في يوم قائظ من شهر أغسطس عام 1973، اُحتجز أربعة موظفين في بنك “سفيرجس كريديت بانكن” بالعاصمة السويدية، وخلال الستة أيام التي قضوها في خزائن البنك نشأت رابطة غير اعتيادية بين الرهائن وخاطفيهم، بلغت أوجها حين ذكرت إحدى الرهائن في محادثة هاتفية مع رئيس الوزراء السويدي آنذاك “أولوف بالم” أنها تثق تمامًا بخاطفها لكنها تخشى فقط أن تموت خلال هجوم للشرطة على المبنى.
التعاطف مع الجلاد، التوحد مع المختطف، عدم الرغبة في الانفصال عن المسيء.. كل هذه توصيفات متعددة لظاهرة نفسية شهيرة رصدها علماء النفس على مدار سنوات وبلغت أوجها حين جرت حادثة احتجاز الرهائن في السويد، مما دفع بعلماء الطب النفسي لأن يطلقوا عليها اسم “متلازمة ستوكهولهم”.
وتوالت الأمثلة بعد ذلك؛ إذ بعد عشرة أسابيع على اختطاف “باتريشيا هيرست” حفيدة رجل الأعمال والناشر ويليام “راندولف هيرست” عام 1974 على يد مجموعة يسارية أمريكية تدعى جيش التحرير التكافلي، ساعدت باتريشيا مختطفيها في السطو على بنك في كاليفورنيا.
كما رصد العلماء الظاهرة عام 1985 خلال عملية اختطاف الطائرة الأمريكية تي دبليو ايه رقم 847؛ إذ على الرغم من أن الركاب ظلوا مختطفين لمدة أسبوعين، ففور إطلاق سراحهم أبدى البعض منهم تعاطفًا علنيًا مع خاطفيهم، كذلك كان الأمر مع رهائن احتجزوا في السفارة اليابانية في بيرو في حادثة شهيرة وقعت بين عامي 1996و1997.
يفسر العلماء الظاهرة بأن الرابطة تنشأ في البداية عندما يهدد الخاطف حياة المخطوف عن عمد، ثم يختار عدم قتله، مما يؤدي إلى تحول إحساس الرهينة بالارتياح الناجم عن زوال الشعور بالخطر إلى مشاعر امتنان تجاه الخاطف لتراجعه عن قتله.
وكما أثبتت حادثة السطو في بنك ستوكهولهم، فإن الأمر يستغرق بضعة أيام حتى تترسخ تلك الصلة، لتتفوق بعد ذلك رغبة الضحية في البقاء على قيد الحياة إلى حد كبير على رغبته في كراهية الشخص الذي تسبب في هذا الوضع.
غريزة البقاء الأقوى
يرى العلماء أن غريزة البقاء هي جوهر متلازمة ستوكهولم؛ إذ يعيش الضحايا في حالة من التبعية القسرية ويفسرون أي فعل طيب سواء نادرًا أو صغيرًا في خضم الظروف الرهيبة التي يمرون بها على أنها معاملة جيدة، وغالبًا ما يصبحون في حالة من التيقظ الزائد حيال مطالب واحتياجات الخاطفين، مما ينشئ روابط نفسية بين سعادة الخاطفين وسعادتهم الشخصية.
ولا تتميز المتلازمة بوجود علاقة إيجابية فحسب بين الرهينة والخاطف، ولكن أيضًا بوجود موقف سلبي نيابة عن الخاطف تجاه السلطات التي تهدد العلاقة بين الطرفين. ويكون الموقف السلبي قويًا بوجه خاص عندما لا يستغل الخاطف الرهينة إلا كوسيلة ضغط ضد طرف ثالث، كما كان الحال في كثير من عمليات الاختطاف السياسي للرهائن.
يرى البعض أن هذه الظاهرة تتجاوز أحيانًا عالم الجريمة إلى عالم المال، حين تنشأ صلة غير اعتيادية بين المستثمرين والأسهم التي يقومون بشرائها وعلى مستويات مختلفة، لكن باختلاف الأسباب والدوافع.
من هم المروجون
ومن بين العوامل التي تساعد على نشأة هذه الظاهرة من يسمون بالمروجين للشركات، وهم من يتحدثون عن رؤيتهم وتقييماتهم للشركات، عادة الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتي لا تحظى باهتمام المحللين والخبراء التقليديين.
أولئك المروجين يستغلون عادة حالة انتعاش السوق لخلق ارتباط بين المستثمر وسهم الشركة التي يروجون لها مما يؤدي إلى تحول المستثمر بمرور الوقت إلى أسير للشركة يغذي نفسه تلقائيًا بكل ما يصدر عن إدارتها من تصريحات ويدافع عنها بشكل عاطفي.
المروجون عادة ما يلجأون إلى أنماط مختلفة لخلق علاقة بين المستثمر والشركة منها على سبيل المثال تشجيع المشاركة في مقابلات بين إدارات الشركات والمستثمرين بشكل متكرر.
وخلالها يسعون لإطْلاع المستثمرين بانتظام على التطورات التي تشهدها الشركة والاستماع إلى آرائهم فيما يخص تحسين معدلات العوائد، مما يؤدي إلى اعتقاد المستثمرين بأنهم باتوا من المطلعين داخليًا على سير أعمال الشركة وتطوراتها مما يمنحهم ميزة نسبية عن غيرهم من المستثمرين في السوق.
ومن هنا يبدأ المستثمر ينظر إلى الشركة وسهمها من وجهة نظر عاطفية بحتة فلا يستخدم عقله في تقييم الشركة بناء على العوامل الأساسية الواقعية.
