مرت قبل أيام ذكرى نهاية الحرب العراقية-الإيرانية في 8-8-1988، والتي استمرت ثماني سنوات وتم تصنيفها بأنها أطول حرب في القرن العشرين. وكالعادة، دارت سجالات العراقيين بين من يستعيد ذكراها باعتبارها انتصار العراق على إيران، ومن يعتبرها من قماشة الحروب العبثية التي بدأت وانتهت لإرضاء الحكام في كلا البلدين.
استذكاري لحرب العراق مع إيران، يأتي في سياق ذاكرتي التاريخية المليئة بالخيبات وسوء تقدير النهايات. إذ أتذكر جيدا كيف كانت حكايات مجالس الكبار تترقب نهاية تلك الحرب، وكيف كانت آمالهم ورغباتهم في أن يطيل الله أعمارهم كي يشهدوا نهايتها.
لم يدر في مخيلة من يترقب نهاية حرب الثماني سنوات أن نشوة الحروب ستبقى تعبث في رأس صدام حسين، ليعود ويرتكب حماقة غزو الكويت، ويدخلنا في دوامة حرب أخرى مع دول كبرى تتحالف ضد العراق وشعبه وليس نظامه الحاكم فقط. لتبدأ بداية جديدة من الأمنيات والترقب ونعود لنتأمل في سؤال: متى تنتهي مأساتنا مع الحروب والحصار الاقتصادي؟
ونحن على بعد شهرين من مرور عام كامل لطوفان الأقصى والحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة ورفح، بدأنا نتساءل متى ستنتهي هذه الحرب؟ وبدلا من مناقشة الإجابات على هذا التساؤل، أصبحنا نناقش فرضيات توسع دائرة الحرب التي يبدو أن جميع مؤشراتها تتجه نحو التصعيد وليس التهدئة.
إيران تهدد إسرائيل بأنها سوف ترد على انتهاك سيادتها وخرق أمنها باغتيال إسماعيل هنية في طهران. و”حزب الله” يتوعد بالرد على اغتيال فؤاد شكر القيادي في “الحزب” الذي اغتالته إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت. حتى ميناء الحديدة في اليمن بدأت مشاهد النيران تتصاعد منه بعد القصف الإسرائيلي الذي جاء ردا على طائرة مسيرة أطلقها الحوثيون لتخترق تل أبيب. أما العراق فهو ليس بعيدا عن التصعيد والمواجهة، إذ عادت مرة أخرى عمليات استهداف قاعدة عين الأسد التي تتمركز فيها القوات الأميركية لنعود لبيانات التهديد بالرد من قبل الأميركيين، وبيانات الوعيد من قبل الفصائل المسلحة، ويقابلهما وعود الحكومة العراقية بمحاسبة المتورطين.
كل هذه التوترات تؤشر إلى احتمال أن تبقى حروب المنطقة مشتعلة، ويبدو أن أطرافا كثيرة تستثمر في إدامة الحروب. حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصرح بأنها تواجه “محورا إيرانيا متكامل الأركان”، ويبدو أنها تريد فتح المواجهة مع أطراف هذا المحور، وباتت استراتيجيتها في الحرب فتح أكثر من جبهة، خصوصا بعد عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران. وكأن إسرائيل تريد أن تقول لإيران: “انضموا للحرب، حتى تتحول إلى حرب واسعة في منطقة الشرق الأوسط”، وهذا ما أعلنه نتنياهو بصراحة في حديثه لمجلة “تايم” يوم 8 أغسطس/آب 2024. إذ قال: “اتساع رقعة الحرب في غزة لتتحول إلى صراع إقليمي مخاطرة أدركها، لكنني مستعد لخوضها”.
يتفق الإيرانيون والإسرائيليون على أن المعركة الآن تدور حول استعادة معادلة الردع، وهذا ما أعلنه نتنياهو بصراحة، بقوله: “إن الهدف الأكبر والأهم هو استعادة مبدأ الردع الإسرائيلي”. وكذلك يفكر الإيرانيون برد عسكري يكون هدفه ردع إسرائيل عن مهاجمتها مباشرة بعد أن كان الرد الإيراني في عملية “الوعد الصادق” للرد على الاستهداف الإسرائيلي لقنصلية إيران في دمشق ومقتل أحد القيادات العليا في “فيلق القدس” محمد رضا زاهدي، قد فشل في ردع إسرائيل من استهداف إيران مباشرة، كما حدث في عملية اغتيال إسماعيل هنية.
حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصرح بأنها تواجه “محورا إيرانيا متكامل الأركان”، ويبدو أنها تريد فتح المواجهة مع أطراف هذا المحور
“طوفان الأقصى” وحرب إسرائيل الوحشية ضد غزة، غيرتا إدراك القوى الفاعلة إقليميا لمفهوم أمنها القومي، إذ فقدت إسرائيل أسطورة “القبة الحديدية” التي لا يمكن اختراقها، ومخابراتها قادرة على متابعة كل شاردة وواردة، حتى القوة العسكرية التي تملكها يمكن لها أن تحقق النصر بالدمار والخراب والقتل، ولكنها لا يمكن أن تردع أي محاولة لاستهداف عمقها الأمني. أما إيران فإن استراتيجية أمنها القومي التي ترتكز على أن تكون لها أذرع مسلحة في أكثر من بلد في المنطقة، أصبحت فاعليتها محدودة التأثير، وبدلا من أن تكون مصدرا لتعدد ساحات نفوذها، باتت مناطق استهداف مكشوفة أمام الإسرائيليين.
رويترز
جنود أميركيون وعربات عسكرية في قاعدة عين الأسد في منطقة الأنبار العراقية في 13 يناير 2021
المتشددون في المعسكرين يريدونها حربا شاملة، وربما لا يضرهم أن تبقى حربا مباشرة ومفتوحة. وصانع القرار الإيراني يدرك جيدا أن ما يسعى إليه نتنياهو هو جر إيران إلى حرب مباشرة. ومن ثم، ربما تكون فرصة لتدخل عسكري أميركي. لذلك لا يصغي القادة الإيرانيون إلى الأصوات التي تدعو إلى ضرب القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة وعدم الاكتفاء بالرد على إسرائيل. في المقابل لا يوجد رادع لدى المتطرفين الإسرائيليين الذين يريدونها حربا مع جميع “أعداء إسرائيل”.
كيف يمكن أن تنتهي هذه الحرب، وقد حولتها إسرائيل إلى حرب مفتوحة ضد لبنان وسوريا وفلسطين وإيران؟ فالهدف الرئيس منها، ليس كما يعلن الإسرائيليون بأنه “القضاء على حماس في غزة”. وإنما عقاب جماعي لكل سكان غزة وخصوصا المدنيين من الأطفال والشيوخ والنساء. لذلك لم يعد مستغربا أن تكون حربا لا نهاية لها، ما دامت الحدود لاستخدام القوة العسكرية غير موجودة. وفوق كل هذا يدعو وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى “تجويع سكان غزة”.
الحرب مع إسرائيل ليس لها نهاية، لأن مغذياتها مستمرة بدعم بقائها، وأهم مغذياتها العقيدة الدينية. وإسرائيل ومن يقف ضدها كلاهما يوظف الخطاب الديني في التحريض والمواجهة. ولم يعد مستغربا وإسرائيل وأعداؤها، من غير الفلسطينيين، يستفيدان من خطاب التطرف بعنوان ديني. وأصبح شعار “الحرب ضد إسرائيل” يعطي شرعية لسلاح الكيانات الموازية للدولة. هذه الكيانات أصبحت فاعلا سياسيا في بلدان الشرق الأوسط الهشة.
الحرب ضد غزة أثبتت هشاشة مساعي السلام وعجزا واضحا للدول الكبرى والمنظمات الدولية في الحد من مأساة هذه الحرب. وربما ستبقى شهية زعماء الحروب مفتوحة ما دام مبدأ الردع بين الأطراف المتصارعة بدأ يفقد وظيفته في منع الحرب أو وضع حدود لها. وحتى شروط نهاية الحرب باتت الدبلوماسية بعيدة عنها. فالإسرائيليون يريدون القضاء التام على “حماس” ويريدون غزة منطقة منزوعة السلاح. وهذه الاشتراطات ليست لحل الأزمة، وإنما هدفها استمرار الحرب. أما الحلول السابقة لإنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كحل الدولتين، فيبدو أنها أصبحت للتاريخ ولا يمكن لها أن تحل المشكلة مستقبلا.
الحرب مع إسرائيل ليس لها نهاية، لأن مغذياتها مستمرة بدعم بقائها، وأهم مغذياتها العقيدة الدينية
قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان التسابق في منطقة الشرق الأوسط بين المشاريع الاستراتيجية التي تربط الشرق بالغرب. وكان كل من العراق والسعودية يطرحان مشاريع تنموية هدفها أن تكون المنطقة محطة مرور لحركة التجارة العالمية، وبذلك يتحقق أمن منطقة الشرق الأوسط من خلال الشراكة الاقتصادية مع الدول الكبرى. لكن بعد 7 أكتوبر أصبحنا مشغولين بالتفكير في حدود حرب إسرائيل ضد غزة، وهل تتوسع وتشمل دولا أخرى، أم تبقى في حدود الأراضي الفلسطينية؟
أصوات العقلاء لا صدى لها في الدعوة إلى درء خطر اتساع الحرب، لكن أصوات المتطرفين هي الأعلى. وأفق نهاية حروب الشرق الأوسط، لا يبدو أنه قريب في المدى المنظور. وكأنما الأقدار قد فرضت نفسها على هذه المنطقة وشعوبها بأن لا تعرف السلاح، وأن يتصارع عليها المتطرفون وأصحاب الشعارات والعنتريات الفارغة.
ختاما، يبدو أنه حتى برامج الذكاء الاصطناعي غير قادرة على التفكير في نهاية الحروب بالشرق الأوسط، إذ عندما سألت برنامج الذكاء الاصطناعي “ChatGPT”: متى ستنتهى حروب الشرق الأوسط؟ كانت الإجابة: “تحديد موعد نهاية حروب الشرق الأوسط أمر معقد، نظرا لتداخل عوامل متعددة تشمل السياسة، الدين، الاقتصاد، والعرق. النزاعات في المنطقة تكون نتيجة لسنوات من التوترات التاريخية والصراعات الجغرافية، ولا يمكن التنبؤ بدقة بموعد انتهائها”.
المصدر : https://www.majalla.com/node/321863/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%AA%D9%89-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%87%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7%D8%9F