدول المنخرطة في هذه المبادرة، والتي يحظى كل منها برؤى استراتيجية وتكتيكية خاصة بها، خاصة في ظل فشل أو جمود معظم المبادرات العسكرية السابقة التي تم تنفيذها داخل حلف الناتو، مثل تلك المتعلقة بالدفاعات الجوية الموحدة، أو الخلافات التي شابت البرامج التي قادتها ألمانيا فيما يتعلق بأوكرانيا وعلى رأسها برنامج التبادل الدائري (RINGTAUSCH) الذي لم تُنفذ كامل بنوده بشكل فعال.
على الجانب اللوجستي، ستطرح عمليات الاستحواذ السريعة على منظومات دفاع جوي مختلفة المنشأ بعض المعضلات المتعلقة بعملية دمج هذه الأنظمة المختلفة وتنسيق عملياتها، وهو التحدي الذي واجهته أوكرانيا سابقًا، لكنه في حالة “درع السماء” سيكون أكبر بكثير.
تفاقم الخلاف والانقسام حيال هذه المبادرة بين الفريق الألماني والفريق الفرنسي ستكون له تأثيرات خطيرة على الحالة الأوروبية، سواء ما يتعلق بالوحدة السياسية والدفاعية لأوروبا، أو تعارض هذه المبادرة مع أهداف الاتحاد الأوروبي المعلنة فيما يتعلق بتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية وتطوير القدرات السيادية، وكذلك إمكانية نشوء انقسام طولي بين الدول الأوروبية في حالة ما إذا نفذت فرنسا تلويحها السابق بإعلان مبادرة دفاع جوي مماثلة للمبادرة الألمانية، وسيسفر عن أضرار بالغة في المنظومة الدفاعية الأوروبية، وكذا سيسهم في تقويض المشاريع العسكرية المشتركة بين الدول الأوروبية، لاسيما البرنامج الجوي المشترك الذي تشارك فيه باريس وبرلين (FCAS)، أو نظام الحرب البرية المستقبلي (MGCS).
على الجانب الآخر، ترى برلين أن نجاح تجربة هذه المبادرة سيعطى للمنظومة الدفاعية الأوروبية قدرات متفوقة على مستوى الدفاع الجوي تتسم بقدر كبير من التماسك التشغيلي والتكامل يعد غائبًا حاليًا عن هذه المنظومة، ناهيك عن تقليل تكاليف الشراء والاستحواذ؛ نظرًا إلى أن عمليات الحصول على المنظومات الدفاعية الجديدة ستتم بشكل مشترك بين الدول الأوروبية، وهو نفس ما ينطبق على عمليات التدريب والتمركز وتبادل الخبرات والمعلومات المختلفة.
ترى الدول صاحبة الرأي المؤيد لهذه المبادرة أن تجربة مصغرة قد تمت عليها بالفعل في الميدان الأوكراني، وأن جانبًا كبيرًا من هذه التجربة قد برهن على إمكانية نجاحها على المستوى الأوروبي. في حين زود الجانب الآخر حلف الناتو بدروس ميدانية يمكن الاستعانة بها لاحقًا.
خلاصة القول، إن مبادرة “درع السماء” للدفاع الجوي متعدد الطبقات تعد خطوة إضافية من جانب حلف الناتو لإيجاد صيغة فعالة للتعامل مع المخاطر والتهديدات التي ظهرت من خلال المعارك في الميادين الأوكرانية المختلفة. وعلى الرغم من وجاهة فكرة هذه المبادرة، فإن تحديات عديدة تواجهها على المستويات العسكرية والسياسية والتمويلية واللوجستية، بداية من عدم وضوح أهدافها وبنودها، مرورًا بصعوبة التنسيق بين هذا العدد الكبير من الدول المشاركة، وصولًا إلى الخلافات الألمانية الفرنسية المتزايدة.
معيار نجاح هذه المبادرة يكمن في إعطاء الأولوية للتعاون والتنسيق بين كافة الدول المنخرطة فيها، بجانب إيجاد صيغة يمكن من خلالها التعاطي بإيجابية مع تحفظات الدول الرافضة لهذه المبادرة، لأن مكمن القوة الأساسية لهذه المبادرة يرتبط بدخول كافة دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي فيها، بدلًا من أن تتحول إلى مبادرة للدفاع الجوي في “شرق أوروبا”. الأكيد أن برلين خطت بهذه المبادرة خطوة جديدة نحو مقاربتها العسكرية المستحدثة، ستضيف لها نقاطًا إيجابية بكل تأكيد، لكنها في نفس الوقت ستزيد من حدة الخلافات بينها وبين دول رئيسة أخرى، إلا في حالة ما إذا عملت برلين على حشد دعم “كافة” الدول الأوروبية لمبادرتها هذه.
.
رابط المصدر: