ما أن وقعت حادثة إطلاق النار على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب حتى أطلت نظرية المؤامرة برأسها من جديد بعد طول غياب. يبدو أننا قد أصبحنا نشتاق إلى أن نستمع إلى نظريات هؤلاء الناس، رغم أننا نتحدث عن طريقة في التفكير ضارة – أشد الضرر – بالوعي. الموضوع جدير بالكتابة والنقاش، فهذه النظرية قد لاقت رواجا كبيرا في عالمنا العربي، وإن كانت لا تنحصر فيه، فمجانين المؤامرة يمتدون بطول العالم وعرضه. أمر آخر يدعونا للحديث، هو أن الموضوع يتعلق بنظرية المعرفة، لبّ الفلسفة، وكيف نميز المعرفة الصحيحة من المعرفة الزائفة، أو بعبارة أدق، كيف نميز الأقرب إلى الصحة من الأقرب إلى الزيف؟
كل ما يبدو لنا في الظاهر هو عند دعاة المؤامرة غير صحيح، مشهد ترمب ووجهه ملطخ بالدم، والطلقة التي أصابت أعلى أذنه في بتلر بولاية بنسيلفانيا، وتصريح مكتب التحقيقات الفيدريالي أن من حاول اغتياله وفشل هو شاب في العشرينات اسمه توماس ماثيو كروكس، كل هذا موضع شك، ولا يقف الأمر عند الشك، بل ينتقل إلى دائرة الإثبات والجزم بصحة نظرية أخرى، هي أن دونالد ترمب هو من دبّر محاولة اغتياله لكي يفوز في سباق الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
هذا الإثبات جاء من حقيقة أن أسهم ترمب ارتفعت بعد الحادثة لتصل شعبيته إلى 69%، هي نسبة احتمال فوزه بالرئاسة لفترة ثانية. لكنه احتجاج غير علمي بالمرة، وإنما يقوم على التخرّص والتخمين، لأنك لو سألت: أليس من الممكن عقلا أن يكون ترمب قد ترقى وفاز بهذه النسبة نظرا لأن هناك من حاول اغتياله فعلا؟ لكانت الثقة في صحة القصة لا تقل عن رواية المؤامراتي، على أقل تقدير. بالتالي لا يصح استبدال قصة بقصة من دون دليل علمي.
الشك هو الذي طوّر مسيرة العلم والفلسفة بينما أصابت نظرية المؤامرة أتباعها بلوثة فكرية
من الممكن أن نضيف دعاة المؤامرة هؤلاء إلى جماعة الشكوكيين من حيث أن مبدأهم ينطلق من الشك ورفض قبول الرواية الأولى، أو السائدة. لكن الفرق كبير بين الجماعتين، فالشك هو الذي طوّر مسيرة العلم والفلسفة، وهو الذي حمل الناس على أن يتحدثوا بلغة أكثر دقة وتحرزا، بينما أصابت نظرية المؤامرة أتباعها بلوثة فكرية وبتشتت الوعي لديهم، فانحرفوا عن طريق المعرفة.
يختلف الشكوكي عن المؤامراتي، فالشكوكيون المذهبيون لا يُثبتون أي شيء على الإطلاق، ويرون في هذا الانتحار المعرفي أفضل طريقة للعيش السعيد الخالي من المسؤوليات المترتبة على المعرفة، وبالتالي هم لا يهتفون بقصة ثانية يأتون بها من خيالاتهم كما يفعل المؤامراتيون. أما الشكوكيون المنهجيون فليسوا بسلبيين في مجال العلم ولا يقعون في الانتحار المعرفي الذي يقع فيه الشكوكي المذهبي، ولذلك فقد يخرجون بحقائق مخالفة للواقع الوقتي لكنهم لا يبنونها إلا على يقينيات فوق يقينيات كما قرر ديكارت، أي أن الشك عندهم وسيلة علمية للوصول إلى يقين لا شك فيه. وهذا يفصل بينهم وبين المؤامراتي، لأن طريقة هذا الأخير، وإن قامت ابتداء على الشك، لا تقوم على العلم ولا توصل إلى اليقين، بل سرعان ما يصبح دوغمائيا يؤمن بالخرافات وبأبعد القصص عن الحقيقة. مثالها الحاضر عندما تجده يصدّق بأن ترمب هو من استأجر الشاب مطلق النار بغرض رفع أسهمه في السباق الرئاسي، رغم أن كل عاقل يرى أن الرصاصة التي التهمت الشق العلوي من أذن ترمب كان من الممكن أن تنهي حياته للأبد لو انحرفت بمقدار سنتيمتر واحد أو أقل، وكل من يستخدم السلاح يعلم أن انحراف الطلقة شيء طبيعي نظرا الى حركة الرياح ومدى استقرار يد القناص وجسده.
المؤامراتي لا يستعرض جانبي القضية ولا يناقش الروايتين، بل يقدح في جانب واحد ويشكك في رواية واحدة
فرق آخر، أن الشكوكيين بكل أنواعهم يفحصون جانبي القضية، أي يستعرضون القصتين ويقارنون بين الروايتين ويضربون بعض المواقف بعضها ببعض، حتى يتجلى الحق أو يتجلى العجز. المؤامراتي لا يستعرض جانبي القضية ولا يناقش الروايتين، بل يقدح في جانب واحد ويشكك في رواية واحدة، أما جانب القضية الثاني أو الرواية الثانية التي عششت في ذهنه لأنها تتناغم مع ذهنية المؤامرات، فهذه لا يعرّضها للشك إطلاقا.
المصدر : https://www.majalla.com/node/321166/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%88%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9