ابراهيم العبادي
تصاعدت النداءات والمناشدات التي تدعو المرجع الديني الاعلى الى التدخل في الازمة السياسية الراهنة، بعضهم ذهب في التساؤل بعيدا عن ما أسماه سكوت المرجع واحجامه عن ابداء رأيه في ما يحصل من تجاذبات سياسية حادة تهدد استقرار الوضع العراقي الهش وتنذر بمخاطر جسيمة على العراق مجتمعا ودولة، فالتأزم والانقسام الحاد بين القوى السياسية الشيعية، ووصول المفاوضات بين الطرفين (الاطار التنسيقي والكتلة الصدرية) الى طريق مسدود، وانتقال الانقسام الشيعي الى انقسام وطني حاد، والدفع المتوالي بأتجاه الخصومة والعنف.
كل ذلك يستدعي تدخلا عاجلا لوقف الانحدار نحو الهاوية، وقد اعتاد العراقيون في مثل هذه المنعطفات الخطيرة، على تدخل المرجع الاعلى، ليعيد ترسيم الامور بهدوء نحو حلول مرضية ونهايات مقبولة، تسمح بانفراجات معقولة للأزمات، ولا اقول ان حكمة المرجع الاعلى كانت موضع ترحيب دائما من بعض الزعامات والنخب.
لكنها بشكل عام كانت تمثل خشبة الخلاص الاخيرة التي تسمح بالتقاط الانفاس وتمنع انحدار الامور الى نقطة اللاعودة وهو ماكان موضع ترحيب الجمهور العام واكثر العقلاء والموضوعيين، فيما كان اصحاب المصالح والاهواء الطائفية والايديولوجيات الثورية يجدون في حضور كلمة المرجع محددا قاطعا لمشاريعهم، وهدما لاستثماراتهم في الازمات، فتراهم يلوذون بالتشهير والنقد الموارب لان رأي المرجع الاعلى لم يكن موافقا لطموحاتهم.
الان حيث تشتد الازمة وتعصف ريح سوداء في سماء العراق، ويتخندق طرفا القضية خلف شعاراتهم وتصوراتهم الثأرية من الاخر، حيث يسود الشك وتتقاطع الخطوات وتتجه الامور الى الصدام المسلح وتكسير العظام، جأر الخائفون من الحرب الشيعية -الشيعية، وتعالت اصواتهم بضرورة تدخل حكيم النجف خوف انفلات الامور وبلوغ الصدام السياسي مرحلة الاحتكام الى السلاح، وبدأ كثيرون يذكّرون المرجع بمسؤولياته الشرعية ويزايدون عليه في تفعيل مقام (الولاية الشرعية) وينسون انهم كانوا بالامس القريب يخالفون نصائح المرجع وعظاته الاسبوعية التي كانت تصل الى الجمهور عبر خطيب جمعة كربلاء.
لقد نصح بعدم تدخل المتطوعين للدفاع عن الوطن في السياسة والانتخابات، ولم يسمعه احد، ونصح بسيطرة الدولة على السلاح المتزايد المنفلت، فلم يطعه احد، ونصح بعدم الانصياع للمتدخلين من خارج الحدود والمحافظة على القرار السيادي العراقي فلم يكترث له كثيرون، ونادى بالتداول السلمي للسلطة والاحتكام للجمهور، فلم يصبح ذلك ملاك التفكير عند القوى المتحمسة التي جعلت من نفسها وصية على قرار الامة، واكثر من ذلك انه رسم خريطة طريق لحل الازمة المستعصية بعد الاحتجاجات العنيفة في عامي 2019 و2020، فالتف عليها السياسيون وافرغوها من محتواها، الى ان دخلوا في الانتخابات باجندات متعارضة واهداف متناقضة، فحصدوا ما خططوا وما أرادوا، ولما تيقن الجميع ان اهوائهم لا تستطيع النفاد بالبلاد الى الصورة المتخيلة، واشتبكوا في رؤيتين متعارضتين، صار الحل الوحيد هو تدخل المرجع !!؟، فهم يريدون الاحتماء به متى ما عجزوا !!!
قبل ذلك كانوا يتوهمون الرشد باساليبهم وخططهم ومشاريعهم، هذه هي الحقيقة المرة التي يتجرعها العراقيون الخائفون على امنهم وحاضرهم قبل غدهم ومستقبلهم، لقد نسي الجميع ان منهج السيد السيستاني لا يتبنى مقولة التعبير عن الرأي والحكم والفتوى لابراء الذمة فقط، انما خط منهجا سيكون ارثا مستقبليا لمرجعية النجف الفقهية، وهو أثر الفتوى والحكم والرأي على المجتمع وتداعياته المستقبلية، فالمرجع يقرأ ذلك ضمن افق واسع، كان يتدخل عندما يجد شريكا يسمع، وجمهورا يتقبل، ونخبة تفهم، وكان يعلن عن موقفه بعد ان تكون الاجواء مستعدة لحكمه، دون ان يكون لهذا الموقف تداعيات سلبية على الشارع.
فيشتبك الناس العاديون في صراع مجتمعي ويختبأ السياسيون خلف اصابعهم، لقد فعلها في مناسبات كثيرة، عندما ادرك ان كلمته ستكون نافذة ومؤثرة وذات نتائج عملية، تحفظ امن الناس وتعيد الامور الى نصابها الصحيح ، لن يتدخل المرجع بحسب مشتهيات الساسة وكأنه واحدا منهم.
ولن يشاركهم مهازلهم لينتصر لهذا الموقف او ذاك، بل انه سيتدخل عندما يعلن السياسيون عجزهم وترتفع عقيرتهم بالاستسلام لهذا العجز، اما اذا كانوا في موقف المستغني عن حكمة المرجع فليتحملوا مسؤولياتهم وليظهروا امكانياتهم الفكرية والسياسية وهم الذين عموا واصموا من قبل.
.
رابط المصدر: