يتزايد التوتر التركي الإسرائيلي مع مرور الوقت ليأخذ أكثر من جانب، ويتركز في أكثر من ساحة جغرافية، سواء في ليبيا حيث دعم أنقرة للحكومة الشرعية، وشرق البحر المتوسط حيث الصراع على الغاز الطبيعي والممرات المائية، أو الموقف من حماس، وأخيرا دخول تركيا على خط إسرائيل في دعم أذربيجان بالسلاح.
تأخذ التوترات السياسية والعسكرية في المنطقة مناحي عديدة، لاسيما بين تركيا وإسرائيل، في ظل التقدير الإسرائيلي السائد بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى لقيادة محور سياسي في المنطقة، ويعادي إسرائيل وحليفاتها، ورغم أن حلمه حين كان شابا تمثل بأن يصبح نجما لكرة القدم، لأنه لاعب موهوب، لكن أردوغان “الرئيس” يظهر أداؤه في الميدان الإقليمي الحالي بأنه لاعب رئيسي.
تزامنت اتفاقات السلام بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان التي حددت ميزان القوى في الشرق الأوسط، مع ما تشهده السنوات الأخيرة من تغير في سياسة تركيا الخارجية، ووصول علاقاتها مع إسرائيل إلى خط رفيع وخطر.
تحالفات المنطقة
يزداد التوتر التركي الإسرائيلي مع تغير المنطقة بشكل كبير، وتحول خريطة تكتلاتها إلى صراع يتجاوز العرب وإسرائيل، ومنذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2014، وهي آخر مواجهة مع حماس، تصاعد الخطاب التركي المعادي لإسرائيل، وتغيرت أنماط عملها، وباتت منخرطة في العديد من الأماكن، بما فيها القضية الفلسطينية، فأنقرة ترتبط بعلاقات قوية مع حماس أكثر من أي وقت مضى، والتقدير الإسرائيلي في حال نشبت حرب جديدة مع الحركة، فإن تركيا ستكون في مكان مختلف تماما.
لا يدور الحديث عن حرب مباشرة بين تركيا وإسرائيل، لكن يرجح أن تنضم أنقرة لحملة معادية ضد تل أبيب، رغم أن هذا لم يحدث حتى الآن، لكننا بحاجة للحديث عن سيناريو، حيث تقف تركيا مع إيران ضد إسرائيل، حينها يخشى الإسرائيليون من مواجهة تهديد قوتين إقليميتين في الشمال والجنوب.
صحيح أن الأتراك لن يندفعوا لمواجهة مع إسرائيل، لأنهم يتفهمون قوتها الإقليمية والاقتصادية، وليس بالضرورة أن تقدم تركيا على عمل عسكري ضدها، رغم أن الأمر منوط بالمساحة التي سيخلفها التخلي الأمريكي عن المنطقة، مما زاد من تكثيف تركيا وإيران من محاولاتهما لتغيير وجه الشرق الأوسط، لملء الفراغ الناجم عن مغادرة الولايات المتحدة.
انطوت اتفاقات السلام الإسرائيلية الإماراتية البحرينية السودانية على إمكانية التعاون بين تركيا وإيران، على أساس توتر علاقاتهما المشترك للولايات المتحدة وإسرائيل، إسرائيل قتلت الإيرانيين، وأوقفت أسطولا تركياً في طريقه إلى غزة، ومع ذلك فإن أردوغان يطمح لأن يكون الأخ الأكبر في المنطقة، بدلا من مصر، مما يرسّخ من القطيعة بينهما، وفي الوقت ذاته فإن علاقات إسرائيل وتركيا حساسة بشكل خاص، لأن أردوغان يرى فيها خصما يواجه حلمه.
ترى إسرائيل في تركيا، رغم توترهما وتنافسهما، دولة كبيرة ومتقدمة، ولديها صناعة عسكرية مثيرة للإعجاب، وطموحات إقليمية، وكثير من الأتراك يطمحون لاستعادة الإمبراطورية العثمانية، وليس أردوغان فقط، وهناك أطراف في تركيا وصفت القرن الحادي والعشرين بـ “القرن التركي”، وقرر أردوغان لأسباب إسلامية وقومية أن يكون أكثر نشاطا.
العلاقة مع حماس
في محور آخر، شهدت الأسابيع والأشهر الأخيرة تطورات سياسية وإعلامية متلاحقة حول علاقة حماس وتركيا، في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث متسارعة، مما أثار غضب إسرائيل وقلقها من تمدد علاقات حماس الإقليمية من جهة، وزيادة النفوذ التركي في الساحة الفلسطينية.
في ذروة الغضب الإسرائيلي من التقارب التركي مع حماس، تعتقد تل أبيب أن الحركة وتركيا تستفيدان من علاقتهما الثنائية، حماس تزيد من تأثير موقعها إقليمياً ودولياً، وتركيا تعتبر علاقتها بالحركة زيادة بنفوذها في الساحة الفلسطينية، وحماس تحكم غزة المطلة على البحر المتوسط، الذي يشهد تمددا تركياً واضحا، وهناك تقاطع فكري أيديولوجي بين حماس وحزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا، فمرجعيتهما إسلامية، فضلا عن مكانة حماس وفلسطين في الوعي الجمعي التركي، وهذه عوامل تقرب تركيا وحماس، ولا يمكن للأولى التضحية بعلاقاتها بحماس، بل المرجح أن تتنامى العلاقة وتستمر، وهذا ما يقلق إسرائيل بصورة مباشرة.
تزعم إسرائيل أن تركيا تفسح المجال لأعضاء حماس لتمويل وتدبير أعمال مسلحة ضد إسرائيل انطلاقا من إسطنبول، وتشمل فعالياتها تجنيد خلايا مسلحة من الخارج، للعمل داخل الضفة الغربية بمساعدة حماس من غزة، والأسرى المحررين في صفقة التبادل الأخيرة عام 2011.
ينطلق التقييم الإسرائيلي في علاقة حماس وتركيا أن الأخيرة تنظر لحماس كمكون أساسي في الخارطة السياسية الفلسطينية، وقادرة على وضع فيتو على أي حل لا توافق عليه، فهي منتخبة ديمقراطيا، وأي حل يجب أن يشملها، وتعتبر تل أبيب أن علاقة حماس وتركيا استراتيجية، ومبنية على مصالح متبادلة، تركيا تقدم للحركة دعماً سياسيا ودبلوماسياً لأنها منتخبة ومؤثرة، ولتركيا أذرع إغاثية تنموية ومؤسسات خيرية بالأراضي الفلسطينية.
حماس تراقب الضغوط الإسرائيلية على تركيا لعلاقتها معها، لكنها مطمئنة أن الوضع التركي الجيوستراتيجي والإقليمي يتحسن، مما يرجح تقوية علاقتهما، وتعتقد إسرائيل أن حماس تتمسك بعلاقاتها بتركيا، التي تتخذ مواقف متقدمة على الكثير من الدول العربية، بما يقترب من خط حماس السياسي، لكنه سيبقيها تحت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لتقليص علاقتها بحماس.
وكشف الموقف التركي الحاد من الجولات التصعيدية الأخيرة في قطاع غزة عما يصفه الإسرائيليون الزواج السيئ بين أنقرة وتل أبيب، في ظل عودة علاقاتهما لذات المستوى من تبادل الاتهامات، حتى بين الزعماء، وطرد السفراء، مما يفتح الباب واسعا لتوقع المزيد من التدهور في العلاقات الثنائية، وقد عبر التدهور في العلاقات لهذا المستوى عن انحدار يتكرر بين حين وآخر، مما يطرح أسئلة عن حقيقة استمرار هذه العلاقات، وهل ستصل لمرحلة الانفجار الكامل، في ظل الكراهية التي تحيط بكل طرف تجاه الآخر.
هذا يؤكد أن العلاقات التركية الإسرائيلية تعيش مرحلة قطيعة فعلية، وأردوغان لا يرى فيها أهمية من الأساس، لأنه يعتقد بضرورة المس بإسرائيل، والإضرار بها دائما، ويريد استعادة الإمبراطورية العثمانية، ولا يعترف بإسرائيل، كدولة احتلال، ولا يقر لها بشرعيتها، بل يتصدر محوراً إسلاميا يجمع القوى الإسلامية والمعادية لإسرائيل.
تتركز الخلافات التركية الإسرائيلية حول موضوعين: القدس وغزة، أردوغان يغضب دائما، ويصدر مفردات قاسية تجاه إسرائيل في هذين الموضوعين بصورة خاصة، وحصل في الآونة الأخيرة أن الموضوعين انفجرا معا، وتصدرا الأخبار والأجندة الدولية، ولا يعلمان هل سيصل توتر علاقتهما حد القطيعة الكاملة، فمن الواضح أنهما تحتاجان بعضهما سياسيا واقتصاديا، مما قد يضطرهما للتعامل بروح المسؤولية المشتركة، وليس بطريقة قد تزيد من خطورة الموقف.
يقدر الإسرائيليون أن هناك سببين يفسران عدم قطع أردوغان لعلاقاته مع إسرائيل: الأول أيديولوجي حيث يريد الإبقاء على خط التواصل له مع مدينة القدس المحتلة، ولن يحصل ذلك إلا من خلال استمرار العلاقة مع إسرائيل، والثاني اقتصادي، لأن تركيا وإسرائيل بينهما تبادل تجاري عالي المستوى، وشركة الخطوط التركية هي الثانية بعد شركة “العال” الإسرائيلية التي لديها خطوط رحلات جوية من إسرائيل وإليها، ولذلك مهما توترت علاقات الجانبين، فليس بالضرورة أن يلجأ أحدهما، أو كلاهما، إلى سياسة كسر الأواني كلها.
يتابع الإسرائيليون ما يقوم به أردوغان بمساعدة الفلسطينيين بوسائل أخرى، مع أن الدعم التركي ازداد في الآونة الأخيرة للفلسطينيين في موضوع صراعهم مع إسرائيل على الأراضي، حيث أرسلت إليهم وثائق مصورة من الأرشيف العثماني، الذي يوثق ملكية الأراضي المقدسة، والصفقات التي تمت لبيع بعضها، في إسرائيل عموما، والقدس خصوصا، خلال السنوات الأربعمائة من الحكم العثماني، وهذه الجهود القانونية تساعد الفلسطينيين في صراعهم السياسي ضد إسرائيل، للمطالبة بملكية الأراضي، ما يضع صعوبات على اليهود في التعامل مع هذا النفوذ التركي المتزايد.
تتهم إسرائيل تركيا بتوسيع تأثيرها بين فلسطينيي 48، من خلال شبكة “الدعوة” التي تضم العشرات من المؤسسات الخيرية العاملة في مجال الصدقات والتعليم والدعم الاجتماعي، الحاصلة على تمويل تركي، مثل “المركز الثقافي التركي، اللقلق، وقت القراءة، البستان، تيكا، من يد إلى يد، اقرأ”، وتتراوح أنشطتها بين ترميم المساجد، وإقامة المدارس، ودعم الطلاب الجامعيين مالياً، ودعم البنى التحتية للمياه والكهرباء.
وزعمت الأوساط الحكومية الإسرائيلية أن تركيا تضخ مزيداً من الدعم لمناطق عربية داخل إسرائيل، مثل مدن النقب ويافا وحيفا واللد والرملة، ما يجعل إسرائيل تواجه صعوبات في التصدي للنفوذ التركي المتزايد بين الفلسطينيين في إسرائيل، بزعم أن تركيا شريكة للإخوان المسلمين، وتسعى لاستعادة الخلافة العثمانية ودورها، ولذلك قرّرت توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي.
تمارس إسرائيل تحريضاً مكشوفاً على ما تعتبره زيادة في النفوذ التركي المتزايد بين الفلسطينيين العرب داخلها، مع أن المؤسسات التركية لا تقدم مساعدات ودعماً للجمعيات والمرافق التابعة للحركة الإسلامية فقط، بل لكل الفلسطينيين العرب هناك، بينها مبادرات فردية تقوم بها تكتلات عربية وجمعيات محلية تحظى بدعم تركي، بهدف تعزيز التواصل بين الجانبين، مع تزامن زيادة عمل المؤسسات التركية بين الفلسطينيين العرب داخل إسرائيل مع إغلاق جمعيات الحركة الإسلامية عقب الإعلان الإسرائيلي أنها خارجة عن القانون منذ 2015.
