محددات الرؤية المصرية لاستقرار القرن الأفريقي

تُولي مصر اهتمامًا كبيرًا بالقرن الأفريقي، نظرًا لموقعه الجغرافي الاستراتيجي، حيث يطل القرن الإفريقي على أحد أهم ممرات الملاحة الدولية في العالم وهو البحر الأحمر، الذي يُعد حلقة الوصل بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ بربطه بحر العرب، والمحيط الهندي، وخليج عدن، ومضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية بقناة السويس التي تمثل ممر استراتيجي مهم لمصر ولحركة التجارة الدولية حيث يمر من خلالها ما يقرب من 12% من التجارة العالمية. ونظرًا لأهمية المنطقة، نجد أن هناك مُرتكزات تتركز عليها الدولة المصرية في تفاعلاتها الخارجية صوب القرن الأفريقي، والتي تتمحور حول الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية. بالإضافة إلى ذلك، أن الدولة المصرية تنخرط في أزمات وقضايا المنطقة، لتحقيق عدد من المصالح الاستراتيجية، والتي يمكن بلورتها على النحو التالي: 

. ضمان استمرار تدفق مياه نهر النيلتحرص مصر  على الحفاظعلى حصتها المائية  التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، وهي مصلحة باتت مهددة بعدما قامت إثيوبيا ببناء سد النهضة على النيل الأزرق، وقامت بملئه 4 مرات بقرار فردي أغضب مصر والسودان، وقد أعلنت القاهرة انتهاء المسار التفاوضي مع إثيوبيا، نهايات العام الماضي، بعد 12 عاماً من التفاوض. وتعمل الدولة المصرية على حشد دول القرن الإفريقي لرفض السياسات الأحادية التي تقوم بها إثيوبيا عند قيامها بمشروعات على الأنهار الدولية، وحتمية الالتزام بمبدأ التعاون، والتشاور المسبق بين الدول المشاطئة، لضمان عدم التسبب في ضرر لأي منها، اتساقًا مع قواعد القانون الدولي ذات الصلة.

2. أمن البحر الأحمر:   يُمثّل أمن البحر الأحمر مسألة هامة في ضوء تزايد التوترات التي تشهدها بعض دول المنطقة، ولذا نجد أن الدولة المصرية حريصة على بناء توافق مع دول المنطقة للتأكيد على أن مسئولية الدول المشاطئة عند صياغة كافة السياسات الخاصة بذلك الممر المائي بالغ الحيوية، من منظور متكامل يأخذ في الاعتبار مختلف الجوانب التنموية والاقتصادية والأمنية. ويُحقق أمن البحر الأحمر لمصر مصالح حيوية إذ يتعلق الأمر بحركة الملاحة عبر قناة السويس.   ويساهم وجود تقار في الرؤى بين مصر ودول المنطقة حيال هذا الملف في تعزيز الأمن والاستقرار وحماية التجارة وحركة الملاحة بهذه المنطقة، والحيلولة دون سيطرة الجماعات الإرهابية على الممرات الملاحية وتهديد أمن الطاقة، والتصدي لأية محاولة من أطراف من خارج الإقليم لفرض رؤيتها على المنطقة.  واتصالًا بما سبق، قد تعرضت الملاحة في البحر الأحمر   في الآونةالأخيرة لتهديد في ضوء الهجمات الحوثية على السفن المارة من البحر الأحمر، وهو ما أثر على حركة الملاحة بقناة السويس وعائداتها، والتي شهدت انخفاضًا في عوائدها بنحو 46 بالمئة، كما نجد أن تصاعد التوتر في منطقة البحر الأحمر دفع الكثير من شركات الشحن الكبرى لتحويل مسار سفنها نحو طريق رأس الرجاء الصالح. ولذا، بذلت الدولة المصرية جهودًا حثيثة واتصالات مكثفة لمنع اتساع تأثير الهجمات الحوثية على الوضع في المنطقة بشكل عام، وحركة المرور في قناة السويس على وجه الخصوص.

3. مكافحة الإرهاب في القرن الإفريقي: تُعد حركة الشباب الصومالية أكبر فروع تنظيم القاعدة وأكثرها فتكًا في العالم؛ إذ صنف مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023 حركة الشباب كواحدة من أكثر الجماعات الإرهابية دموية في العالم. وهناك حرص من جانب الدولة المصرية لتقويض نشاط التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وهو ما تجلى في التنسيق المصري الصومالي لتدريب الضباط الصوماليين بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية. فالصومال بحاجة إلى الدعم المصري في الملف الأمني، نظرًا لتزايد هجمات حركة الشباب الإرهابية في الداخل الصومالي، ولذا فالتعاون بين البلدين سيساهم في بناء قدرات الأجهزة الأمنية الصومالية، بحيث تكون قادرة على مجابهة التحديات الأمنية. كما يُمكن للصومال الاستفادة من التجربة المصرية في محاربة الإرهاب التي لا تقتصر فقط على الجانب الأمني، إذ تتبنى مصر مُقاربة شاملة لمحاربة الإرهاب ترتكز على معالجة جذور الظاهرة، وتنشط مؤسسة الأزهر في هذا المجال؛ إذ تعمل المؤسسة على نشر مبادئ الإسلام الصحيحة، ودحض الأفكار المُتطرفة.

4. الحفاظ على التوازن الاستراتيجي: تسعى مصر إلى الحفاظِ على توازنٍ استراتيجي في دولِ القرنِ الأفريقي، بعيدًا عن هيمنة أي دولة أو قوى خارجية. وترتكز علاقات مصر مع دول المنطقة على أساس من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، وهو ما يمكن إبراز معالمه من خلال الزيارات الُمتبادلة بين القيادة السياسية المصرية وقادة دول القرن الإفريقي، فرصة هامة لاستعادة التأثير المصري في المنطقة، من خلال إقامة علاقات سياسية على أعلى المستويات، كما نجد أن الدولة المصرية حرصت على توقيع سلسلة من اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع عدد من دول المنطقة. بالإضافة إلى، الحرص المصري على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول القرن الأفريقي، من خلال التبادلِ التجاريّ والاستثمارِ المشترك، كما تعمل مصر على بناء روابط ثقافية مع دول المنطقة من خلال تبادل البعثات الثقافية والتعليمية.

 تُلقي الصراعات المتعددة في منطقة القرن الأفريقي بظلالها القاتمة على مختلف جوانب الحياة، تاركةً وراءها تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية وإنسانية وخيمة.  ونجد أن التطورات في منطقة القرن الأفريقي بشكل أو بآخر على المصالح المصرية، باعتبارها امتدادًا استراتيجيًا للدولة المصرية وأمنها القومي، ولذا سعت مصر للانخراط في الإقليم وقضايا دوله من إعادة التوازن للمعادلة الأمنية والسياسية، ويمكن استعراض الرؤى المصرية حيال أبرز أزمات منطقة القرن الأفريقي، وذلك على النحو التالي:

    1- الرؤية المصرية لحل الأزمة السودانية: تأثرت مصر بشكل كبير بالأزمة السودانية التي اندلعت في 15 أبريل 2023 ولا تزال مستمرة وآثارها آخذة في التمدد، خاصة مع ازدياد أعداد اللاجئين السودانيين الذين يفرون من الصراع والذين يشكلون عبئًا على الاقتصاد المصري المثقل. ونجد أنه لم يتمكن أي من طرفي الصراع في السودان من حسمه لصالحه، مما أدى إلى اتساع نطاقه وامتداد العنف، مما يهدد بتفاقم المعاناة الإنسانية. وفي هذا السياق، يمكن توضيح الرؤية المصرية لحل الأزمة السودانية، وذلك على النحو التالي:

  • الحياد: حرصت مصر على عدم الانحياز لأي طرف في الصراع، مما يجعلها وسيطًا مقبولًا من قبل جميع الأطراف، حيث تعاملت مصر مع الأزمة السودانية بموقف إيجابي منذ اندلاعها؛ إذ عملت على التواصل مع جميع أطراف الأزمة السودانية، وكذلك الاطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا، بهدف الوصول لرؤية مُوحدة لحل الازمة.
  • حماية ومساعدة الشعب السوداني: ففي أعقاب اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023، قدمت مصر مساعدات إنسانية للشعب السوداني. وشملت هذه المساعدات إرسال طائرات نقل عسكرية محملة بأطنان من المواد الغذائية والأدوية والمواد الطبية، وإرسال فرق طبية مصرية متخصصة لتقديم المساعدة للمتضررين من الصراع، وكذلك فتح مستشفيات مصرية أمام السودانيين المصابين في الصراع، بالإضافة إلى استقبال مصر للاجئين السودانيين وتوفير احتياجاتهم. وتأتي هذه المساعدات في إطار حرص مصر على دعم الشعب السوداني في هذه الظروف الصعبة. وكذا تبذل الدولة المصرية جهودًا في التواصل مع كافة الأطراف السودانية، لتسهيل وصول كافة المساعدات الإنسانية، وإقامة ممرات آمنة، لتوصيل تلك المساعدات، للمناطق الأكثر احتياجًا داخل السودان ووضع آليات، تكفل توفير الحماية اللازمة لقوافل المساعدات الإنسانية، ولموظفي الإغاثة الدولية لتمكينهم من أداء عملهم.
  • التركيز على الحل السياسيتدعو مصر الأطراف المتحاربة بوقف التصعيد، والبدء دون إبطاء، في مفاوضات جادة تهدف للتوصل لوقف فورى ومستدام، لإطلاق النار. وإطلاق حوار جامع للأطراف السودانية، بمشاركة القوى السياسية والمدنية، وممثلي المرأة والشباب يهدف لبدء عملية سياسية شاملة، تلبى طموحات وتطلعات الشعب السوداني في الأمن والرخاء والاستقرار والديمقراطية. وتسهم هذه الخطوات في إنهاء الصراع في السودان، والحفاظ على وحدة وسيادة الدولة السودانية، وتحقيق استقرار السودان، مما سينعكس إيجابًا على دول الجوار.
  • حشد دول الجوار: تسعى مصر إلى حشد دول الجوار التي لديها مصلحة في استقرار السودان للعمل على حل الأزمة، ولذلك سعت مصر إلى جمع دول الجوار السوداني لطرح رؤية جديدة لحل الأزمة السياسية، وذلك من خلال “مؤتمر قمة دول جوار السودان” الذي عُقد في القاهرة في 13 يوليو 2023. وقد تركزت مخرجات هذه القمة حول الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد للوضع الأمني والإنساني في السودان، والتأكيد على أهمية الحفاظ على الدولة السودانية ومقدراتها ومؤسساتها، وكذلك أهمية التعامل مع الأزمة الراهنة وتبعاتها الإنسانية بشكل جاد وشامل يأخذ في الاعتبار أن استمرار الأزمة سيترتب عليه زيادة النازحين وتدفق المزيد من الفارين من الصراع إلى دول الجوار، بالإضافة إلى الاتفاق على تسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية المقدمة للسودان عبر أراضي دول الجوار.

2- انتهاك السيادة الصومالية: تعمل إثيوبيا على زعزعة استقرار الدولة الصومالية بتوقيعها مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي في يناير 2024، ونجد أن أهم البنود التي تضمنتها مذكرة التفاهم تتمحور حول تخصيص إثيوبيا منطقة ساحلية على ساحل أرض الصومال بمساحة 90 كم مربعًا لاستخدامها كميناء تجاري وقاعدة بحرية، واستئجار إثيوبيا لميناء بربرة الواقع على ضفاف خليج عدن، وإنشاء خط سكة حديد يربط بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، وإنشاء خط أنابيب نفط يربط بين إثيوبيا وميناء بربرة. وقد أثارت تلك الخطوة غضب دول القرن الأفريقي، على اعتبار أن الاتفاقية تُعد انتهاك لسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية، فقد اعتبرت الحكومة الصومالية مذكرة التفاهم بأنها غير قانونية، وتُعد انتهاكًا لسيادتها على إقليم أرض الصومال، كما تخشى بعض الدول من أن تؤثر الاتفاقية على مصالحها الإقليمية، خاصةً في مجال التجارة والملاحة البحرية.

وفيما يتعلق بموقف مصر، فقد أوضحت موقفها بشأن اتفاقية الوصول إلى البحر بين إثيوبيا وأرض الصومال، مؤكدة على ضرورة احترام وحدة الصومال وسلامة أراضيه. وفي 20 يناير2024، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الرئيس محمود لزيارة القاهرة، وتعهد بالدفاع عن الصومال إذا طلب منه ذلك.  كما وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا أكدت فيه ضرورة الاحترام الكامل لسيادة الصومال وحقه في استغلال موارده. ويعكس هذا التركيز على سلامة أراضي الصومال قلق مصر بشأن عدم الاستقرار الإقليمي المحتمل الذي قد ينشأ عن الاتفاق. تم اتخاذ خطوات مهمة في سبيل تعزيز التقارب بين مصر والصومال، وهو ما اتضح في الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لمصر في العشرين من يناير 2024، وساهمت هذه الزيارة في تبادل الآراء حيال القضايا ذات الاهتمام المشترك، لا سيما الاتفاق الإثيوبي مع إقليم أرض الصومال؛ إذ حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من المساس بمصالح الصومال، كما شددت القيادة المصرية على الدعم المصري لسيادة ووحدة الأراضي الصومالية.

خلاصة القول، لقد كان للتحديات الكبرى التي تمر بها منطقة القرن الأفريقي، أن جعلت الدولة المصرية تعمل على بناء رؤية استراتيجية مصرية للتعامل مع القضايا المُركبة في المنطقة، كما نجد أن التحركات المصرية ليست قاصرة على مجرد السعي لحل أزمة سد النهضة، وإنما هي أعمق وأبعد من ذلك، حيث تهدف إلى استقرار حركة الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، وتقويض نشاط التنظيمات الإرهابية، وإعادة التوزان الاستراتيجي للمنطقة بما يخدم المصالح الإقليمية والمصرية.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/46452/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M