د. محمد مسلم الحسيني
يمنح القانون الأمريكي رئيس أمريكا حصانة أمام الدعاوي القانونية، فلا يجوز ملاحقته ومحاسبته أو محاكمته أو إعتقاله إثناء فترة حكمه للبلاد عند إرتكابه مخالفات قانونية أو جنايات أو جنح. غير أن صلاحية محاسبة الرئيس أنيطت بمجلسي النواب والشيوخ إذ لهما القدرة في التحقيق والتحري عن مخالفات وجرائم الرئيس، ومن ثم محاكمته وإدانته وعزله عن منصبه حال ثبوت إرتكابه جرائم أو مخالفات سواء كانت قانونية أو دستورية.
رغم أنه ليس كل الجرائم تعتبر سببا لعزل الرئيس في مجلسي النواب والشيوخ ولا كل إجراءات عزل الرئيس يجب أن يكون سببها جريمة، أي بمعنى آخر ليس كل جريمة تستوجب عزل ولا كل عزل يجب أن يكون سببه جريمة، فهناك جرائم لا تستوجب العزل وهناك تصرفات تستوجب العزل لكنها بنظر القانون ليست جرائم.
إجراءات عزل الرئيس التي تتم من خلال مجلسي النواب والشيوخ تشبه الى حد كبير الإجراءات القانونية التي يجريها القضاء في التحقيق والمحاكمة. حيث أن هناك لجان قانونية متخصصة في مجلس النواب تقوم بإجراءات التحقيق، من جمع معلومات مفيدة وإستدعاء شهود والإستماع لهم إضافة الى إستشارة أهل الإختصاص من أكاديميين وأهل الخبرة والمعرفة. بتراكم المعرفة الصحيحة وبوجود أدلة دامغة تثبت تورط الرئيس بجرائم أو مخالفات دستورية معززة بشهادات موثوقة وحقائق موثقة، يجري مجلس النواب على أساسها تصويتا على لوائح عزل الرئيس مستندا الى الإتهامات المثبتة والمدعومة بالبراهين.
بمعنى آخر يقوم مجلس النواب من خلال تحقيقات لجانه الخاصة بدور “المحقق”. حينما تكون الأغلبية البسيطة ” نصف عدد النواب+1″ متفقة على لوائح إدانة الرئيس ترفع هذه اللوائح الى مجلس الشيوخ. في مجلس الشيوخ تتم المحاكمة الفعلية للرئيس وتتم إدانته وعزله على شرط أن يصوت 67 في المئة من أعضاء مجلس الشيوخ على قرار الإدانة والعزل، أي أن مجلس الشيوخ يقوم هنا بدور “الحاكم” الذي ينطق بالحكم النهائي…. ليس من الضروري أن يأخذ الحاكم “مجلس الشيوخ” بوجهة نظر المحقق “مجلس النواب”! فلحد هذا اليوم لم يعزل عن منصبه أي رئيس أمريكي في تأريخ أمريكا السياسي، رغم أن مجلس النواب رفع لوائح الإتهامات الموثقة لمجلس الشيوخ مما يشير بأن المحكمة “سياسيّة” يقرر الحكم النهائي فيها أعضاء مجلس الشيوخ!
التحقيق في مجلس النواب أظهر ومن خلال الوقائع والشهود بأن “ترامب” إستغل منصبه كرئيس لأمريكا في محاولة للحصول على منافع إنتخابية شخصية نحو السباق الإنتخابي المزمع خوضه في 2020م، وكان ذلك من خلال الإستعانة بدول أخرى من أجل الحصول على معلومات مشينة ومخالفات مفترضة أتهم بها غريمه الإنتخابي “جو بايدن”، وكانت أوكرانيا هدفا رئيسيا لجهود الرئيس بهذا النحو.
كما أتهم الرئيس أيضا بأنه تعامل باسلوب المقايضة مع رئيس أوكرانيا فجعل الإفراج عن حزمة المساعدات المالية الأمريكية المحجوزة لأوكرانيا ثمنا تقايضيا لفائدة خاصة يجب أن يقدمها رئيس أوكرانيا له، وهو التحقيق في فساد مزعوم لمنافسه الإنتخابي “بايدن”، ويعني هذا في المصطلح القانوني “الرشوة”.
إضافة الى لوائح إتهام أخرى تخص إعاقة تحقيقات اللجان القضائية والاستخباراتية والشؤون الخارجية وغيرها من اللجان في مجلس النواب وذلك لمنع الشهود من الإدلاء بشهاداتهم وحجب الوثائق الهامة التي داعت بها تحقيقات هذه اللجان. وقد كان من الممكن أيضا إدراج محاولات “ترامب” في إعاقة القضاء حسبما جاء ذلك في مذكرات التحقيق الذي قام به المحقق القانوني الخاص “روبرت مولر” في دور روسيا وتدخلاتها بشأن إنتخابات عام 2016م. وهكذا فلوائح الإتهام المزمع التصويت على أساسها في مجلس النواب لعزل الرئيس، قبل نهاية شهر كانون اول “ديسمبر” الحالي وربما خلال فترة أعياد الميلاد، قد أختزلت مؤخرا بفقرتين فقط وهما: “إستغلال السلطة وعرقلة تحقيق لجان مجلس النواب المختصة”. في حال صوتت الأغلبية البسيطة في مجلس النواب على لوائح الإتهام هذه لعزل الرئيس فسيرفع هذا القرار مع لوائح الإتهام الى مجلس الشيوخ حيث تبدأ المحاكمة الفعلية للرئيس في مطلع العام القادم.