زيادة النفوذ في القدس
على صعيد القدس، تعتبر إسرائيل أن المدينة تشهد حراكا ميدانيا من عدة أطراف معادية لإسرائيل، تشكل فيما بينها حلفا وثيقا، وهي: حماس وتركيا والجناح الشمالي من الحركة الإسلامية بزعامة الشيخ رائد صلاح، وهذا التحالف بين حماس وتركيا آخذ بالتعاظم في الأشهر الماضية، كما تجلى في الآونة الأخيرة بكشف جهاز الأمن العام الشاباك عددا من المجموعات المنظمة المعادية التي لها صلات مع جهات تركية.
يرصد الإسرائيليون تصريحات الأتراك أكثر من مرة بأن إسرائيل دولة إرهابية، وسماحهم لمنظمات مدنية وخيرية تابعة لتركيا، بعض منها حكومية، بإرسال عشرات ملايين الدولارات إلى البلدة القديمة في القدس ضمن جهودها لفرض وصايتها الدينية على الحرم القدسي، حتى أن أردوغان شخصيا يشجع ويدعم ما بات يسمى السياحة إلى الأقصى، حيث يأتي عشرات آلاف الأتراك لمهمة الدفاع عن المسجد الأقصى.
يحذر الإسرائيليون من استمرار التوتر مع تركيا في المرحلة القادمة، باعتباره ليس مؤقتا، ولن يختفي بعد أردوغان، بل يعكس اتجاهات بعيدة المدى في المجتمع التركي، والاحتكاكات المتكررة مع إسرائيل، لأن الدعوات لتحرير القدس والأقصى ليست متجذرة فقط لقطاعات كبيرة من الأتراك، بل هي انعكاس للابتعاد عن الغرب، والتضامن المتزايد مع الرسائل الشعبية المعادية لإسرائيل في العالم الإسلامي.
وقدَّم الأتراك تمويلاً مالياً مجزياً لاستبدال غطاء قبة الصخرة، وترميم البوابات الإسلامية بالحرم القدسي ، وجزء من الجدار الشرقي للبلدة القديمة، للتجاوب مع نداء “الأقصى في خطر”، وهناك منظمات تركية أخرى تسعى لترميم مساجد داخل إسرائيل، مثل حسن بك في يافا، والجرينة في حيفا، وتسعى للحفاظ على المسجد الأقصى والإرث العثماني في القدس، والسيطرة على الوقف الإسلامي بباب الرحمة، وفي الرملة حاول الأتراك إيجاد موطئ قدم بترميم المسجد الأبيض، وفي اللد رمّموا المسجد العمري الكبير بتكلفة 170 ألف دولار، ووفّروا رواتب لعشرات الأئمة في إسرائيل، ودعموا الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية، وموّلوا رحلات الأقصى.
يبلغ عدد الأتراك الذين يزورون القدس سنوياً قرابة 50 ألفاً، وهناك توجه تركي رسمي لضرورة زيادة أعدادهم، وأكدت شركات السياحة التركية وجود طلبات مرتفعة على الجولات المخصصة لزيارة القدس، فالأتراك يبدون اهتماماً بالمدينة المقدسة، ويرغبون بزيارتها، وارتفعت نسبة زوار القدس من الأتراك بنسبة 300%، رغم الصعوبات التي تفرضها إسرائيل على السياح الأتراك على خلفية سياسية.
ولذلك تتعمد إسرائيل المماطلة في منح تأشيرات الدخول للأتراك، أو ترفض منحها، وتفرض 11 دولاراً على كل سائح تركي بحجة التأمين، كما تُفتش هواتفهم في المطارات والمعابر الحدودية، وتُوقف بعضَهم لساعات طويلة، لكن كل هذه التعقيدات الإسرائيلية لم تُثن الأتراك عن التوجه للقدس المحتلة، وزيارة أماكنها المقدسة.
تقدر المحافل الإسرائيلية أن الموقف التركي النقدي تجاهها يهدف لاكتساب الشرعية، وكسب الأسبقية بين المسلمين، خاصة بين الجماهير العربية التي تسعى تركيا لتوظيفها، وقد نجح أردوغان بالفعل بكسب تعاطف أكبر من أي زعيم تركي سابق بين هذه الجماهير، وأصبحت تركيا بقيادته دولة ذات تطلعات ونفوذ تهدد المصالح الإسرائيلية.
حقول الغاز
تشير القراءة الإسرائيلية للسياسة التركية في المنطقة لتحولها إلى دولة كبيرة ومهمة في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، ويتماشى هذا الوضع مع تطلعات أردوغان، لتمجيد مكانة بلاده الدولية، بالسعي للهيمنة الإقليمية، والنشاط في الساحة الإسلامية العالمية؛ والاحتفاظ بوجود عسكري في العراق وسوريا وقطر والصومال، وهيمنة اليونان على بحر إيجة، لعرقلة وصول إسرائيل ومصر وقبرص للأسواق الأوروبية.
تنصح دوائر صنع القرار الإسرائيلي بتحديد أدوات النفوذ التي ستجعل من الممكن كبح جماح طموح القيادة الحالية في تركيا، أولاً وقبل كل شيء على المستوى الاقتصادي، وهو مصدر قوة أردوغان، وأصبح نقطة ضعفه، بهدف منعها من تشكيل تهديدات لمصالح إسرائيل الحيوية، وشراكاتها في النظام الإقليمي، خاصة مصر، بحيث يركز النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي بشأن تركيا على واشنطن.
إضافة لذلك، تسعى إسرائيل للعمل مع مصر واليونان والإمارات العربية المتحدة لتقوية المحور الذي يحاول احتواء تركيا، بجانب التحركات الحالية لفرنسا، التي تم حشدها لحملة سياسية، وحتى للوجود العسكري في شرق البحر المتوسط، وتوسيع الوعي بسلوك تركيا الإشكالي، بزعم أن دول البلقان عانت من العبء العثماني في الماضي، وتخويف الآخرين من تركيا: رومانيا وبلغاريا وصربيا وكوسوفو.
هاتان التوصيتان تتزامنان مع وجود قناعة إسرائيلية بأنه لا يمكن لإسرائيل أن تلتزم بعمل عسكري ضد تركيا، وشرح ذلك لشركائها في شرق المتوسط، رغم أن مؤسستها العسكرية ومجتمع المخابرات فيها تسعى للتكيف مع الواقع الذي يشكل فيه السلوك التركي مخاطر على إسرائيل ومصالحها الحيوية، عبر فحص الآثار المترتبة على تكثيف نشاطها البحري، ومتابعة التطورات في مجالها النووي، ومراقبة نشاطها في القدس، وتحييد نفوذها فيها، مع أن الأردن ومصر والسعودية ودول الخليج شركاء طبيعيون في إحباط النفوذ التركي في القدس.
كما يرسل الأتراك سفن الحفر إلى المياه الاقتصادية القبرصية، لحجب الشركات الأوروبية، ويمكن رؤية القوات البحرية التركية بالمنطقة، بجانب المزيد من السفن الدوارة، وهذا تطور مقلق لإسرائيل.
ما يزيد من قلق المنظومة الأمنية الإسرائيلية ما تعيشه تركيا من علاقات جيدة مع إيران، وشراكة تجارية، رغم أن إسرائيل سعت لتسخير تركيا لقتال إيران، لكنها لم تنجح، صحيح أن تركيا لا تريد إيران نووية، لكن هذا لا يعني أنها ستتعاون مع إسرائيل ضدها، لأنه من الناحية العملية، يختلف النهج التركي في معالجة المشكلة الإيرانية اختلافا كبيرا عن إسرائيل، فهو لا يعتبرها تهديدا وجوديا كما تراه إسرائيل.
وصلت حدة التوتر التركي الإسرائيلي إلى صدور أصوات لدى الأخيرة تتوقع اندلاع نشوب مواجهة بحرية مع أنقرة في ظل تعاون تل أبيب المتواصل مع قبرص واليونان لإقامة خط أنابيب بحري خاص بالغاز الطبيعي، مما يشكل تحديا للمشاريع التركية للتحول إلى لاعب إقليمي أساسي للغاز في البحر المتوسط، ويشير لمزيد من الاحتكاك البحري بينهما، وهو ما قد يتصاعد مع مرور الوقت.
مع أن تقدير الموقف السنوي لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية- أمان، يشمل للمرة الأولى دولا إقليمية بعينها باتت تشكل تحديا وتهديدا جديا أمام إسرائيل، وعلى رأسها تركيا، رغم عدم توقع اندلاع مواجهة مباشرة بينهما، لكن توترهما الحاصل لا يترك كثيرا من الشكوك في أن التصعيد قادم على الطريق.
ما يؤكد هذا التصنيف الجديد لتركيا أن توترها مع إسرائيل لا يشمل فقط الخلاف على المجال الفلسطيني، أو الجماعات المسلحة، بل مجال الطاقة أيضا، وشهد العام الجاري توقيع إسرائيل مع قبرص واليونان على اتفاق لإقامة خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من الشرق الأوسط إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
هذا المشروع من شأنه أن يبدأ بنقل كميات الغاز من حقول الغاز في إسرائيل وقبرص مرورا بإيطاليا، وإلى سائر أنحاء أوروبا، وتأمين الطرق اليابسة لنقل هذه الكميات، مما يؤكد أننا سنكون على أهبة تصعيد أزمة قائمة بين الدول الثلاث: إسرائيل وقبرص واليونان من جهة، وتركيا من جهة أخرى، مع أن تركيا ترى في منتدى الغاز الإقليمي خطوة إضافية لتقليص نفوذها الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، ويهدد الاستراتيجية التركية بالتحول إلى مركز للطاقة بين الشرق والغرب من روسيا إلى بلغاريا.
الوضع في ليبيا
شملت التوترات الإقليمية ذات الصلة بإسرائيل زيادة نفوذ تركيا في المنطقة، وتوقيعها لاتفاقية مع ليبيا، وتنامي مطالباتها البحرية في البحر المتوسط، وتعزيز تعاونهما للتنقيب عن الموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط، وتأكيد دعم الاتحاد الأوروبي للمشروع.
في الوقت ذاته، فإن تواجد تركيا في ليبيا أمر خطير بالنسبة لإسرائيل التي يجب عليها أن تدخل في جهد مشترك مع اليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا لمواجهة الطموح التركي، وتشرح في واشنطن مخاطر سياسات أردوغان على شواطئ البحر المتوسط، وتتابع الدوائر الإسرائيلية تدخل تركيا عسكريا في الحرب الدائرة في ليبيا لصالح حكومة طرابلس، ذات التوجهات الإسلامية، وهذه الحكومة تقاتل الجنرال خليفة حفتر، الذي يمثل الأجزاء الشرقية من ليبيا، ويتمتع بدعم مصر والإمارات العربية المتحدة وروسيا وفرنسا.
القراءة الإسرائيلية لمجريات الصراع في ليبيا تكشف أن هدف أردوغان هو مساعدة حكومة الوفاق الوطني على البقاء، والتقدم نحو منطقة سرت الغنية بالنفط على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى المدى البعيد، ترى إسرائيل أن تركيا تهتم بتعزيز هيمنة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، التي ستعزز التوجه الإسلامي للبلاد، وتسمح لتركيا، ذات الأجندة العثمانية والإسلامية، بتوظيف موارد ليبيا لأغراضها، ويضمن لها اتفاقية توزيع المياه الاقتصادية في منطقة البحر المتوسط الموقعة في نوفمبر 2019 بين أنقرة وطرابلس.
تفيد المعطيات المتوفرة في إسرائيل بأن الصراع في ليبيا قد يؤثر على مستقبل مصر، أهم دولة عربية، وتدعم قوات حفتر بسبب خوفها الكبير من قيام دولة إسلامية في الغرب في ظل حكومة الوفاق الوطني، أما في الشرق فتعاني مصر بالفعل من انتفاضة إسلامية في سيناء، وقد هدد عبد الفتاح السيسي بأن المزيد من التقدم العسكري من قبل حكومة طرابلس سيؤدي لرد عسكري مصري.
تل أبيب لديها أسباب وجيهة للقلق بشأن ما يحدث في ليبيا، وتقاعس الولايات المتحدة، مما يزيد فقط من جرأة أردوغان وكراهيته المعروفة لإسرائيل، لأن القاعدة البحرية التركية في ليبيا تشكل خطراً على الطرق البحرية في البحر المتوسط، حيث يمر 90 في المائة من التجارة الدولية لإسرائيل، وبالتالي فإن تحويل ليبيا إلى “محمية تركية” أمر خطير لدول غرب البحر المتوسط ومصر، التي يمثل استقرارها حجر الزاوية للنظام الإقليمي الحالي، ويجعل من إمكانية تحويل ليبيا قاعدة لتوسيع النفوذ الإسلامي أمرا ينذر بالخطر في إسرائيل.
جبهة القوقاز
ينتقل الاستقطاب بين تركيا وإسرائيل من ليبيا إلى منطقة القوقاز، بعد أن تم الكشف عن سوء عمل الطائرات المسيرة من دون طيار التي اشترتها أذربيجان من تل أبيب، لاسيما في إطار حربها الدائرة مع أرمينيا، إذ تبين أن هذه الطائرات من الطراز القديم، مما أفسح الطريق أمام أردوغان لدق إسفين بين باكو وتل أبيب، وبيع بضاعته العسكرية للأذريين.
منذ أسابيع، تعيش أرمينيا وأذربيجان حالة حرب، ليس بمنطقة ناغورنو كاراباخ التي احتلها الأرمن أوائل التسعينيات، ولكن بمنطقة تابوش الحساسة استراتيجياً، وتمر فيها 4 خطوط أنابيب نفطية عابرة للحدود توفر الطاقة لدول أوروبا والشرق الأوسط، أحدها إسرائيل التي تحصل على 60% من استهلاكها من أذربيجان عبر خط إيكو-تبليسي-جيهان.
طوال سنوات عديدة، راقبت تركيا بقلق التعاون العسكري والاقتصادي الحيوي بين إسرائيل وأذربيجان، الدولة الإسلامية الشيعية الوحيدة في العالم التي تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وتتسم بالعلاقات الوثيقة، رغم امتناعها حتى الآن عن فتح سفارة في إسرائيل، ولكن حتى من دونها، هناك أواصر دافئة بينهما، وبلغت ذروتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
زودت إسرائيل أذربيجان بالطائرات والمدافع والدبابات والأسلحة، وقدرت قيمتها الإجمالية آنذاك بأكثر من 4 مليارات دولار، وخلال زيارة لأذربيجان عام 2009، أعلن شمعون بيريس أن شركة الطيران الإسرائيلية ستنشئ مصنعا لطائراتها في باكو، فيما أسقط الجيش الأرمني 13 طائرة شراعية إسرائيلية من مختلف الأنواع، بما فيها طائرة هيرميس من دون طيار، بقيمة 30 مليون دولار.
وعندما كانت العلاقات بين إسرائيل وتركيا طبيعية، لم يهتم الأتراك للتعاون الأمني بين أذربيجان وإسرائيل، ولكن مع تدهور علاقاتهما، وتزايد تطلعات أردوغان الإقليمية، زادت التوترات، وقد يكون من المشروع أن نرى جهدا تركيا هو الأول من نوعه لمنافسة سوق تصدير السلاح الإسرائيلي، ومحاولة لإبعادها عن منطقة القوقاز، وتشويه صورتها كمزود أمني فعال وعالي الجودة.
خاتمة
تؤكد المعطيات السابقة أن إسرائيل وتركيا تدركان أن علاقتهما لن تعود إلى شهر العسل الذي ساد حقبة التسعينيات، بسبب تراكم ملفات التوتر بينهما، مع تزايد ظاهرة استدعاء الطرفين لسفرائهما في الجانب الآخر، من أجل التشاور، وهو سلوك يعني إظهار الرفض دون خلق أزمة شديدة للغاية، ونوع من الدبلوماسية الإبداعية لتجنب تقليل العلاقة، ولكن منذ ذلك الوقت لا يوجد سفراء متبادلون، ربما لعدم وجود حكومة مستقرة بإسرائيل، واستمرار أزمتها السياسية الطويلة، وعدم معرفة الجهات الخارجية، ومنها تركيا، كيف تتعامل معها.
رابط المصدر: