في خضم الاستعداد لسباق رئاسي محموم داخل الساحة الأمريكية التي تواجه العديد من المشكلات المتداخلة والمعقدة، تعرض الرئيس السابق والمرشح الجمهوري “دونالد ترامب” لـحادث إطلاق نار في أثناء وجوده في تجمع انتخابي بولاية بنسلفانيا في 14 يوليو الجاري. ووصف مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” الحادث بأنه “محاولة اغتيال”، وكشف عن هوية الجاني موضحًا أنه يدعى “توماس ماثيو كروكس”. كما أوضحت السلطات الأمنية أن المتهم هو جمهوري يبلغ من العمر 20 عامًا، وكان قد قدم في الماضي مساهمة مالية صغيرة لمجموعة متحالفة مع الديمقراطيين، وفقًا لما كشفت عنه شبكة “سي إن إن“. الأمر الذي يثير التساؤلات بشأن الأسباب المؤدية لوقوع هذا الحادث، وكذا تداعياته على الساحة الأمريكية التي تتهيأ للانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم.
أسباب متداخلة:
بعد مرور ما يقل عن ثلاثة أسابيع على عقد أول مناظرة للسباق الرئاسي الأمريكي بين الرئيس الأكبر سنًا في تاريخ الولايات المتحدة “جو بايدن” ومنافسه الجمهوري المدان في لائحة طويلة من الاتهامات “دونالد ترامب”، شهدت الساحة الأمريكية تطورًا مهمًا ربما يحمل انعكاسات واضحة على المشهد السياسي وهو المرتبط باستهداف المرشح الجمهوري “ترامب” في أثناء تجمع انتخابي في بنسلفانيا. وبغض النظر عن الحديث المرتبط بالمؤامرة الذي يسوقه بعض الأفراد في المعسكرين الجمهوري والديمقراطي، وعلى الرغم من حالة الغموض التي تخيم على أسباب ودوافع الحادث –حتى الآن- فإنه يمكن تفكيكها في ضوء مجموعة من الأزمات التي تعانيها الساحة الأمريكية:
الاستقطاب والانقسام السياسي:
تعاني الساحة الأمريكية –بشكل واضح– من تزايد حدة الاستقطاب واتساع نطاق الانقسام السياسي، ولا سيما منذ وصول “ترامب” للمكتب البيضاوي خلال ولايته الأولى، ثم اتسعت مع تزايد وتيرة جائحة كورونا كونها عكست التفاوتات العنصرية بين مجتمعات البيض من جانب والسود والملونين من جانب آخر، وتأكدت مع حادثة مقتل “جورج فلويد” والاحتجاجات التي تبعتها، واحتدمت مع حادثة اقتحام الكابيتول هيل في يناير 2021 وتبني سياسة رفض نتائج الانتخابات من قبل “ترامب” وبعض داعميه.
وتعليقًا على ذلك، أشار “تود واشبورن”، الذي شغل سابقًا منصب مساعد العميد للشئون الخارجية بجامعة هارفارد، في تحليله المعنون (الاستقطاب والنخبة السياسية)، إلى أن الأمريكيين اليوم باتوا أكثر ميلًا بكثير إلى “تأكيد هوياتهم الأيديولوجية والسياسية”. موضحًا أنه في عام 2020، حدد 40% من الأمريكيين أنفسهم بقوة على أنهم إما ليبراليون أو محافظون، مقارنة بما نسبته 29% في عام 2000، وبالمثل، عرف 44% أنفسهم كديمقراطي أو جمهوري “قوي” في عام 2020 وهي “أعلى نسبة مسجلة منذ 70 عامًا”.
وفيما يتعلق بحادثة إطلاق النار على “ترامب”، فلا يمكن اعتبارها فقط كنتيجة طبيعية لما تشهده الساحة الأمريكية من انقسام، لكن التعاطي معها عكس نطاقًا واسعًا من الاستقطاب، وهو ما اتضح في التفاعلات التي جرت على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقًا على الحادث؛ فوفقًا لوكالة “بلومبيرج“، زعمت بعض المنشورات أن “الرئيس بايدن، حرض على إطلاق نار على التجمع، فيما ذكر آخرون أن الحادث كان مسرحيًا”. كما ادعت منشورات على منصات “إكس” و”تليجرام”، بأن مطلق النار يدعى “مارك فيوليتس”، ووصفته بأنه “متطرف في حركة أنتيفا اليسارية”. ولم تتوقف المزاعم عند حدود مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من المواطنين، وإنما وصلت أيضًا إلى بعض أفراد النخبة الأمريكية، فقد كتب النائب الجمهوري “مايك كولينز” في تعليقه على الحادث قائلًا “أرسل جو بايدن الأوامر”، كما علق السيناتور “جيه دي فانس“، على منصة “إكس” قائلًا: إن “خطاب حملة بايدن أدى مباشرة إلى محاولة اغتيال الرئيس ترامب”.
اتساع نطاق العنف:
تأتي حادثة استهداف “ترامب” في وقت تشهد فيه الساحة الأمريكية معدلات مرتفعة من العنف في صور وأشكال متعددة، لا سيما على مدار العقد الأخير، وهو الأمر الذي يرجع في جانب منه إلى التأثير الاستقطابي أو التحريضي للنخبة. فقد كشفت البيانات الصادرة عن مجموعة أبحاث Gun Violence Archive عن وقوع ما متوسطه 118 حالة وفاة يوميًا بسبب العنف المسلح في خلال عام 2023. بالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت عن أعداد حوادث إطلاق النار الجماعي التي بلغت 689 عام 2021، و647 عام 2022، و656 عام 2023. كما أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد أبحاث الدين العام ومعهد “بروكينجز” في أكتوبر الماضي أن واحدًا من كل أربعة أمريكيين متفقون على أن “الوطنيين الحقيقيين قد يضطرون إلى اللجوء إلى العنف من أجل إنقاذ بلادنا”.
وفي هذا السياق، فقد اعتبرت “راشيل كلينفيلد” في دراستها حول الاستقطاب والعنف في الولايات المتحدة أن تزايد العنف هو النتاج الواضح لحالة الاستقطاب التي تعاني منها النخبة الأمريكية، بالاستناد إلى أن “تطبيع العنف من قبل القادة السياسيين”، على وجه الخصوص، قد يوفر شعورًا بأن التصرف العنيف “مسموح به”، وقد لا يشهد عقابًا، كما قد يتحول مرتكبه إلى “بطل”. وشددت على أن استمرار النخبة السياسية في هذا النهج قد “رفع التكلفة بشكل واضح”؛ إذ لم تتوقف التهديدات العنيفة عند حدود أفراد النخبة السياسية، وإنما وصلت أيضًا إلى ارتفاع واضح للتهديدات العنيفة التي يشهدها القضاة، ناهيك عن “تسجيل جرائم الكراهية لأعلى مستوياتها”، وكذا “التصاعد الواضح في حوادث إطلاق النار الجماعي”.
ومن ثَمّ، تعتبر أغلب التحليلات أن العنف المتزايد الذي تشهده الولايات المتحدة يستند إلى عدد من الأمور التي يأتي في مقدمتها دستورية حمل السلاح التي تعطي للمواطن الأمريكي الحق في اقتناء الأسلحة، وهو الحق الذي أيدته المحكمة العليا في أكثر من مناسبة، بطريقة ساهمت في انتشار ثقافة حمل السلاح واستخدامه بالنسبة لشريحة كبيرة بين الشعب الأمريكي. علاوة على ذلك، فقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز انتشار العنف بالاستناد إلى ركيزتين رئيسيتين؛ هما انتشار خطابات التحريض وتعزيز عدوى العنف.
أزمة الشباب الأمريكي:
توضح المعلومات التي كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”، أن مرتكب الحادث يبلغ من العمر 20 عامًا، أي أنه شاب ضمن جيل “زد”، الذي يواجه أزمات واضحة على الساحة الأمريكية. فقد أوضح موقع “بيركلي نيوز“، في حواره مع “سارة سوانبيك” و”إيرين هايز” من معهد جامعة كاليفورنيا في بيركلي، أن الشباب في الولايات المتحدة يشعرون على نطاق واسع “بخيبة أمل” بشأن النظام السياسي والاقتصادي. مضيفًا أن بعض قطاعات الشباب باتت تشعر بأن “الحلم الأمريكي قد مات”، أو أضحى من الصعب جدًا تحقيقه، أو “لا يمكن تحقيقه إلا بالنسبة للبعض فقط”. علاوة على ذلك، فقد أشار إلى أن الشباب أضحوا قلقين بشكل واضح بسبب وقوع النظام السياسي تحت سطوة “المصالح الخاصة والمال الأسود”. ومن ثَمّ، لفت الموقع إلى أن قطاعات من الشباب “لم تعد تنتمي لأي حزب” بسبب عدم إيمانهم بقيام الأحزاب بما يؤثر “في حياتهم بالإيجاب”.
واتصالًا بذلك، أوضحت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن هناك شعورًا “بالكآبة” يخيم على جيل “زد” كنتيجة للتشكك الكبير في قدرة النخبة الأمريكية من الحزبين على مساعدة هذا الجيل. مضيفة أن أغلب الذكريات السياسية للشباب الأمريكي يغلب عليها السلبية كونها تتراوح ما بين “الحزبية الشديدة والتحذيرات بشأن النهاية الوشيكة لكل شيء من الديمقراطية الأمريكية إلى كوكب الأرض”. هذا، وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته الصحيفة الشهر الماضي أن أكثر من ثلاثة أرباع الناخبين تحت سن الثلاثين يعتقدون أن البلاد “تتحرك في الاتجاه الخاطئ”، وما يقرب من ثلث الناخبين تحت سن الثلاثين لديهم وجهة نظر سلبية لكل من “بايدن” و”ترامب”، كما يعتقد 63% من الناخبين الشباب أن أيًا من الحزبين لا يمثلهم بشكل كافٍ.
وفي ذات السياق، يشير التحليل الصادر عن المركز الوطني للإحصاءات الصحية التابع لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية في منتصف عام 2023 إلى أنه بالنسبة لمن تتراوح أعمارهم بين 20 و24 عامًا، ارتفع معدل جرائم القتل بنحو 49% بين عامي 2014 و2020، كما ارتفع معدل الانتحار بين هذه الفئة العمرية بنسبة 63% خلال عقدي الدراسة.
تداعيات مركبة:
في ضوء تهيؤ الولايات المتحدة لانتخابات رئاسية تبدو “استثنائية” بشكل واضح، فإن استهداف المرشح الرئاسي الجمهوري “ترامب” قبل أشهر من التوجه لصناديق الاقتراع سيحمل تداعيات على الساحة الأمريكية التي تعاني بالفعل من حالة احتقان، وفيما يلي محاولة لتفكيك أبرز التداعيات المتوقعة لحادث بنسلفانيا:
تشويه صورة الديمقراطيين:
جاءت الاستجابة سريعة لـلرئيس “بايدن” والإدارة الديمقراطية بشأن إدانة الحادث، كما نُشر على موقع البيت الأبيض نقلًا عن “بايدن”، إدانة للحادث ودعوة إلى “نبذ العنف السياسي”، وأضاف أن “بايدن” يصلي من أجل “ترامب” وأسرته ومن أجل من كانوا في التجمع الانتخابي. كما ذكرت وكالة “رويترز” أن “بايدن” أجرى اتصالًا هاتفيًا مع “ترامب”، فضلًا عن التحدث مع حاكم ولاية بنسلفانيا، “جوش شابيرو”، ورئيس بلدية باتلر، “بوب داندوي”. ومن جهته، أدان وزير الدفاع “لويد أستن” الحادث، مشددًا على أن “هذه ليست الطريقة التي تُحل بها الاختلافات في أمريكا ولا ينبغي أن تكون كذلك”. كما أدان وزير الخارجية “أنتوني بلينكين” الحادث، موضحًا أنه “شعر بالصدمة والحزن”. بينما أكد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، “تشاك شومر”، في بيان أنه “لا مكان للعنف السياسي في بلادنا”.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المتوقع أن يساهم الحادث في تشويه صورة الديمقراطيين ليس فقط بالاستناد إلى التعليقات التي أطلقها بعض الجمهوريين والمتعلقة بمسئولية الديمقراطيين والخطاب الديمقراطي عن الحادث مثل “مايك كولينز”و”جيه دي فانس”، وبالأخص مع المعلومات الأمنية التي كشفت عن “تحالف محتمل” بين مرتكب الحادث وبعض المجموعات الديمقراطية، وإنما في ضوء اعتبارها مجرد حلقة ضمن سلسلة محاولات الديمقراطيين للتخلص من “ترامب” والتي بدأت بمحاولتين لإدانته في الكونجرس الأولى في أثناء وجوده في البيت الأبيض والثانية في أعقاب فوز “بايدن”، ناهيك عن مسار الإدانة القضائي الذي يتم تصويره على أنه نوع من “التصفية السياسية” لـ”ترامب”.
تعزيز فرص فوز “ترامب”:
يأتي حادث استهداف “ترامب” في تجمع انتخابي ليعزز من مزاعمه الخاصة بوجود مؤامرة لاستهدافه وإقصائه عن المشهد السياسي. وهي المسألة التي ستدعم قوته في توظيف حشود مناصريه كتهديد سياسي ضد خصومه، وهو التوظيف الذي ظهر في أكثر من مناسبة أشهرها حادثة اقتحام الكابيتول هيل في يناير 2021، وقد عمل على تكرارها في أثناء مناهضته للمسار القضائي الذي يتم على خلفية لائحة طويلة من الاتهامات. الأمر الذي يعني أن حادث بنسلفانيا يأتي في سياق قدرة “ترامب” على توظيف العقبات والمشكلات التي يواجهها في سبيل تعزيز شعبيته، بالاستناد إلى وجود مؤامرة ضده تستهدف إبعاده لمجرد كونه يعبر بحق عن “صوت الشعب الأمريكي”.
واتصالًا بذلك، فمن المتوقع أن يتم توظيف هذا الحادث في سبيل تعزيز فرص فوز “ترامب” خلال السباق الرئاسي الحالي، ولا سيما بالاستناد إلى خطاب شعبوي، وربما تحريضي، يدعم مشاعر الاعتزاز الوطني في مواجهة “المؤامرة التي تستهدف أمريكا”. وهو ما بدت بوادره تتضح في التصريح الذي أطلقه نجل “ترامب” مؤكدًا على أن والده “لن يتوقف عن القتال من أجل إنقاذ أمريكا، بغض النظر عما سيلقيه اليسار الراديكالي تجاهه”. ومن جانبها، أعلنت حملة “ترامب” أنه سيحضر المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الأسبوع المقبل، مؤكدة على أنها تمضي قدمًا “لترشيح ترامب ليكون الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة”. وفي أول تعليق له على الحادث، شدد “ترامب” على ضرورة الاتحاد من أجل منع “انتصار الشر”. فيما اعتبرت بعض التحليلات أن “القبضة” التي رفعها “ترامب” في أعقاب الحادث قد تتجه لتكون شعار المرحلة المقبلة.
تزايد العنف المضاد:
على الرغم من أن حادث بنسلفانيا الذي استهدف المرشح الجمهوري “ترامب” لم تتكشف كل ملابساته المتعلقة بكون مرتكبه “ذئبًا منفردًا” أو عضوًا في تنظيم يساري عنيف، فإن هناك فرصًا لتزايد موجة العنف المضاد التي يشنها أنصار “ترامب” في وجه معارضيه ردًا على الحادث. ويرتبط هذا التوقع بعدد من الأمور؛ أبرزها: الخطاب التحريضي الذي لا يتبناه “ترامب” فقط، وإنما يتبناه أيضًا الجمهوريون الداعمون لـ”ترامب”، وبالأخص أنصار تيار MAGA. بجانب السلوك العنيف الذي تميل إليه قطاعات بل وجماعات من مؤيدي “ترامب” في الشارع الأمريكي (مثل: “براود بوييز”Proud Boys، و”أوث كيبرز”Oath Keepers) والذي ظهر في مناسبات متعددة، مثل ما قام به “سيزار سايوك” من حملة ترهيب أرسل فيها قنابل بالبريد إلى منتقدي الرئيس “ترامب” خلال عام 2018، وأيضًا قيام “ديفيد ديبيب” باقتحام منزل رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي” بسان فرانسيسكو وضرب زوجها “بول بيلوسي” بمطرقة في رأسه.
علاوة على ذلك، فإن الشعور بالمؤامرة وحالة الانتقام التي يمكن أن تخيم على عقول مؤيدي وداعمي “ترامب” قد تتسبب في اتساع نطاق العنف بالاستناد إلى رغبة هؤلاء في الثأر لزعيمهم ومعاقبة أعدائه المفترضين. الأمر الذي يعني أن حادث بنسلفانيا لن يكون مجرد محفز على مزيد من العنف، وإنما قد يوفر أيضًا المسوغ أو التبرير الذي سيسوقه أنصار “ترامب” في سبيل تعزيز موقفهم.
مجمل القول، إن حادث بنسلفانيا يؤشر إلى حالة التعقيد الواضحة التي تشهدها الساحة الأمريكية، كما يدلل على المخاطر المرتبطة باتساع نطاق العنف وتداعياته المركبة التي قد تفرض تهديدات جمة لا ترتبط فقط بتآكل الديمقراطية الأمريكية، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضرب الاستقرار السياسي الأمريكي في صميمه. وهو الأمر الذي يتطلب من النخبة الأمريكية بمعسكريها الديمقراطي والجمهوري ضرورة ضبط إيقاع حالة التنافس السياسي، وإعادة توجيه بوصلة العملية السياسية صوب المصلحة الأمريكية من خلال التجاوز العملي لحالة الاستقطاب والانقسام.
المصدر : https://ecss.com.eg/46897/