في تأريخ أمريكا السياسي حصلت ثلاث إجراءات لعزل الرئيس وستكون إجراءات عزل “دونالد ترامب” هذه هي الرابعة في هذا التأريخ. الأولى كانت عام 1868م ضد الرئيس الأمريكي “أندري جونسون” بسبب خرقه للقانون الإتحادي، والثانية عام 1974م ضد “ريتشارد نيكسون” في فضيحة “ووترغيت”، والثالثة عام 1998م ضد “بيل كلينتون” في قضية “لوينسكي”. لم تفلح كل من هذه الإجراءات لعزل أيٍّ منهم. لم يصوت مجلس الشيوخ على عزل الرئيس في قضية “أندري جونسون” وقضية “بيل كلينتون” بينما استقال “ريتشارد نيكسون” قبل محاكمته.
هنا يتساءل المراقب هل هذه المرة ستفضي إجراءات العزل الى إدانة وعزل الرئيس عن السلطة ليكون أوّل رئيس جمهوري في تأريخ أمريكا يعزل عن منصبه!؟.
في ظل الظروف التي تبيّنها المواقف والأحداث على الساحة السياسيّة الأمريكيّة، فإنه من غير المعتقد أن تفضي إجراءات العزل الجارية حاليا الى إدانة الرئيس وعزله عن منصبه، ذلك للأسباب الهامة التالية: يتحكم في مجلسي النواب والشيوخ الحزبان الأمريكيان الرئيسيان وهما الحزب الديمقراطي المعارض حاليا والحزب الجمهوري الحاكم. الحزب الديمقراطي يحظى بأغلبية مقاعد مجلس النواب وأغلبية أعضاء مجلس الشيوخ هم من الجمهوريين. أي بمعنى آخر “المحقق” ديمقراطي و”الحاكم” جمهوري، ومهما جاء المحقق بثبوتيات الجريمة، فللحاكم القول الفصل…! السؤال الذي يطرح نفسه دائما: هل الحاكم الذي سيوجه الحكم بشأن المتهم “ترامب” سيكون عادلا في حكمه !؟. الجواب سيكون على الأغلب وفي ظل المعطيات الحالية هو “النفي”!.
من المتوقع أن تصدر محكمة مجلس الشيوخ حكم البراءة لدونالد ترامب رغم ثوابت الخلل والخطأ الواضحة والمخالفات الدستورية المثبتة، لأن روح العدالة والموضوعية غابت عن فضاء السياسة الأمريكيّة أمام المصالح الحزبية وأمام التعنت والإنقسام في الرأي والرؤى في امريكا خلال فترة حكم “ترامب”. هذا التغاضى عن عين الحقيقة والتمادي في تجاوز القانون ليس ظاهرة سياسيّة محصورة بمجلس النواب والشيوخ فقط، بل نرى مداها يتعدى مجالس الدولة ليصل الى الشارع ومن فيه.
أمريكا شعبيّا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، منقسمة على نفسها بين موالٍ لترامب بشكل أعمى فلا يرى الجنح ولا يشعر بالجنايات، وبين معارض له يتفهم خطورة خطاباته وتصرفاته وتجاوزاته. الإنقسام الحاد في رأي الشارع شجع بإنقسام ممثليه في مجلسي النواب والشيوخ الى الحد الذي يجعل المتابع لا يصدق بأن أعظم دولة في العالم وأكبر مشرّع للديمقراطية- كما تزعم – تبدي إشارات خفية وواضحة على خطر إنهيار الديمقراطية أو ضعضعة أسسها !
ليس هدف الديمقراطيين الواقعي من وراء إجراءات عزل “ترامب” هو إدانته وعزله وإخراجه من حلبة السلطة، لأنهم على ثقة وإطلاع تام بأن قرار العزل سوف لن يصدره مجلس الشيوخ لسبب بسيط وهو أن غالبية الأعضاء في المجلس هم من الجمهوريين، والجمهوريون واضحة مواقفهم إزاء عملية العزل وواضحة تعاملاتهم مع أخطاء الرئيس!.
هنا قد نتساءل: “ما هو هدف الديمقراطيين إذن من وراء كل هذه الإجراءات المضنية والمكلفة التي تحملتها الدولة من بحث وتحري ومساءلة وتحقيق، إن باتت براءة الرئيس أكيدة أمام محكمة مجلس الشيوخ “!؟. الجواب هو: أن هذه الإجراءات القانونية التي اتبعها الديمقراطيون هي تنفيذ لما تتطلبه المسؤولية المناطة على عاتقهم كحزب معارض في مراقبة سلوكيات الرئيس والتفاعل والإحتجاج على تصرفاته المنحرفة بما يلزم. هذه سمه من سمات الديمقراطية وملزماتها، إذ أن سكوت الديمقراطيين يعني قبولهم وموافقتهم بالأمر الواقع وقبولهم بمخالفات الرئيس للقانون والدستور!.
هذا سيكون خللا تأريخيا يبقى يلاحق الحزب الديمقراطي الأمريكي الى أجل غير مسمّى!. ومهما يكن من أمر، فالحكم النهائي لبقاء ترامب على رأس هرم السلطة سيصدره الشعب الأمريكي نفسه في إنتخابات عام2020م المقبلة، والتي ستبين نتائجها أمرا من أمرين: إما رحيل “ترامب” النهائي عن السلطة والتكفير عن أخطائه التي طالت بقاع العالم في أثرها وتأثيرها….أو بقاء هذا الرجل بالسلطة لدورة ثانية وهذا يبرهن بأن الشعوب هي التي تصنع الدكتاتور وستستمر دوامة “ترامب” المضنية ربما الى أجل غير مسمّى! وعندها سيكون لتحليل أحداث قابل السنين بقيّة…!
رابط المصدر: