خلال الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة، دأب مترجمون غربيون على محاولة كسر جدار الصمت في بلادهم حول الفلسطينيين. ما يجمع هؤلاء، دوافع قوية لإعلاء صرخات المستضعفين، ورصد مشاعرهم الاستثنائية، في عالم تتناثر فيه القصص الإنسانية، والكثير منها يضيع بفعل التهميش والنسيان. نحاور هنا ثلاثة مترجمين غربيين أعطوا من وقتهم وجهدهم الكثير، وخاضوا تحديات جمّة من أجل تقديم تجربة الألم الفلسطيني إلى العالم.
تخبرنا المترجمة البلغارية مايا تزينوفا بأنها غارقة في الحزن بسبب ما تراه من قتل يومي في غزة، وتستغرب: “كيف لبشر أن يتحملوا كلّ هذا الألم، وكيف للعالم أن يتحمّل ذلك أيضا”، معربة عن صدمتها “من استمرار الإبادة طوال أكثر من سنة”.
دوافع
ترى تزينوفا أن نقل هذه التجربة المريرة إلى الناطقين بلغتها والسعي إلى الحفاظ على القيم الإنسانية، يعدّان تحديا كبيرا: “مهما كانت الاتهامات التي نتلقاها، فنحن نحاول جاهدين كسر جدار الإعلام الرسمي الصامت عن الرواية الفلسطينية وملء الفراغ والتعويض عن غياب هذه الرواية من خلال شبكات التواصل”.
أما المترجمة البريطانية كاثرين هال، فتخبرنا عن دوافعها لترجمة نصوص عن تجارب فلسطينيين: “آمل أن يكون نقل الأدب الفلسطيني والشهادات الفلسطينية عن الحرب إلى الإنكليزية مساهمة صغيرة، في حركة أكبر، تناضل من أجل إنهاء الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأود أن أؤكد في هذا السياق أن الأدب الفلسطيني لا يقتصر على شهادات الحرب والإبادة الجماعية. فهو ببساطة أدب ممتاز، يثري حياة قرائه”.
في حين يرى المترجم الأميركي ألكسندر إلنسون أن مهمة الترجمة في ظروف العالم الحالية هي مهمة شاقة، “بسبب أن الأصوات غير متكافئة، لذا تنطوي رحلة الترجمة في هذا الإطار على تحديات مرهقة”، لكنها حسب رأيه، “تصغر مهما كانت كبيرة، في سبيل هدف أشد إلحاحا تجاه العدالة وإنقاذ حياة البشر”.
نحاول جاهدين كسر جدار الإعلام الرسمي الصامت عن الرواية الفلسطينية وملء الفراغ والتعويض عن غياب هذه الرواية
مايا تزينوفا
يقول: “ما يدفعني إلى ترجمة الأدب الفلسطيني هو اعتقادي بأنّ كلّ فعل ترجمة هو تكبير لصوت ما، ومن خلال هذا الجهد، لربما يصل الصوت أخيرا وتكون له مساحة”. يضيف: “أرى أن عملي صغير، ولكن المحيط لا يتكون إلّا من قطرات ماء والجبل لا يتكون إلا من قطع من حجر وبدون الأفعال الصغيرة لن تكون هناك أفعال كبيرة”.
يعتني إلنسون بالتفاصيل الصغيرة في ترجمته للنصوص الأدبية، والتي يخص منها الاتصال بكاتب النص، فيخبرنا: “مهم جدا لي كقارئ ومترجم وإنسان أن أتواصل مع الكاتب نفسه لكي أستمع إليه، ولكي يعرف أني أستمع إليه وأسمعه، فالعلاقة الشخصية مع الكاتب مهمة للغاية. وتكوين هذه العلاقة يدفعني إلى الترجمة أيضا”.
فلسطينيون يتدفأون بجانب النار وسط الأنقاض في البريج
بدايات
تعرفَت تزينوفا على الأدب الفلسطيني من خلال أغنية مارسيل خليفة “خبز أمي”، رائعة محمود درويش، وأهدتها الى أمها بعدما ترجمتها الى لغتها الأم. وبدأت بالتعامل مع الأحداث الفلسطينية في حرب عام 2008 على غزة، وعملت مع “مسرح عشتار” برام الله لنقل شهادات الأطفال الفلسطينيين الى العالم، وترجمتها الى البلغارية. منذ ذلك الحين استمر عملها مع الأدب الفلسطيني بالنقل والتوثيق.
أما إلنسون، أستاذ الأدب العربي في جامعة واشنطن، فيخبرنا: “قرأت الكثير من الأدب الفلسطيني لكتّاب وشعراء، مثل إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وحسين البرغوثي، وغيرهم، فهذه الأسماء كانت دائما على قائمة كبار الأصوات العربية الأدبية”.
يضيف: “أما شغلي كمترجم، فمعظم تجاربي كانت مع الأدب المغاربي (المغربي والجزائري في الخصوص)، وخلال حرب الإبادة توجهت الى ترجمة النصوص الفلسطينية، لصالح إحدى المجلات الأميركية”.
