تنطلق الدراسة من جائحة كورونا للنظر في كيفية تعاطي الإعلام مع الأزمات العالمية في عصر رقمي تتدفق فيه المعرفة بوتيرة لم يشهدها العالم من قبل. وتلاحظ أن هذه الأزمة كشفت الثقوب التي تعتري جسد العمل الإعلامي الذي رسَّخ أولويات تجعل السياسي يتصدَّر الاقتصادي والاجتماعي والصحي. وترى أن التحديات التي واجهتها البشرية في صراعها المستدام للحفاظ على استمرارية الحياة، من خلال مكافحة الأمراض وتجنب الأوبئة والجوائح، تستحق جهدًا تواصليًّا إعلاميًّا أكثر فعالية، تجنبًا لتكرار المآسي الناتجة عن الاستهانة بالمعرفة الإنسانية المتراكمة التي يندر أن تجد طريقها إلى التغطية الإعلامية.
ومن خلال الملاحظة الاستكشافية للشبكة البرامجية لبعض القنوات الفضائية الإخبارية، رصدت الدراسة قلَّة اهتمامها بالبرامج والأخبار التي تتناول صحة الإنسان باعتبارها أساس كافة الأنشطة، لأن ترتيب الأولويات لدى تلك القنوات لا يشمل العناية بالصحة وتثقيف الإنسان حتى يحافظ على نعمة الصحة والعافية وينطلق منها إلى تحقيق التطور والتنمية المستدامة. ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون وسائل الإعلام قد قامت بدورها في تثقيف المتلقي بكافة الأمور الصحية ويكون مستعدًّا -معرفيًّا ومهاريًّا- للتعاطي مع أية أزمة صحية، نجدها تتهافت على نقل أخبار آثار أزمة كبرى حلَّت بالعالم أجمع مثل جائحة كورونا، بعد أن استحكمت ولم تترك مجالًا للندم. علمًا بأن كافة العلوم التي تدرِّس الأزمات تقول: إن “الوقاية خير من العلاج”.
إشكالية الدراسة وأهدافها
وفي هذا السياق، تحاول الدراسة التي أعدَّها الأكاديمي محمد الأمين موسى، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة قطر، استكشاف المحددات التي تقوم عليها تغطية القنوات الفضائية الإخبارية -باعتبارها في مقدمة الإعلام الجماهيري واسع الانتشار- لجائحة كورونا، وقد لاحظ الباحث أن هذه التغطية يطغى عليها الجانب الكمي والتناول التثقيفي، وكأن هذه القنوات تعمل من خارج سياق هذه الجائحة ولا تتأثر بها، بل ترصدها مثلها مثل كافة الأحداث التي تتصدَّر الأجندة الإعلامية. وهي تغطية تلفت النظر إلى إهمال الإعلام لتوعية البشرية وإرشادها لتجنُّب المخاطر التي تُحْدِق بها، وعلى رأسها المخاطر الصحية. وكأن القنوات الفضائية -من خلال تغطيتها للجائحة- تسعى لتعليم الجماهير السباحة أثناء غرق السفينة.
وتكتمل الإشكالية بإغراق المشهد الإعلامي من لدن رواد الإعلام الجديد الذين وجدوا في شبكة الويب بصفة عامة، وشبكات التواصل الاجتماعي بصفة خاصة، فضاءات رحبة لإلقاء الرسائل التواصلية المتعلقة بجائحة كورونا، والتي يختلط فيها الغَثُّ بالسمين لينعكس الأمر على سلوك الناس خبطًا عشوائيًّا وتداولًا لمعرفة غير علمية لا يتسع المقام لنقدها وتقويمها.
وتهدف هذه الدراسة إلى:
- التعرف على استراتيجيات الفضائيات الإخبارية وأساليب تغطية الأزمة في سياق جائحة كورونا.
- التعرف على واقع الإعلام الصحي في الإعلام التقليدي مُمَثَّلًا في بعض الفضائيات الإخبارية.
- استكشاف أبرز محددات التغطية الإعلامية لجائحة فيروس كورونا لدى بعض الفضائيات الإخبارية.
- لفت الانتباه لأهمية الإعلام الصحي الفعَّال ودوره في تجنيب البشرية ويلات الجوائح والأوبئة.
