انقضت الجولة الأولى من المحادثات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في سلطنة عُمان يوم 12 أبريل 2025 والخاصة بإيجاد تسوية دبلوماسية للأنشطة النووية الإيرانية التي توسّعت خلال الأعوام الماضية منذ إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، انسحابه من الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015. واكتسبت هذه المحادثات أهمية كبيرة للعديد من العوامل، أهمها أنها الأولى بين إدارة “ترامب” وطهران، وتوقيتها الذي يجيء في ظل حشد عسكري أمريكي غير مسبوق في الشرق الأوسط والمحيط الهندي يهدد باستهداف المنشآت النووية الإيرانية إذا لم تستجب طهران لدعوات الجلوس على طاولة المفاوضات.
وفي الوقت نفسه، جاءت هذه المحادثات، التي جرت برعاية مسقط، بعد وصول مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران إلى 60% على الأقل، حسبما هو معلن، وهي نسبة تقترب من تلك المطلوبة لإنتاج سلاح نووي والمتمثلة في 90%. وفي الواقع، بعثت هذه المحادثات الأمل في التوصل إلى اتفاق نووي جديد على غرار اتفاق لوزان لعام 2015 وتجنيب منطقة الشرق الأوسط تداعيات اندلاع مواجهات عسكرية واسعة بين إيران ووكلائها –برغم تراجع قدراتهم خلال الأشهر الأخيرة بفعل الضربات الإسرائيلية والأمريكية– من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، فضلًا عن تداعيات ذلك على اقتصادات المنطقة والاقتصاد العالمي برمته؛ نظرًا لحجم الاستثمارات الغربية الهائلة في منطقة الشرق الأوسط وعبور نسبة كبيرة من التجارة العالمية من الممرات المائية في المنطقة.
محادثات استكشافية وتمهيدية بنّاءة
على الرغم من أن المحادثات الإيرانية الأمريكية في مسقط لم تكن مباشرة فإنها كانت خطوة مهمة وإيجابية للغاية في سبيل التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران وواشنطن –أو إيران والغرب– عن طريق الانخراط في القريب العاجل في مفاوضات حقيقية وجادة بين الطرفين. فقد عُقدت محادثات استمرت لمدة ساعتين ونصف بين الوفد الأمريكي، الذي قاده مبعوث واشنطن للشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي يدعو لاستخدام الدبلوماسية أولًا مع طهران على النقيض من وزير الخارجية ماركو روبيو الذي يتبنى آراءً أكثر حزمًا تجاه طهران ما جعله مستبعدًا من إجراء المحادثات معها، والوفد الإيراني برئاسة وزير الخارجية والدبلوماسي ذي الخبرة الطويلة بالمفاوضات عباس عراقجي.
وحسب التقارير ذات الصلة، نوقش الملف النووي الإيراني بشكل رئيس على طاولة المحادثات غير المباشرة بين الإيرانيين والأمريكيين، كما طُرحت عدة ملفات أخرى مثل الاستقرار الإقليمي وتبادل السجناء بين البلدين. وبشكل رئيسٍ أيضًا، طالبت إيران مقابل ذلك برفع العقوبات عنها في الوقت الذي رحّبت فيه بقدوم المستثمرين الأمريكيين إلى البلاد لضخ مليارات الدولارات. فقد أعلن الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أن المرشد الأعلى، علي خامنئي، لم يرفض استثمار رجال الأعمال الأمريكيين في إيران حال تم التوصل إلى اتفاق نووي، ما يبدو أنه وعد من “ترامب” يجيء في إطار تحسين الاقتصاد الإيراني مقابل كبح الجماح النووي للجمهورية الإسلامية. وقد تطرق مصدر عُماني إلى هذه القضايا التي طُرحت قائلًا إن “المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران ستركز على البرنامج النووي وتهدئة التوتر وتبادل السجناء”.
وقد حققت المحادثات بين طهران وواشنطن في مسقط الهدف المرجوّ منها إلى حدٍ بعيد. فقد وصف الأمريكيون والإيرانيون هذه المحادثات بأنها كانت “إيجابية” و”بنّاءة”، واتفق الطرفان على استئنافها يوم السبت 19 أبريل 2025 ولكن في مكان آخر داخل إحدى الدول الأوروبية التي قد تكون على الأغلب إما سويسرا (نفس مكان انعقاد محادثات عام 2015) أو النمسا (وعاصمتها فيينا التي يتمركز بها مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية).
وكانت تلك المحادثات بنّاءة إلى الحد الذي أكدت فيه مصادر أن الوفدين اقتربا للغاية من وضع أساس للمفاوضات المقبلة التي يُراد منها التوصل إلى اتفاق نووي يُنهي أزمة البرنامج النووي بين إيران والغرب. وفي الوقت نفسه، أصرّت طهران على عدم مناقشة ملفها الصاروخي وملف الطائرات المسيرة، ربما في محاولة للحفاظ على قدرات عسكرية للبلاد ولعدم تحمل انتقادات واسعة من التيار المتشدد في الداخل الذي يُبدي معارضة لهذه المفاوضات في عُمان ولم يصمت عن انتقادها اللاذع والمستمر سوى بسبب الموافقة العليا من جانب المرشد على الدخول في هذه المحادثات.
مستقبل المفاوضات النووية
أكدت محادثات عُمان الأخيرة أن العمل الدبلوماسي سيكون خيار التعامل مع الملف النووي الإيراني وليست الهجمات العسكرية. ومع ذلك، فإن مسألة التوصل إلى اتفاق نووي خلال الأيام المقبلة قد تواجه بعض التحديات على النحو التالي:
- التنازلات الإيرانية والشروط الأمريكية:
يمثل حجم التنازلات التي يمكن أن تقدمها إيران من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر أهم تحدٍ أمام مستقبل المفاوضات الإيرانية الأمريكية خلال الفترة المقبلة إذا ما سارت محادثات الطرفين على ما كانت عليه في مسقط يوم 12 أبريل الجاري. فإذا ما كانت واشنطن تريد تقييد الأنشطة النووية الإيرانية إلى الحد الأدنى، فإن طهران تريد بالمقابل إزالة العقوبات عنها. وهنا، قد تختلف إيران مع واشنطن بشأن حجم العقوبات التي يمكن السماح برفعها عن طهران، فضلًا عن المدة الزمنية التي ستتم خلالها.
وفي الإطار نفسه، قد يختلف المفاوضون بشأن نسبة تخصيب اليورانيوم التي سيتم السماح لطهران بالقيام بها خلال الفترة المقبلة، إلى جانب الكمية المسموح بإنتاجها من هذا اليورانيوم المخصب. وكذلك، قد تبرز خلافات بشأن امتلاك أجهزة طرد مركزية من عدمه، فضلًا عن مسألة أخرى مهمة تتمثل في رغبة قد عبرت عنها واشنطن وإسرائيل وهي تعطيل بعض المنشآت النووية الكبرى. وعليه، فإن حجم التنازلات النووية والاقتصادية بين إيران وواشنطن قد يمثل أهم التحديات أمام المفاوضات المرتقب استكمالها خلال الأسابيع القادمة.
- الملفات الأخرى المحتمل طرحها على الطاولة:
من المتوقع أن ينشأ خلاف بين المفاوضين الإيرانيين والأمريكيين بشأن عدد الملفات المطروحة على الطاولة للنقاش. ففي حين ترفض إيران التطرق إلى الملف الصاروخي والمسيرات وحضورها العسكري الإقليمي عبر دعم جماعات مسلحة في المنطقة، تحدثت إدارة “ترامب” مراتٍ عن رغبتها في التفاوض مع الجمهورية الإسلامية بهذا الشأن، وهو ما مثّل بالأساس أحد أكبر الخلافات بين الطرفين خلال إدارة ترامب الأولى (2017 – 2021) والتي عطّلت هذا المسار التفاوضي آنذاك.
- دعوات إسرائيل لتفكيك المنشآت النووية الإيرانية بدلًا من تحجيم الأنشطة:
تمثل إسرائيل مؤثرًا إلى حدٍ ما فيما يخص مسار المفاوضات بين إدارة ترامب وإيران. إذ، تناهض إسرائيل هذا المسار وتشجع ترامب على المضي قدمًا في تدمير المواقع النووية الإيرانية عسكريًا عن طريق تنفيذ عمليات مشتركة جوية ضدها. وترمي إسرائيل في ذلك إلى التدمير أو التفكيك الكامل للمنشآت النووية الإيرانية، وهي تسعى إلى تحقيق هذا الهدف سواء عن طريق العمل العسكري أو الدبلوماسي. فقد أكدت على أن الاتفاق النووي “يجب أن يشمل تفكيك المنشآت النووية الإيرانية”.
وعليه، فإذا لم تحقق المفاوضات النتيجة المطلوبة وفي فترة زمنية قصيرة، فإن إسرائيل سوف تشجع وتدفع إدارة ترامب حينئذ لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية عسكريًا. وتتزايد احتمالات هذا السيناريو عند النظر إلى تصريحات “ترامب” ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اللذين أكدا أنه يجب التوصل إلى اتفاق نووي في مدة زمنية غير طويلة وأن “المفاوضات يجب ألا تكون من أجل المفاوضات”؛ وذلك خشية من توظيف إيران لعامل الوقت في تخطي العتبة النووية.
سيناريوهات الاتفاق النووي المتوقع
في ضوء المعطيات القائمة الخاصة بمسار التفاوض النووي، يمكن القول إن الاتفاق النووي المقبل قد يتخذ إحدى الصيغ التالية، وذلك من حيث المدة الزمنية والأطراف المتوقع أن تشارك فيه:
- اتفاق ثنائي مؤقت بين إيران والولايات المتحدة:
قد تلجأ إدارة الرئيس ترامب إلى عقد اتفاق نووي ثنائي مؤقت مع طهران لحين الاستعداد لعقد اتفاق آخر استراتيجي طويل الأمد في وقت لاحق. وستكون واشنطن مدفوعة هنا بعوامل عدة أهمها اقتراب إيران من التوصل بالأساس إلى سلاح نووي بعد تخصيبها اليورانيوم بكميات كبيرة ونسبة عالية وصلت إلى 60%، إلى جانب استباق انتهاء مهلة اتفاق عام 2015 في أكتوبر 2025، وما يعنيه من انتهاء بنود القيود النووية. وعليه، يمكن لواشنطن لاحقًا الاستعداد خلال تلك الفترة لإبرام اتفاق مشابه ولكن لمدة أكبر وببنود أكثر شمولًا.
- اتفاق ثنائي طويل الأمد بين إيران والولايات المتحدة:
يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي “ترامب” تريد إعمال شروط بعينها على إيران والتوصل معها إلى اتفاق برؤية أمريكية بعيدًا عن الأوروبيين. فقد استبعد “ترامب” انعقاد أولى جولات التفاوض في عاصمة أوروبية وجرى انعقادها خارج القارة، وذلك في مسعى منه إلى التفاوض بشكل ثنائي مع طهران، أو على الأقل وضع حجر الأساس لأية مفاوضات مقبلة بدون مشاركة الأوروبيين. وانطلاقًا من ذلك، قد تتوجه إدارة ترامب إلى عقد اتفاق استراتيجي طويل الأمد مع إيران ينص على كبح جماح طهران النووي ومنع توصلها إلى اتفاق نووي مقابل رفع العقوبات عنها. ومع ذلك، تبرز أمامنا مشكلة في هذا الصدد وهي مدى قبول إيران بمثل هذه الصيغة للاتفاق النووي من عدمه.
- اتفاق دولي مؤقت:
يُتوقع أن تنخرط الدول الأوروبية في المحادثات النووية بين الأمريكيين والإيرانيين خلال الفترة المقبلة، بل وقد تشهد محادثات الأسبوع المقبل التي ستجري في بلد أوروبي مشاركة من جانب مسؤولين أوروبيين، خاصة من الدول الكبرى الأوروبية الممثلة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وعلى غرار الاتفاق الثنائي المؤقت بين واشنطن وطهران، يُتوقع أن تتوصل الولايات المتحدة رفقة الدول الأوروبية إلى اتفاق نووي مؤقت مع طهران لكبح جماحها النووي إلى حين الاستعداد للإمضاء على الاتفاق الأخر طويل المدى.
- اتفاق دولي طويل الأمد:
ويمثل هذا السيناريو الخيار الأمثل لكل من الإيرانيين والأوروبيين والولايات المتحدة أيضًا؛ إذ قد لا تقبل إيران بعقد اتفاق ثنائي فقط مع واشنطن حول ملفها النووي؛ خشية خروجها منه لاحقًا مرة أخرى، بالإضافة إلى مسائل أخرى تتعلق بمدى فاعليته واكتسابه الصفة الدولية. وعليه، يُتوقع أن يكون الاتفاق الدولي طويل الأمد هو السيناريو الذي ستلجأ إليه الأطراف الدولية وإيران لتسوية أزمة البرنامج النووي لطهران.