لا خسارة ولا مكسب
تتبدى مظاهر المتلازمة بشكل أوضح في وقت الخسارة؛ إذ بعد فترة من تراجع السوق أو استقراره دون تحقيق مكاسب كبيرة، يبدأ المستثمر في الشعور بالسعادة لمجرد تحقيق مكسب محدود أو حتى لا مكسب على الإطلاق.
تتعرف بنوك الاستثمار على تلك الظاهرة حين تجري مسحًا بين المستثمرين بشأن تعريفهم لتحقيق مكاسب، وحينها يقول المستثمرون الواقعون في أسر المتلازمة إنهم يعتبرون أنه حتى تحقيق مستوى التعادل “Break Even“، أي لا ربح ولا خسارة، لرأسماله الاستثماري، يعد مكسبًا في حد ذاته، بل إن بعض العملاء يبدون شعورًا بالرضا فقط لعدم تكبدهم خسائر.
يرى الخبراء أيضًا أن من أسباب الوقوع ضحية للمتلازمة هي المشاعر التي تتولد بعد عمليات الشراء أو ما يطلق عليه “ندم المشتري” إذ يبدأ المشتري يطرح على نفسه أسئلة بعد أن يشتري أسهمًا أو أدوات مالية، منها هل قمت بالاستثمار الصحيح أم كان يجب ان أنتظر نزول سعر السهم عن ذلك، هل توقيت الشراء سليم أم لا؟، ثم يأتي السؤال الأسوأ على الإطلاق، هل أهدرت مالي حقًا؟
إحدى العمليات العقلية الأخرى الناشئة بعد الشراء والتي تمثل أحد الدوافع للوقوع ضحية لمتلازمة ستوكهولم هي تبرير الشراء الفوري، أو ما يطلق عليه “عقلنة ما بعد الشراء”، حيث يركز هنا المستثمر على عناصر قوة السهم الذي اختاره، ويتغاضى عن عيوبه كما قد يركز أيضًا بشكل مبالغ فيه على النواقص في الأسهم البديلة أو تلك التي لم يشترها.
يراود هذا الشعور المستثمرين بشدة حين يجدون بعد شراء سهم ببضعة أسابيع مثلًا أن سعره انخفض لتبرز داخلهم تساؤلات من بينها هل كان من الأفضل الانتظار لبعض الوقت لاقتناص السهم بسعر أقل، ليبدأ بعدها عقلك في الالتفاف عليك محاولًا إقناعك أنك كنت بحاجة للقيام بالاستثمار في ذلك الوقت، حتى لو كان بتكلفة أعلى.
بالممارسة، يمكن للمستثمر أن يقنع نفسه بأن أي قرار استثمار اتخذه كان صحيحًا، بغض النظر عن نقاط الضعف فيها، إذ يقع المستثمر رهينة للأسهم التي اشتراها وفي نهاية المطاف يقنع نفسه أنه يفضل هذا السهم أو ذاك أو تلك الشركة عن غيرها.
لذا فإن شعور المشتري بالندم ومحاولته لعقلنة قراره الشرائي ربما يشكلان خطرًا على المستثمرين؛ فالشعور بالندم وتأنيب نفسك بعد الشراء لن يغير من حقيقة اتخاذك القرار بالشراء، بل وقد يؤدي إلى قرار متسرع بإعادة البيع دون روية.
حكمك أيضًا على نفسك بالخطأ يمكن أن يضرك فقد يؤدي رفضك قبول حدوث خطأ ما إلى منعك من تعلم درس قيم من عملية الشراء.
قد يقف هذا أيضًا حائلًا أمامك لوقف الخسارة، فبيع الأسهم الخاسرة إقرار بالخطأ لكن إذا وقعت ضحية لمحاولة تبرير سبب كون شراؤك لهذه الأسهم فكرة جيدة حقًا فأنت تخالف أهم قاعدة في عالم الاستثمار وهي “لا تواصل خسارة المال”.
في الأسواق، يرى المحللون أيضًا أن متلازمة ستوكهولهم تتداخل مع ظواهر أخرى تدعمها منها على سبيل المثال الملكية التي تؤدي إلى الارتباط العاطفي؛ فنحن نميل إلى منح قيمة أكبر للأشياء التي تخصنا سواء كانت منزلًا أو سيارة أو محلًا، هذا يجعل من الخسارة في الاستثمار تحديًا عاطفيًا.
كيف تتفادى الأسر؟
لكن ثمة وسائل لتجنب الوقوع في أسر متلازمة ستوكهولهم في سوق المال، منها الاعتراف بالخطأ، فيجب عليك أن تتقبل الخسارة وتتأكد من تلقيك درسًا من النتيجة، حاول أن تحلل بالضبط الموقف الذي أدى إلى خسارتك المال، بدلًا من أن تحاول إقناع نفسك بأنك كنت على حق طوال الوقت وأن السوق كانت خاطئة. فالسوق ليست مخطئة أبدًا، والمستثمر الذي يخسر المال بناءً على اعتقاده بأنه يعرف أكثر من السوق على خطأ.
تجنب الاندفاع صوب الشراء والبيع، يساعد البحث الجيد عن الأسهم في الحد من مشاعر الندم لدى المشتري، حيث ستتمكن لاحقًا من أن تشرح لنفسك سبب اتخاذك قرار الشراء بشكل أفضل، كما ستشعر بحاجتك على نحو أقل إلى تبرير عملية الشراء.
كن منضبطًا في عملياتك؛ إذ قد يؤدي الاعتراف بقرار الشراء السيئ في الوقت المناسب إلى منع المركز السلبي من التحول إلى خسارة فادحة، إذا وصلت إلى مستوى وقف الخسارة، قم بالبيع فحسب.