- حثِّ الفضائيات الإخبارية وبقية وسائل الإعلام واسعة الانتشار على التعاطي مع الإعلام الصحي بكيفية تضعه في مقدمة الأجندة الإعلامية.
- إبراز التمايز النوعي بين الفضائيات الإخبارية المشمولة في عيِّنة الدراسة في تغطيتها لجائحة فيروس كورونا.
وتهتم الدراسة بالكيفية التي تغطي بها القنوات الفضائية الإخبارية جائحة فيروس كورونا باعتبار أن أخبارها فرضت أهميتها على أجندة كافة وسائل الإعلام؛ الأمر الذي يقتضي التمايز بينها وفقًا لاستعدادها وإمكانياتها المادية والبشرية. ومن بين مجتمع الفضائيات الإخبارية اختار الباحث عيِّنة قصدية تشمل أربع قنوات، وهي: قناة “سي إن إن” (CNN)، و”فوكس نيوز” (Fox News) الأميركيتين؛ وقناة “العربية”، وقناة “سكاي نيوز عربية”. ويأتي اختيار هذه القنوات، لكونها قنوات تليفزيونية إخبارية تتوفر على إمكانيات (مالية وبشرية) تجعلها تُبَثُّ على نطاق واسع وتخاطب جمهورًا ينتشر في شتى بقاع العالم، وهذا يتلاءم مع طبيعة جائحة فيروس كورونا.
وتجري هذه الدراسة في خضم جائحة فيروس كورونا بعد أشهر من انطلاقها كوباء تفشَّى في إقليم خوبي الصيني لتواكب أسابيع من تغطية الفضائيات الإخبارية لها خلال عام 2020. كما أن الدراسة تنظر في أرشيفات مقاطع الفيديو ذات العلاقة بالإعلام الصحي التي تُحمِّلها القنوات المدروسة في حساباتها في اليوتيوب، والتي يعود بعضها لسنوات، قصد استكشاف مدى اهتمام هذه القنوات بالإعلام الصحي.
أزمة إعلام الأزمات وواقع الإعلام الصحي
في إطار المدخل النظري الذي يُؤَسِّس لفهم علاقة الإعلام بالأزمات والأدوار الإخبارية والتعليمية والإقناعية المنوطة بوسائله لاحتواء آثارها وتداعياتها، لاحظ الباحث أن هناك مفارقة كبرى تتعلق بإعلام الأزمات فيما يخص النظرية والتطبيق. فعلى المستوى النظري، يمكن تعريف إعلام الأزمة بأنه “الممارسة الإعلامية الملازمة لتخليق الأزمة، والهادفة إلى الحيلولة دون اكتمالها، من خلال نشر الرسائل الإعلامية الهادفة إلى التثقيف والتوعية بمخاطرها وشرح السيناريوهات الكفيلة بتفاديها”. بينما تبدو الممارسة الفعلية لإعلام الأزمات في شكل “تغطية صحافية مواكبة للأزمات ومراحل تطورها وآثارها على الجهات المستهدفة”. أي إن إعلام الأزمة -نظريًّا- هو ممارسة وقائية مستدامة تتغيَّا تربية المتلقين على تفادي وقوع الأزمات عبر الممارسات السليمة، بالإضافة إلى حسن التصرف عندما تحلُّ أزمة خارجة عن السيطرة. بينما إعلام الأزمة الفعلي -كما يبدو في الممارسة ويتجلى الآن في أزمة كورونا- يبدو أكثر تخبطًا وهو يلهث وراء تغطية الأزمة بغرض التقليل من أضرارها ويختفي باختفائها إلى أن تحلَّ أزمة جديدة، وهكذا دواليك.
وهنا، تتجسَّد أزمة إعلام الأزمات في التعامل مع الأزمات باعتبارها أحداثًا عادية تتم تغطيتها أثناء أو بعد حدوثها، أو باعتبارها ظواهر تستوجب التغطية بعد أن تتشكَّل وتظهر وتستفحل، فتكون الحصيلة ملازمة للأزمة والصيرورة جزءًا منها. وهذا يتناقض مع الدور التواصلي الطليعي للإعلام، أو على الأقل يحجِّمه في زمن تمر فيه المعرفة الإنسانية بمأزق الفوضى الناتجة عن سهولة الإلقاء واختلاط الأخبار الصحيحة بالأخبار الكاذبة والإشاعات، وامتزاج العلم الحقيقي بالعلم الزائف.
وعند النظر في واقع الإعلام الصحي الذي يتناول الحياة اليومية للإنسان ويفترض أن يسعى إلى تحسينها من خلال تقليل الإصابة بالأمراض الناجمة عن سوء استخدام الإنسان للموارد أو سوء التعاطي مع البيئة المحيطة والتمسك بالعادات النفسية والجسدية والاجتماعية والثقافية السيئة صحيًّا، اعتبر الباحث أن الإعلام المعاصر فشل في تطوير خطاب إعلامي صحي فعَّال قادر على الوصول إلى كافة فئات الجمهور والتأثير فيها. كما أن هناك قصورًا في الإعلام التليفزيوني بشأن تقديم برامج صحية تجذب المتلقي -مثلما تفعل البرامج الرياضية وبرامج الطبخ على سبيل المثال لا الحصر- وتُؤَسِّس لثقافة صحية مستدامة. من جانب آخر، فشلت المؤسسات الإعلامية في استقطاب إعلاميين محترفين قادرين على التعاطي مع المحتوى الصحي، أو استقطاب مختصين في المجال الصحي قادرين على تقديم المحتوى الصحي بمهنية وفعالية عالية.
ويُفسِّر الباحث هذا القصور بأن الإعلام الصحي الفعَّال ليس مجرد أخبار عن اكتشافات دوائية أو نجاحات في اختراع أجهزة طبية أو نقلات نوعية في مجال الجراحة، بل هو اشتغال يومي مستدام في التوعية والتثقيف الصحيين والتربية الصحية القائمة على حسن الطعام وحسن الحفاظ على البيئة وحسن تأهيل الجسد واستخدامه في الأنشطة المختلفة، فضلًا عن التخلي عن العادات الضارة بالجسد والنفس والمجتمع. ولا تحتاج فعالية الإعلام الصحي سوى إدراك أهميته وخطورة غيابه والاتعاظ بتجارب الماضي واستيعاب اقتصاديات الصحة التي تفوق أي اقتصاديات: فلا اقتصاد عند موت الإنسان أو عجزه عن العمل (والإجراءات التي اتخذتها جلُّ دول العالم والتي قضت بالعزل الصحي وتوقف عجلة الاقتصاد بسبب تفشي فيروس كورونا، خير مثال على أثر الصحة في الاقتصاد).
محددات التغطية الإخبارية لجائحة كورونا
في ضوء هذا المدخل النظري والإشكالية التي تبحثها الدراسة والأهداف التي تسعى إليها عبر استكشاف أساليب ومحددات التغطية الإخبارية لجائحة كورونا في القنوات الفضائية/عينة الدراسة، فإن أبرز المحددات التي رصدها الباحث من خلال تغطية “سي إن إن” للوباء، والتي كان عملها أشبه بحالة الطورائ الإعلامية، جاءت كما يلي:
- التركيز على التغطية الشاملة والمستمرة للجائحة باعتبارها حدثًا لا مثيل له يمر به العالم والإعلام المعاصر.
- اعتماد ما يشبه “حالة الطوارئ الإعلامية” التي تسخِّر كافة إمكانيات القناة التحريرية لتغطية الجائحة (ويظهر ذلك جليًّا في جهود أقسام الإعداد والفيديوغرافيك والمونتاج والإخراج).
- توفير البيانات الرقمية الدالة وتوظيفها في التساؤل والتحاور والحجاج والتقارير، وإتاحتها أيضًا كبيانات خام سهلة التلقي.
- التركيز على الجانب الإنساني المتعلق بظروف العاملين في المجال الصحي، وتقديمهم كمحاربين في الجبهة الأمامية مدافعين عن الأمة، والمشاعر التي تعتري من فقدوا ذويهم أو من تعافوا من المرض، والحالة النفسية التي يعيشها الناس جرَّاء الخوف من الجائحة أو البقاء الإجباري في المنازل مرفوقًا بالبطالة أو العمل من المنزل.
- الاهتمام بتصريحات المسؤولين والتعامل معها نقديًّا من خلال مقابلتها بتصريحات الخبراء والعلماء، خاصة تصريحات الرئيس الأميركي المثيرة للجدل.
- الاهتمام بالآثار الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية للجائحة وتوقعات مستقبل العالم من حيث الأنظمة السياسية والعلاقات الدولية والتنمية.
- التأقلم السريع مع قوى الجائحة التي فرضت على الناس التباعد الاجتماعي والبقاء في المنازل، فهيَّأ بعض صحافييها ومراسليها أستوديوهات منزلية خاصة بهم، واستعانوا بتطبيقات التواصل المرئي-المسموع عبر الإنترنت (كسكايب والويبكس).
وخلافًا للتغطية الإعلامية المكثفة لجائحة كورونا في الولايات المتحدة التي ظهرت في أداء قناة “سي إن إن”، فإن التغطية الإخبارية لـ”فوكس نيوز” غلبت عليها الجوانب السياسية المرتبطة بالجائحة، بل لاحظت الدراسة أن القناة “سَيَّسَتْ” تغطيتها للجائحة سواء من خلال الدفاع عن سياسات الرئيس دونالد ترامب تجاه الأزمة أو مهاجمة الأصوات التي تهاجم هذه السياسات أو تقلِّل من شأنها. ويمكن إجمال أبرز المحددات التي انعكست على تغطية قناة “فوكس نيوز” لجائحة فيروس كورونا في الآتي:
- تقديم الأجندة السياسية على الأجندة الصحية أثناء تغطية جائحة فيروس كورونا داخل الولايات المتحدة، علمًا بأنها ترافقت مع سنة الانتخابات الأميركية، ومساعي الرئيس دونالد ترامب لإعادة انتخابه. وتمثَّلت هذه الأجندة في ردود الأفعال التي تقوم بها القناة من خلال برامج الرأي والاستضافة في البرامج الإخبارية لمن يدافع عن قرارات حكومة ترامب.
- مقاومة التوجهات الداعية إلى مزيد من الحجر الصحي، ومن ثم تعطيل الحركة الاقتصادية بحجة الحد من تأثيرات فيروس كورونا على حياة الأميركيين، على خلفية الارتباط الإيجابي بين قوة الاقتصاد ونجاح إدارة ترامب. وهنا تبرز القناة وتدعم كل التوجهات والآراء التي توفِّق بين استمرارية الحياة الاقتصادية وتَجنُّب آثار الوباء الصحية الضارة.
- ضعف الإعلام الصحي الذي يفترض أن يكون في قمة نشاطه وأدائه أثناء هذه الجائحة، مقارنة بما يحدث في تغطية قناة “سي إن إن”. وهذا مرتبط بالسياسة التحريرية التي تقاوم الحقائق والآراء وتحذِّر من مخاطر الجائحة وتدعو إلى التصدي لها بحزم دون الدخول في حسابات اقتصادية تقارن بين تكلفة الجائحة والتكلفة الاقتصادية لمواجهتها.
- الاهتمام بالجانب الكمي من خلال نشر آخر التحديثات في مجال جائحة كورونا على الصعيد الداخلي والخارجي، والاهتمام بالآثار الاقتصادية على الأسواق المالية ومعدلات البطالة والمخصصات المالية التي وفرتها الحكومة الفيدرالية لمواجهة تداعيات الأزمة وتوفير المستلزمات الطبية العاجلة.
- المواكبة المرنة لتطورات جائحة فيروس الكورونا في الولايات المتحدة بغضِّ النظر عن المواقف السابقة التي لم تستشرف المستقبل القريب وإمكانية أن تصبح الولايات المتحدة بؤرة تفشي الفيروس فتفوق بقية دول العالم في أرقام المصابين. على الرغم من أن هذه المواكبة لم تغير من السياسة التحريرية الهادفة إلى تقديم الجانب السياسي على الجانب الطبي عند تناول شؤون الجائحة.
أما السمة العامة لتغطية قناة العربية لفيروس كورونا مقارنة بالقناتين الأميركيتين، فهي تعامل قناة العربية مع مرض فيروس كورونا باعتباره جائحة في المقام الأول (أي أن التركيز يشمل كافة بقاع العالم خاصة بؤر التفشي وليس على بلد مقر القناة)، بينما تتعامل القناتان الأميركيتان مع الفيروس باعتباره وباء تفشى في الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول بالإضافة إلى تمظهراته كجائحة تعمُّ العالم بأسره. وانطلاقًا من هذا التوجه في التغطية، فإن تغطية القناة للجائحة تبدو عالمية وتثقيفية أكثر منها محلية منغمسة في التفاصيل. فجلُّ الأخبار الواردة عن الدول العربية مستقاة من التصريحات الرسمية لتلك الدول، الأمر الذي يجعل تعرُّف المشاهد العربي على تفاصيل الوباء في بلده غير متوفر، وهذا ينسجم مع الأنظمة الإعلامية العربية التي تختلف فيها حرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومات عن غيرها من الأنظمة الإعلامية السائدة في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية.
ومن أبرز محددات تغطية العربية لجائحة كورونا، أخذًا في الاعتبار جمهورها الناطق باللغة العربية، وهي:
- التغطية الشاملة للجائحة من حيث الكم والكيف، باعتبارها المتصدر للأجندة الإعلامية والسياسية والاقتصادية في كافة بقاع العالم. ولكنها تغطية غير متعمِّقة في بلد بعينه أو منطقة بعينها (كالعالم العربي)، بل تبدو أكثر ميلًا للتثقيف وتعريف المشاهد بيوميات الجائحة على صعيد العالم بأكمله.
- غياب الإعلام الصحي المتجذِّر الذي يُكسِب القناة تميُّزًا على مستوى التحرير وانتقاء القصص الإخبارية واختيار زوايا المعالجة التي تحيل الوسيلة الإعلامية إلى فاعل رئيس في الأزمة، يعتمد عليها المشاهد في الجوانب الإخبارية والإرشادية والتعليمية، على الرغم من استعانة القناة بخبراء مؤقتين في المجال الصحي للتعاطي مع تساؤلات الجمهور.
- الاعتماد على السلطات الرسمية في البلدان العربية كمصادر للمعلومات بخصوص وباء فيروس كورونا في تلك البلدان دون السعي لاستقاء المعلومات من الواقع، أو مساءلة التصريحات والإجراءات الرسمية لمعرفة الحقيقة أو سلامة الإجراءات وتناسبها مع حجم الوباء وآفاقه المستقبلية مقارنة بما حدث ويحدث في البلدان التي تفشى فيها الوباء.
- محدودية الانفعال الإنساني مع الجائحة استنادًا إلى محدودية انتشار الوباء في العالم العربي مقارنة بالصين وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وكأن الوباء أمر خارجي، علمًا بأن هناك عددًا كبيرًا من أفراد الجاليات العربية الذين يعيشون في البلدان التي تفشى فيها الوباء، وأن بلدان العالم العربي ليست محصنة من انتشار الوباء إذا لم يؤخذ الأمر بالجدية اللازمة التي تنظر إلى العالم كقرية واحدة، وأن جائحة كورونا تنشر الحزن في كافة أرجاء المعمورة وسوف تترك آثارًا اقتصادية صعبة تلحق بالجميع.
- جعل الجائحة في صدارة الأجندة، من خلال تعديل البرمجة لزيادة حجم التغطية وإنتاج برامج جديدة أو فقرات جديدة أو تخصيص حلقات من برامج قائمة لتناول الجائحة، أو افتراع صفحات جديدة في موقع القناة عبر الويب تضم مستجدات الجائحة.
وتأتي تغطية قناة “سكاي نيوز عربية” لجائحة فيروس كورونا كتجسيد لإعلام الأزمات الذي يقتضي ترتيبات جديدة على مستوى الأجندة وتغييرات في البرمجة إلى أن تزول الأزمة، تماشيًا مع دور الإعلام في التفاعل مع الأحداث والسعي لجذب الجمهور. وهنا، تبدو المحددات التي تحكم طبيعة التغطية وفعاليتها أكثر عمومية وأقرب إلى ضرورة القيام بالواجب دون بحث عن تميُّز يُحدث فارقًا في نظرة الجمهور للقناة، لأن الفارق في هذه الأزمة ذات الطابع الصحي يأتي من وجود الإعلام الصحي المستدام الذي يُهَيِّئ الجمهور لمثل هذا اليوم الاستثنائي في تاريخ البشرية الحديث. ومن أبرز المحددات التي أوردتها الدراسة:
- تقديم التغطية العالمية لفيروس كورونا باعتباره جائحة على التغطية المحلية باعتباره وباء. وهذا المحدد ينعكس على محتوى التغطية التي تتساوى فيها بقية البلدان العربية ببلد المقر وبؤر تفشي الفيروس في مختلف بلدان العالم. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه تسمية “البث التثقيفي” الذي يقدِّم محتوى إعلاميًّا لا يستهدف جمهورًا بعينه، خاصة في ظل وباء يؤثر في الجميع مع وجود اختلافات ثقافية وبيئية وتنظيمية.
- تتخذ التغطية طابع إعلام الأزمة، لأنها اشتدت بعد أن تفاقمت الجائحة وأثرت على السياسة والاقتصاد العالميين وانتقلت الإجراءات الاستثنائية إلى داخل العالم العربي، أي إن القناة لم تقم بدور فعَّال -خاصة على مستوى الإعلام الصحي- في تهيئة الجمهور للاستعداد للوباء عندما كان يضرب الصين (منشأ الفيروس) وينتقل إلى البلدان الأخرى. أي إن التغطية ليست امتدادًا لاهتمام القناة بالإعلام الصحي الذي يفترض أن يقود التغطية في الظروف الحالية.
- تحويل الجائحة إلى صدارة الأجندة الإعلامية من خلال تصدر الأخبار، وانشغال البرامج الراتبة بالجائحة وآثارها، وإنتاج برامج جديدة خاصة بالجائحة.
- الجمع بين التغطية الكمية والنوعية في إطار تقديم أكبر قدر من المعلومات المتعلقة بالجائحة.
- الاعتماد على الجهات الرسمية في العالم العربي فيما يتعلق بالبيانات والمعلومات الخاصة بالوباء، دون التعمُّق في تحليلها أو مساءلتها بحكم التوجه التثقيفي العام الذي لا يركز على بلد بعينه، أو يهتم بالوصول إلى الحقيقة من خلال المصادر الخاصة.
متطلبات التغطية الإخبارية الفعَّالة للأزمات
ترى الدراسة -من خلال تحليلها لتغطية جائحة كورونا في الفضائيات الإخبارية/عينة البحث- أن تحديات الأزمات وتداعياتها، التي قد تشلُّ الحياة، تفرض على وسائل الإعلام القليدية-المتجددة إعادة النظر في المحددات التي تستند إليها عند تغطية هذه الأزمات لكي تصبح فاعِلة في تجنيب البشرية إمكانية تكرار مثل أزمة جائحة كورونا. وقد رصد الباحث مجموعة من المحددات ومتطلبات التغطية الإخبارية الفعَّالة، ومنها:
- تغطية الجوائح والأوبئة الصحية يجب ألا تكون تغطية أزمة، أي تغطية لاحقة، بل تغطية مستدامة مستمرة تتغيَّا تَجنُّب حدوث أية جائحة أو وباء. وهذا يقتضي أن ينهض الإعلام بدور رئيس وفعَّال في المجال الصحي -مهما كلَّف الأمر على الصعيد المالي- ليُجنِّب البشرية تبعات وويلات تفشي الأمراض التي تستطيع أن تهزم الأنظمة الصحية الوطنية والدولية.
- الاعتبار من هذه الجائحة المعاصرة في أهمية الصحة في حياة الناس، وأن الأمراض يجب أن تكون العدو الذي يوحِّد الجميع في سبيل مكافحته ومحاربته بالعلم والإعلام وكافة أشكال التواصل (الإنساني والآلي).
- أولوية وجود إعلام صحي مستدام ضمن محتوى كل قناة فضائية يوكل أمره لأفضل العناصر البشرية التي تجمع بين المعرفة والمهارات والتكوين في المجالين الصحي والإعلامي، بل يجب البحث عن تكوين يدمج بينهما. الإعلام الصحي -بهذا المفهوم- لا يمكن أن يكون نافلة أو موسميًّا أو تزيينيًّا، بل أساسًا للعمل الإعلامي تستند إليه كافة المجالات التي يهتم بها المحتوى الإعلامي.
- تمضي شبكات التواصل الاجتماعي نحو الهيمنة على اهتمامات المتواصلين من حيث النشر والتلقي والتفاعل، لذا على وسائل الإعلام التقليدية -وفي مقدمتها القنوات الفضائية- أن تستغل هذه الشبكات في نشر محتوى إعلامي صحي محترف يتلاءم مع الخصائص التواصلية لهذه الشبكات؛ حيث إن لكافة القنوات الفضائية حسابات عبر شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام…) ولكنها في الغالب تُستغل للترويج لبرامج القناة، بدلًا من أن تقدم محتوى خاصًّا بمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.
- عندما تضطر القنوات الفضائية لتغطية الجوائح والأوبئة، عليها أن تأخذ الأمر بالعزم اللازم وتعقد الشراكة الفاعلة مع الجهات المعنية لإعلام الناس بما يجب أن يعرفوه بعيدًا عن الإرباك والنشر غير المسؤول والمفتقر لأخلاقيات المهنة الذي قد يجد طريقه إلى شبكات التواصل الاجتماعي. وعليها أن تبيِّن عن سلطة معرفية متراكمة تجعلها مؤهلة لتقديم الإرشادات وممارسة التواصل الإقناعي، ولا تكتفي بتسليط بعض الأضواء على ما يدور في المجتمع وتنشغل بما لا فائدة فيه.
- الاهتمام بالتكوين الإعلامي المختص في المجال الصحي في المعاهد والكليات الإعلامية، وتقديم برامج على مستوى الدراسات العليا يمكن أن يلتحق بها المختصون في مجال الصحة والطب؛ وهذا سيشكل رافدًا لإعلام صحي فعَّال ومستدام.
- ضرورة إنفاق المؤسسات الإعلامية -وفي مقدمتها الفضائيات الإخبارية- على التكوين المستمر للإعلاميين المنتمين إليها في مجال الإعلام الصحي، بل وإنشاء أقسام الإعلام الصحي –كما هي حال الأقسام الرياضية وغيرها- وتأهيلهم للقيام بدور المراسل وتحرير المحتوى الصحي وفق استراتيجية تهدف إلى تأسيس إعلام صحي محترف ومضطلع بأدواره الحيوية.
وخلصت الدراسة إلى أن التغطيات الإخبارية لجائحة كورونا، في بعض القنوات الفضائية، كشفت مدى اهتمام الإعلام المعاصر بالجانب الصحي للمجتمع، وأهليته لكي يتصدَّر الأجندة الإعلامية. فالوباء الذي اجتاح العالم بأسره اجتاح بدوره وسائل الإعلام وأرغمها على تغيير أجندتها عندما رأت كيف أن فيروس كورونا يلحق الخسائر بالحكومات والمؤسسات والاقتصادات والأفراد، فأصبحت الأخبار والتقارير تنهمر دون استراتيجية تواصلية مستدامة بُنيت على إدراك عميق لأهمية التواصل الصحي الفعَّال الذي يحول دون تفشي الأوبئة وحدوث الجوائح المدمرة. إنها تغطيات مكثفة تصلح لأزمة عابرة سرعان ما تزول ويعود كلٌّ إلى سابق عهده.
ونبَّهت الدراسة إلى أن وسائل الإعلام المعاصرة يجب أن تأخذ العبرة من تجربة تغطيتها لجائحة فيروس كورونا، وتعيد النظر في فهمها وتعاطيها مع الإعلام الصحي حتى لا تتكرر مثل هذه الجائحة في عصر تدَّعي فيه البشرية أنها خطت خطوات متقدمة في النمو والتطور بينما يصعب عليها الاستعداد لمخاطر تهددها منذ القِدَم، وتكرر أخطاءها التواصلية. وعلى وسائل الإعلام المعاصرة أن تنبِّه المجتمعات وقياداتها إلى أهمية الإعلام الصحي والفوائد المطلقة التي تأتي من قِبَله، وأن ما يُنْفَقُ عليه لا يُقاس بما قد ينتج عن غيابه أو إهماله.
كما أن الفضائيات الإخبارية وغيرها من وسائل الإعلام مدعوة للاستثمار في مجال الإعلام الصحي، من خلال تعزيز مواردها البشرية بأفضل الكوادر الفاعلة في المجالين الصحي والطبي، وتوفر لهم الإمكانيات اللازمة لتقديم إعلام صحي يقود البشرية إلى مستقبل خال من الجوائح والأوبئة التي يجني بها الإنسان على نفسه جهلًا أو تجاهلًا للسلوك الصحي القويم.
للاطلاع على الدراسة كاملة (اضغط هنا)
رابط المصدر: