مسلم عباس
لا تخلو خطابات رؤساء وزراء العراق تخلو من مصطلحات تتعلق بالحديث عن “التركة الثقيلة” التي خلفتها الحكومات السابقة، وما تسبب ذلك من ضغط على الموازنة العامة وتبذير الأموال العراقية بالفساد تارة وبسوء الإدارة تارة أخرى، فضلاً عن حديثهم المتواصل بشأن التدخل الخارجي باعتباره التركة الأثقل على البلاد، وكل ذلك يأتي في خطاب تبريري للفشل في القيام بالواجبات المناطة بالحكومة وعناصرها الذين يتم اختيارهم على أساس فئوي وحسب المصالح الخاصة للحزب أو زعيم الحزب.
وأي حكومة تعتمد هذه الخطاب فهي تبين للناس إنها غير مهيئة للانتقال بالبلاد من حالة الفشل وعدم الاستقرار إلى حالة جديدة توفر سبل العيش الكريم للمواطنين وتدفع عجلة الاقتصاد الى الامام، فكيف يمكن الاعتماد على رئيس وزراء يعترف بلسانه وخطاباته أن الواقع معقد وأن خيوطه صعبة الفرز عن بعضها؟ كيف يمكن الاعتماد على وزراء لا يعرفون سوى التنكيل بالماضي ووصفه بعبارات سيئة، وخلال فترة حكمهم التي تستمر بالعادة لمدة اربع سنوات يتحولون إلى ماضٍ أيضاً، يأتي بعدهم وزير جديد يردد نفس الكلام ويتحول هو أيضا الى ماضٍ فاشل يردده من يخلفه.
هكذا تدور عجلة الفشل وغياب آفاق التقدم، لأن من يقف على رأس السلطة لا يجيد فن إدارة الدولة، يتعامل مع السلطة من منطق المعارضة وهذا واقع فعلا، وتكاد تكون هذه الصفة ملازمة لجميع الوزراء والمسؤولين في الدولة العراقية من رئيس الوزراء والوزراء وأغلب الموظفين الكبار في الدولة، فـ”التركة الثقيلة” كما يطلق عليها دائماً تحولت الى ممارسة، أي ممارسة سياسية قائمة على إلقاء اللوم على الماضي باعتباره السبب، وإلقاء اللوم على الخارج باعتباره السبب أيضا.
الماضي لا يمكن تغييره إلا من خلال قرارات آنية تقلب الممارسات الخاطئة رأساً على عقب، وتقدم نموذجاً جديداً في الحكم قائمة على مركزية المواطن في الدولة، فخدمته وخلافها هي معيار النجاح والفشل، وتقديم المشاريع الجديدة القائمة على تفعيل القطاعات الحيوية في البلد تعتبر من الإنجازات، على عكس ما يجري الآن من مخرجات وهمية للوزارات، والكثير منها لا تتعدى أن تكون إقطاعية للحزب المتنفذ الذي يسيطر عليها، ما جعل الوزارات لا ترتبط مع بعضها وتعمل بشكل منفصل عن بعضها البعض.
أليست هذه هي “التركة الثقيلة”، فلماذا نلوم من يتحدث عنها؟ ولماذا نريد من الحكومة تغيير الواقع المتراكم؟
بالفعل هذا هو الواقع العراقي، ويعرفه غير المتعلم كما يعرفه الخبير، فبمجرد نزولك للشارع تعرف الكثير من المشكلات التي تواجه الدولة العراقية وغياب أسس دولة المواطنة، وانتشار المحسوبيات على حساب القانون، وهناك نوع من الطبقية في التعامل مع الشعب ولو بشكل غير واضح، فالموظف مفضل على أي مواطن آخر، بالقروض وتوزيع قطع الأراضي والحصول على امتيازات الدولة والاجازات المدفوعة حتى لو وصل الامر الى عدة اشهر، نفس الموظفين هناك تمييز بينهم، ليس على أساس الكفاءة والخبرة والعمل بل لأسباب تتعلق بالعلاقات الشخصية والحزبية، ولك ان تتخيل دولة تدار بهذا النوع من الموظفين، هذا على سبيل المثال لا الحصر، إذ يمكن للقارئ أن يحصي مئات المشكلات التي تعترضه يومياً.
هذا الواقع الذي نقدمه في كل مرة للحكومة في كتاباتنا وتقاريرنا الصحفية والبحوث التي تنشرها مراكز الدراسات، أما الحكومة فتعيد توصيف الواقع البائس، تقول لنا أن هناك مشكلات، وأن هناك “تركة ثقيلة”، وأن الحكومات السابقة لم تؤدي عملها بشكل جيد، وكأن رئيس الحكومة هو مؤرخ أو كاتب صحافي يروي لنا مراحل الفشل في البلاد.
فحتى الصحافي والمؤرخ لم يعد له ذلك الحافز للكتابة عن حالة الفشل المتواصل لأن الدولة تمر بحالة سكون وصعوبة شديدة في التحرك نحو الأمام، ما يجعل الكتابة عن الواقع تكرار لذات الموضوع والتكرار في الكتابة يؤدي إلى الملل، ومن الغريب أن الكاتب يشعر بهذه الرتابة، ويبحث عن الجديد يفتش عنه في كل زوايا الواقع، رغم بساطة أدواته التي لا يمكن مقارنتها بإمكانات الدولة وحكوماتها المتعاقبة التي لم تقدم لنا سوى وصفة مكررة للواقع اسمها “التركة الثقيلة” الموجودة في كل الخطابات الحكومية.