فيما تساهم المترجمة البريطانية كاثرين هال في العديد من المجلات الأدبية، وتسلط اهتمامها على الأدب الفلسطيني منذ سنوات عدة، ولديها العديد من الإصدارات حول الأدب الفلسطيني.
الأدب الفلسطيني لا يقتصر على شهادات الحرب والإبادة الجماعية. فهو ببساطة أدب ممتاز، يثري حياة قرائه
كاثرين هال
فروقات
أدى التباين الغريب بين حياة الغربي، وحياة المدنيين في فلسطين، وأماكن الحروب والصراع، إلى منح قضية فلسطين المزيد من الاهتمام لدى المترجمين. فما بين حياة تمضي بهدوء وسكينة، وحياة مليئة بالفواجع والفقد والدمار، يمكن اختزال أكذوبة الأخلاق والعدل في العالم.
تقول تزينوفا: “كم هو صعب تناول الطعام، وفي البال شمال غزة الذي يتعرض للتجويع. وكم يصعب النوم تحت سماء خالية من المقاتلات والقنابل، مع التفكير في مصير الأصدقاء وأبنائهم وأمهاتهم في غزة”.
تضيف: “ما يهوّن عليّ أن أصدقائي هنا، في بلغاريا، بغض النظر عما إذا كانوا يجيدون العربية أم لا، وبغض النظر عن عملهم أو حالتهم العائلية، معظمهم أقاموا صداقات حميمة مع أناس من غزة وهم حرصاء على دعم أسر من غزة يصفون أفرادها بأخوة لهم لم تلدهم أمهاتهم”.
نازحون يعبرون الطريق في جباليا بعد أوامر إخلاء إسرائيلية.
أما إلنسون فيعبّر عن صدمته مما يحدث، وعدم استيعابه القتل الجنوني في حق الفلسطينيين:”لا يمرّ يوم دون أن أفكر في هذه البشاعة من تجويع وقتل وتهجير وتنكيل بالإنسان، هنا حيث أعيش لا أفكّر في انقطاع الماء أو الكهرباء، ولا أقلق على ابنيّ في كل لحظة، ولا أتساءل هل سيكون هناك طعام كاف للغد، فكل هذا متاح هنا، فيما هو مفقود هناك بفعل القوة العسكرية القاهرة”.
يشعر إلنسون بآلام الغزيين والكارثة التي تحل بهم: “القصص والشهادات التي تجيء من غزة الآن ليست مؤلمة فحسب، بل كارثية، وتجعلني أطرح أسئلة حول العنف الوحشي الذي يتم تقديمه في القصص والنصوص والشهادات الفلسطينية، من المستحيل تخيل ما يُكتب عما يحدث، لكنه يحدث فعلا”.
يضيف: “هنالك دور من أدوار المترجم، وهو نقل نص من لغة إلى لغة أخرى، من مكان إلى مكان آخر، من واقع إلى واقع آخر. ولكن ما العمل عندما يكون الواقع الذي أترجمه غير واقعي للغاية؟”.
خيبات
من جانب آخر، تعرب كاثرين هال عن خيبة أملها “من عدم تحرك العالم لوقف المجازر الصارخة، واتباع سياسة تكميم أفواه الغاضبين مما يحدث، والأمر لا يتطور لتوسيع رقعة المتضامنين مع فلسطين… أخشى أن يكون من يقرأ ترجمات الكتابات الفلسطينية هم أشخاص يدعمون القضية الفلسطينية بالفعل، وربما لا ننجح في الوصول إلى قراء جدد. من الصعب جدا علينا أن نعرف من يقرأ أعمالنا وما تأثيره عليهم، ولذلك أحاول أن أنشر ترجماتي في العالم على أمل أن تلهم وتحرك شخصا ما في مكان ما”.
القصص والشهادات التي تجيء من غزة الآن ليست مؤلمة فحسب، بل كارثية، وتجعلني أطرح أسئلة حول العنف الوحشي
ألكسندر إلنسون
لا تبقى تجربة الترجمة حبيسة الكلمات، وإنما تتوسع لتنقل المترجم للحدث، فيعيشه متأثرا بأصوات وشهقات وصرخات الأبرياء وضحايا العنف. تقول تزينوفا: “أول مرة سمحت لنفسي بالبكاء علانية كانت في حضور أناس آخرين، يوم تلقى الصحافي وائل الدحدوح خبر استشهاد أفراد من أسرته، قائلا “معليش”… كنت في اليوم نفسه في صدد تناول هذه اللحظة في حديث إلى جمهور عن غزة، فقلت مستعيرة قوله: لا تخجلوا من دموعكم، إنها تعبر عن الإنسانية”.
وتكمل: “تأثرت جدا بلقطات لفيديوهات عدة على مواقع التواصل، لفلسطينيين، يحاولون العيش، ونفوسهم تشع بالحياة بالرغم من قسوة الحال”.
فلسطينية في مستشفى الأقصى بدير البلح.
أما هال فتعبّر عن ضيق ثوب الترجمة لنقل مشاعر كاتب يعيش الحرب. تقول: “إن ترجمة شهادات الحرب والعنف صعبة للغاية، وتتجاوز صعوبتها صعوبة ترجمة الأدب، غالبا ما أشعر أن أدواتي غير مجدية في ترجمة هذه الشهادات. على سبيل المثل، عند الترجمة من العربية إلى الإنكليزية، يحاول المرء عادة تجنب تكرار الكلمات لأن هذا لا يعتبر أسلوبا جيدا في اللغة الإنكليزية. ولكن إذا كان الكاتب يعيش حالة من الخوف الدائم، ويكرر كلمة الخوف 10 مرات في كل صفحة، فإن تجنب التكرار يصبح أمرا مستحيلا. تظهر تحديات صغيرة من هذا النوع كل بضع جمل، بحيث يصبح عمل الترجمة شائكا ومربكا”.
تضيف: “أشعر بالارتباك أيضا، عندما أقوم بترجمة شهادات من غزة، لأنها تبدو لي مهمة غريبة ومستحيلة أن أحول تجربة عنف غير مفهومة إلى نص يمكن أن يفهمه القراء البعيدون آلاف الأميال ويعيشون حياة مريحة”.
صوت بعيد
لطالما اعتنت الترجمة في ظروف كهذه، بفضح اليد المدبرة للعنف، ونصرة الضحايا وتحفيز العالم على التحرك، لمنع موت الإنسان في أماكن الحروب.
ترى تزينوفا أن جهدها غير كافٍ، وتحمّل نفسها أيضا مسؤولية ما يحدث في حق الأبرياء بدليل أن الحرب مستمرة، بل تزداد بشاعة. تقول: “كتب لي أصدقاء من غزة قائلين (أنتم صوتنا). إنه تقييم عال جدا لا يسعني معه إلا بذل قصارى الجهود لأكون في مستوى آمالهم، وهم يقولون لي إن ترجماتي تملأ فراغا، لكن الدور الجوهري هو صوت غزة، الذي يتحدث بلغة الإنسان ويعبر عن الآلام والآمال ذاتها التي يبديها الناس في كل مكان”.
أدى التباين الغريب بين حياة الغربي وحياة المدنيين في فلسطين وأماكن الحروب والصراع إلى منح قضية فلسطين المزيد من الاهتمام لدى المترجمين
تعاهد تزينوفا نفسها على عدم اعتياد مشهد الدم، والتشبع من تجارب الموت اليومية التي يصنعها الاحتلال الإسرائيلي، لجعل الأمر عاديا، وتزيد جهدها من أجل تعرية دولة تعتبر نفسها فوق القانون. وتؤكد أن “على البشرية إدراك حقيقة أن العدالة غير قابلة للكيل بأكثر من مكيال، وإلا لا تعود عدالة”.
شهور طويلة مرت على الحرب ولا أفق واضحا في أنها ستتوقف قريبا، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فالجاني لا يزال يحظى بالدعم العالمي إعلاما وسياسة، هكذا يخبرنا المترجمون. حيث ترى تزينوفا أن كثيرين من مثقفي العالم الغربي يدعمون إسرائيل، بالرغم من العنف المفرط الذي تمارسه ضد الأبرياء، وتردد في كل لحظة بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط… أرفض قطعا الانتماء إلى مثقفين من هذا القبيل”.
رجل وسط أنقاض مبنى دُمر بضربة إسرائيلية في بيت لاهيا
فيما يرى إلنسون أن صوت الفلسطيني بعيد عن أذن الأميركي، لأسباب مختلفة، جسدتها الآلة الإعلامية والترويج السياسي المضلل. يقول: “منذ مدة طويلة فكّرت في ما يمكنني فعله في خصوص الشعب الفلسطيني الذي لا صوت له في الثقافة الأميركية الاجتماعية والسياسية السائدة. كتبت رسائل إلى ممثليّ السياسيين ومشيت في مسيرات ووقّعت التماسات تساند الفلسطينيين. هذه الأشياء مهمة ولكنها تبدو عامة، غير ذاتية، أشعر دائما أني أريد أن أقوم بشيء على مستوى حميمي وعاطفي. الأدب – كتابته وقراءته – هو في الأساس بناء علاقة حميمية بين الكاتب والقارئ. أرى أن من المشاكل الكبيرة في خصوص الفلسطينيين، هنا في أميركا، أنّ أصوات الفلسطينيين لا تُسمَع مهما علت ومهما بلغت الخطورة على حياتهم”.
تعود تزينوفا لتعلّق: “لقد حفرت الحرب حدودا فاصلة وأفقدتنا أصدقاء فوجئنا بدعمهم الخالي من أي تبرير لممارسات الإبادة الجماعية وقتل الأطفال، وإهانة الناس، بأساليب تثبت فقدان صاحب هذه المواقف لأي صفات بشرية، فقد أجمعنا على أنه مكسب لنا أن نعرف حقيقة هؤلاء ونتخلص من صداقتهم دون ندم”.