مسلم عباس
من منا لا يعرف مدى تكتم السلطات العراقية على المعلومات الرسمية، فهي ترى ان نشر الحقائق الى الجمهور يضر بالمصالح العليا للبلد ويؤدي الى اطلاع جهات خارجية على اسرار الدولة، وهذا التقليد السيء جزء من الترسبات السيئة للديكتاتورية التي حكمت العراق منذ سقوط الحكم الملكي وحتى عام 2003 حيث سقط نظام حزب البعث على يد قوات الاحتلال الامريكية.
لكن في السنوات الخمس الأخيرة، ومع بروز تعددية سياسية، واختلاف سياسي بين اكثر من جهة سياسية او طائفية او قومية بات من الصعب إخفاء المعلومات، ولا سيما تلك التي لا يوجد فيها تربح سياسي، فاذا ما ارادت السلطة الحاكمة إخفاء المعلومات يمكن لبعض موظفيها الذين ينتمون لحزب معارض بفضح ما تقوم به، وقد تقوم جهات مخابراتية باختراق مواقع شديدة السرية من اجل تحقيق اهداف لصالح دول أخرى، كل ذلك في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي كقوة “فاضحة” لاخطاء السلطة، وتتبع مسارات الأخطاء تلك في ادق تفاصيلها.
على سبيل المثال، خلال ازمة التظاهرات الأخيرة كانت لدينا اكثر من مؤسسة لمراقبة الأخطاء التي ارتكبتها قوات الامن، والاخطاء الحكومية عموما، ابرزها مفوضية حقوق الانسان، ووسائل الاعلام المعارضة للحكومة الحالية، و”الجيوش الالكترونية” التي تدار من قبل جهات سياسية محلية وإقليمية ودولية، وفي الحلقة الأخيرة المواطن البسيط الذي يصور الحقائق ويبثها في مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه القوى مجتمعة هي المتحكم في بورصة المعلومات العراقية، ولو ان الحكومة تملك السهم الأكبر من هذه البورصة لسطوتها على المواقع الرسمية ومنافذ دخول وخروج المعلومات الرسمية، لكن القوى الأخرى التي ذكرناها لها دور كبير في الضغط على السلطة واجبارها اما على كشف الحقيقة كاملة او كشف الجزء الأكبر منها، وان تم إخفاء الحقيقة فليس لان الحكومة هي المسيطرة فقط، بل لان هناك صفقة ما بين المعارضة والسلطة (نتحدث هنا عن عمليات الاغتيال وغيرها من القضايا التي تبقى سرية ولا يكشف امرها لسنوات).
ومع ظهور ازمة فيروس كورونا، برزت على السطح فكرة “الكذب الحكومي”، وعدم افصاح الجهات الرسمية عن الأرقام الحقيقية للاصابات بالفيروس، وانتقدت الحكومة نتيجة تعاطيها مع الوضع خاصة في بداية انتشار المرض في الدول المجاورة، وتبنت وكالة رويترز الرواية القائلة بان “الحكومة تكذب” في الاحصائيات التي تعلنها يوميا في العراق، واعدت تقريرا حول الموضوع، يبدأ بمعلومات تنقلها عن ثلاثة أطباء من المشاركين بشكل وثيق في عملية إجراء الاختبارات لرصد الإصابات بفيروس كورونا ومسؤول في وزارة الصحة العراقية ومسؤول سياسي كبير يقولون إن عدد حالات الإصابة المؤكدة بكوفيد-19 يفوق بآلاف الرقم المعلن من قبل وزارة الصحة العراقية.
وبحسب تقرير رويترز “قالت الوزارة في أحدث بيان يومي لها يوم الخميس إن العدد الإجمالي للمصابين بلغ 772 وللوفيات 54، لكن الأطباء الثلاثة الذين يعملون في فرق طبية تساعد في اختبار الحالات المشتبه بإصابتها في بغداد قالوا إن عدد الحالات المؤكدة، استنادا لنقاشات مع زملائهم الذين يتلقون نتائج التحاليل اليومية، يتراوح بين ثلاثة آلاف وتسعة آلاف لكن كل واحد منهم ذكر تقديرا مختلفا للعدد”.
لكن ومثلما شككت وكالة رويترز بالأرقام الحكومية، فان هيأة الاعلام والاتصالات العراقية ردت بشكل المضاد على تقرير رويترز ودعتها الى الالتزام بالمهنية ونقل الاخبار من مصادرها الرسمية وليس الاعتماد على مصادر مبهمة وكاذبة، مشيرة الى ان الاعداد التي اعلنت عبر رويترز عن الاصابات في العراق تنافي مااكده مكتب منظمة الصحة العالمية في العراق الذي ينتشر ممثليه في جميع المختبرات العراقية الرسمية، فيما قررت تعليق رخصة مكتب رويترز في العراق لثلاثة اشهر وتغريمها 25 مليون دينار عراقي فضلا وتقديمها اعتذاراً للشعب العراقي والحكومة.
من يصدق ومن يكذب؟
لتحديد المعلومة الصادقة من الكاذبة ومن اجل التحرر من سلطة الأرقام الرسمية “المخادعة” يجب اللجوء الى صحافة الاستقصاء، والتي تقوم على:
1. تحديد القضية المطلوب عمل تحقيق استقصائي عنها.
2. ثم تحديد اطراف هذه القضية.
3. الحصول على معلومات موثقة من جميع اطراف القضية.
4. التحقيق من تصريحات جميع المصادر عبر مقارنة المعلومات والأرقام، والبحث في التناقضات بين حديث المصادر،
5. التنويع في المصادر، بين مصادر فيديوية وصوتية، وتصريحات حية، ووثائق رسمية، ووثائق منظمات المراقبة في المجال قيد البحث.
6. عدم اللجوء الى المصادر السرية الا في نطاق محدود واسناد تلك المصادر بمصادر معلنة من اجل تأكيد مصداقيتها.
وبالرجوع الى تقرير وكالة رويترز يبدو انها لم تتبع أسلوب الاستقصاء، فقد اعتمدت على ثلاثة مصادر فقط، وهي مصادر سرية وهذا يتنافى مع العمل الاستقصائي، كما ان المصادر ذاتها كانت تتحدث بمعلومات متناقضة فالرقم المعلن للاصابات يترواح بين ثلاثة الاف وتسعة الاف، وهو فارق كبير والمصادر ذاتها لم تتفق على رقم محدد ولا نسبة متقاربة، وهذا يكشف حقيقتين:
اما ان المصادر غير مختصة وليست معنية بعملية الفحص.
او انها اطلقت الأرقام كتقدير عمومي بدون امتلاكهم معلومة حقيقية، وهنا يجب ان يتوقف التقرير ويبحث عن مصادر اكثر دراية وجدية في الإفصاح عن المعلومات او التوقف عن نشر معلومات من مصادر غير جديرة بالحديث عن موضوع حساس.
رويترز لجأت الى العمل الصحفي التقليدي عبر اخذ تصريحات عدد محدد من المصادر غير المعلنة ثم الطلب من السلطة الرسمية الادلاء بالتصريح التي سوف تمتنع عن التصريح، والقاء اللوم عليها لانها امتنعت، وانتهى كل شيء، اذ سوف ينشر التقرير على الجمهور على انه الحقيقة المطلقة التي اكتشفتها الوكالة.
هذا النوع من التقارير التي اعتمدتها وكالة رويترز تصنف ضمن التقارير التقليدية التي تنقل الواقع كما هو، بدون إعطاء حكم نهائي يخالف ما هو معلن من السلطة، ليس لان السلطة صادقة دائما، بل لان هذا النوع يعتمد على المعلومات الرسمية، ولا يمكن ان يكون بديلا لها، الا اذا اتبع صحافة الاستقصاء العميق والتدقيق في الأرقام والبيانات وتتبع حركة الإصابات ومنحنى الإصابات وأماكن الحجر الصحي، وأماكن الدفن، ومقارنة الأرقام مع الأرقام الحكومية من اجل اصدار حكم ان كانت كاذبة ام لا، وبما ان وكالة رويترز لم تعتمد سوى على ثلاثة مصادر في تقريرها، فلا يمكن تصديق روايتها المخالفة للرواية الحكومية، ولا يمكن للوكالة محاكمة السلطة، لانها لم تتبع المسار المعروف في الصحافة الاستقصائية.
رابط المصدر: