تستمر التوترات على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب في غزة عقب 7 أكتوبر 2023، وتتصاعد نبرة التصريحات المتبادلة بين الطرفين بالتصعيد على الجبهة اللبنانية، فضلًا عن تهديد إسرائيل لحزب الله بتدمير لبنان، بالإضافة إلى الرد الإيراني المرتقب على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية” في طهران في 31 يوليو 2024، وذلك بعد مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان”، وقد سبق ذلك اغتيال القائد في حزب الله “فؤاد شكر”. الأمر الذي أثار تخوفات الأطراف الإقليمية والدولية من إشعال جبهة لبنان، وتبعات ذلك على المنطقة برمتها.
من ناحية أخرى، توجد محددات حاكمة للمشهد في الجبهة اللبنانية منها؛ محددات داخلية تتعلق بالأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها الدولة، وحالة الفراغ الرئاسي التي تعيشها منذ أكتوبر 2022، فضلًا عن تراجع شعبية حزب الله، وعدم رغبة بعض الأحزاب والقوى والكيانات اللبنانية في الانجرار إلى مسار الحرب، فضلًا عن تخوف حزب الله من أن تشهد بيروت وضواحيها المسار ذاته على غرار غزة. كذلك توجد محددات خارجية تتعلق بمواقف الأطراف الإقليمية والدولية الرافضة لتحول لبنان إلى ساحة للحرب، وتراجع الدعم الاقتصادي الإقليمي للبنان، والموقف الإيراني من الحرب، علاوة على الموقف الإسرائيلي الذي يُثير استفزاز إيران وحزب الله بين حين وآخر، ورغبة بعض القيادات الإسرائيلية في غزو لبنان بريًا لدفع حزب الله بعيدًا عن الحدود. ضمن هذا الإطار يناقش التحليل المحددات الداخلية والخارجية الحاكمة لخيار اندلاع الحرب في الجبهة اللبنانية.
أولًا: محددات داخلية
يمكن الإشارة إلى المحددات الداخلية الحاكمة لفكرة إشعال الجبهة اللبنانية على النحو الآتي:
1-الموقف اللبناني: يوجد رفض داخلي لبناني لفكرة خوض حرب مع إسرائيل على المستوى الرسمي أو الأحزاب السياسية اللبنانية، وقد عكست تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال “نجيب ميقاتي في يونيو الماضي” بأن بلاده تسعي بكل الوسائل ألا تصبح ساحة للنزاعات المسلحة انطلاقًا من الجنوب”. كذلك عكست كلمات وزير الخارجية اللبناني “عبد الله بوحبيب” في 6 أغسطس 2024 في اجتماع مع وزير الخارجية المصري “بدر عبد العاطي” الموقف اللبناني الرسمي الرافض لاندلاع الحرب، والاتجاه إلى التشاور مع حزب الله بشأن الرد المناسب بعد اغتيال ” هنية” حتى لا تتسع الحرب. قائلًا “إننا نعمل على ألا يؤدي أي رد فعل إلى حرب شاملة، وهذا لن يفيد أي دولة، أو إسرائيل”.
كذلك يعارض زعيم التيار الوطني الحر “جبران باسيل” الحليف التقليدي لحزب الله فكرة الحرب، كما حذر حزب القوات اللبنانية برئاسة “سمير جعجع” من سيناريو دفع لبنان إلى الحرب بما يؤثر في كيان الدولة، وانتقد جعجع إعلان حماس إنشاء وحدة قتالية في لبنان واعتباره تحديًا لسيادة الدولة. كذلك توالت التحذيرات من جانب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي “وليد جنبلاط” من دفع لبنان إلى مواجهة مع إسرائيل. بينما دعم رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري”، وزعيم حركة أمل حق لبنان في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، توجد حالة من الغضب والاحتقان الشعبي في لبنان نتيجة تراجع مستوى الخدمات الأساسية؛ ومنها المياه، والكهرباء، وخدمات الإنترنت، والرعاية الصحية، بالإضافة إلى عدم الثقة في النخبة السياسية اللبنانية نتيجة الأزمات المتتالية التي تعاني منها الدولة. وفقًا لاستطلاع مؤسسة الباروميتر العربي في سبتمبر 2023 فإن تسعة من كل عشرة من العينة الذين أجري عليهم الاستطلاع، لا يثقوا في الحكومة أو البرلمان، و94% غير راضين عن أداء الحكومة، وثلاثة لا يثقوا في رجال الدين، ويرى نحو 65% من اللبنانيين أن زعماء الدين فاسدون. وعليه تُمثل هذه الضغوط الداخلية قيودًا على الأطراف اللبنانية المسئولة عن قرار الحرب.
2-الأزمة الاقتصادية: يُمثل الوضع الاقتصادي المتردي في لبنان محددًا حاكمًا لعدم خوض الحرب، إذ تُعاني الدولة أزمة اقتصادية ممتدة منذ عام 2019، وتفاقمت مع انفجار مرفأ بيروت في العام 2020، بما يُعيق تحمل لبنان حربًا واسعة مع إسرائيل، وقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية نتيجة سوء الإدارة المالية، بما جعل البنك الدولي يصف الأزمة بأنها أشد الأزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر. وانعكس ذلك في بعض المؤشرات حيث فقدت العملة أكثر من 95% من قيمتها، وارتفع التضخم إلى نسبة 231.3% في العام 2023، بالإضافة إلى تفاقم معدل البطالة من 11.4% في العام 2019 إلى 29.6% في العام 2022، وارتفع معدل الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من مجموع السكان.
وعليه يُرتب إشعال جبهة لبنان الإضرار بالقطاعات المختلفة سواء بتوقف السياحة كما حدث عقب حرب 2006، بالإضافة إلى هجرة العمال والشركات الدولية العاملة بها، فضلًا عن تدمير البنية التحتية، علاوة على اندلاع حرب واسعة يشارك بها أطراف إقليمية ودولية بما يُؤثر في سلاسل التجارة والتوريد، وأسعار الطاقة في المنطقة.
من ناحية أخرى، تُمثل المساهمات والدعم المالي الذي تقدمه بعض الدول الخليجية إلى لبنان عاملًا مهمًا لاستقرار اقتصاد الدولة في ظل أزماتها المختلفة، لكن التوتر في العلاقات بعد انتقادات وزير الإعلام آنذاك “جورج قرداحي” للدور السعودي في الأزمة اليمنية، قاد إلى تراجع الدعم الاقتصادي الخليجي إلى لبنان. وخفضت السعودية مساعداتها في العام 2016 وحظرت الواردات اللبنانية بما فاقم الأزمة الاقتصادية، لكن تم إنشاء الصندوق الإنساني المشترك الفرنسي السعودي بعد انفجار مرفأ بيروت والذي انضمت إليه الإمارات في وقت لاحق، الأمر الذي يُفسر اعتماد الاقتصاد اللبناني على المانحين الأجانب، وأن تدهور الأوضاع الاقتصادية اللبنانية يجعل قرار الحرب أو التصعيد في غير صالح الدولة على كافة المستويات.
3– أزمة فراغ رئاسي: وفق الدستور اللبناني فإن قرار الحرب يتم بموافقة أعضاء الحكومة، وبحضور رئيس الجمهورية، إلا أن لبنان تُعاني حالة من الفراغ الرئاسي منذ 31 أكتوبر 2022، وقد ساهمت تركيبة البرلمان الحالي في عدم امتلاك أي من القوى السياسية الأغلبية المطلقة أو الوازنة، ولم تستطع أي كتلة إيصال مرشحها إلى الرئاسة دون التوافق مع باقي الكتل الأخرى، إذ ساهم عدم التوافق حول مرشح واحد في إطالة أزمة الشغور الرئاسي، وعليه فإن إشعال الجبهة اللبنانية في ظل فراغ رئاسي وحكومة لتصريف الأعمال مؤقتة أمر مخالف للدستور الذي ينص في المادة 65 أن ” قرار الحرب يتم بعد اجتماع مجلس الوزراء، وبرئاسة رئيس الجمهورية، وبموافقة ثلثي أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها”.
4- حزب الله: يُمثل النفوذ السياسي لحزب الله عاملًا مهمًا لقرار خوض لبنان حرب مع إسرائيل، خاصة في ظل حالة من الرفض الداخلي لدفع لبنان إلى الحرب للاعتبارات السابق توضيحها. ويُشير استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “البارومتر العربي” إلى أن شعبية حزب الله في باقي أجزاء لبنان متراجعة. لكنه يحظى بشعبية كبيرة في المناطق التي يسيطر عليها في جنوب وشرق لبنان ونحو 85% من الشيعة يثقوا في حزب الله، و9% من السنة والدروز، و6% من المسيحيين. بما يُؤشر إلى أن قرار توسع الحرب من جانب حزب الله بها مخاطرة لفقدان نفوذه السياسي داخل الدولة، ولا يوجد تأييد كبير لدور حزب الله في السياسة الإقليمية، إذ يوافق ثلث اللبنانيين على انخراطه في السياسة الإقليمية، لكن هذا التأييد راجع للتعاطف الشعبي مع موقف الحزب من الحرب في غزة وسياسته ضد إسرائيل، بينما يُعارض نحو42% دوره.
5- الموقف الإسرائيلي: يُعد موقف القادة الإسرائيليين محددًا حاكمًا ومؤيدًا لتصعيد الجبهة اللبنانية، وبالرغم من تلويح رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بالاستعداد لشن الحرب وغزو لبنان، فإن ذلك يأتي في سياق الأزمة السياسية الداخلية، والتخوف من فقدان بقائه السياسي، وعدم رغبته في دفع ثمن الحرب في غزة نتيجة الجرائم الدولية التي ارتكبها ضد الشعب الفلسطيني.
تشكل الهجمات الإسرائيلية على لبنان بتوجيه ضربات ضد أهداف مدنية استفزازًا لحزب الله قد يدفعه إلى الرد المماثل، بما يقود إلى توسع الحرب، فضلًا عن الرد الإيراني المرتقب على اغتيال هنية. لكن قرار الحرب من الجانب الإسرائيلي مرهون بالتوافق مع أعضاء مجلس الحرب، وقيادات الجيش الإسرائيلي، والتي تدفع في اتجاه الحرب حيث عبر عضو مجلس الوزراء الإسرائيلي السابق لشئون الحرب “بيني غانتس” في مؤتمر بجامعة رايخمان في هرتسليا بإسرائيل “نستطيع أن نغرق لبنان بالكامل في الظلام ونفكك قوة حزب الله في أيام”. كذلك تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” في اجتماع مع وزير الخارجية الفرنسي “ستيفان سيجورني ” في أبريل الماضي “نحن نقترب من حرب شاملة، وفي هذه الحالة ستتحرك إسرائيل ضد حزب الله في كل لبنان، وستحتل مناطق واسعة من جنوب لبنان لإنشاء منطقة عازلة تسيطر عليها القوات الإسرائيلية للسماح لسكان الشمال بالعودة إلى ديارهم” ومن ثَمّ تعكس هذه التصريحات الإصرار الإسرائيلي ورغبة بعض القيادات الإسرائيلية في الدفع في مسار الحرب مع لبنان. وتشترك القيادات الإسرائيلية في الرغبة في القضاء على حزب الله باعتباره تهديدًا مستمرًا للوجود الإسرائيلي على الحدود الشمالية مع لبنان. على الجانب الآخر، تشير بعض استطلاعات الرأي في شهر يونيو 2024 عن موقف الداخل الإسرائيلي من الحرب مع حزب الله، إلى أن 61% من الإسرائيليين مؤيدون للعمل العسكري ضد حزب الله، وفي استطلاع آخر لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي في شهر فبراير من العام ذاته، فإن 46% أيدوا الخيار العسكري، بينما 42% أيدوا الخيار الدبلوماسي.
لكن قد تُمثل الضغوط الدولية على إسرائيل عاملًا ضاغطًا لمنع إشعال جبهة لبنان بما يوسع الحرب إقليميًا، وتبعات ذلك على المنطقة، وتدخل الأطراف المختلفة سواء الدعم الأمريكي لإسرائيل، أو الدعم الإيراني لحزب الله وتدخل باقي الوكلاء، وما يرتبه اندلاع الحرب من موجات للنزوح واللجوء إلى دول مجاورة، فضلًا عن احتمالية تعطل الملاحة في مضيق هرمز.
6- اضطرابات الاقتصاد الإسرائيلي: يشهد الاقتصاد الإسرائيلي بعض الاضطرابات جرّاء الحرب المستمرة على غزة، وقد أدى ذلك إلى خفض وكالة فيتش التصنيف الائتماني لإسرائيل من A+ إلى A نتيجة عجزها عن سداد عملات أجنبية طويلة الأجل، وبما يعكس أن استمرار العمليات العسكرية على جبهات متعددة يقود إلى إضعاف الاقتصاد الإسرائيلي وتشير توقعات وكالة فيتش إلى عجز في الميزانية بنسبة 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، ويتجاوز حجم الدين نسبة 70% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024، و72% في العام 2025 بعدم تحمل الاقتصادي الإسرائيلي حرب في جبهة لبنان، وأن استمرار الحرب في غزة حتى العام 2025 واتساع مداها إلى جبهات أخرى يرتب مزيدًا من الخسائر البشرية وزيادة الإنفاق العسكري. وانعكاسات ذلك على الوضع الاقتصادي برمته، وبما قد يقود إلى احتجاجات داخلية.
ثانيًا: محددات خارجية
توجد مجموعة من المحددات الخارجية الحاكمة لفكرة التصعيد في الجبهة اللبنانية نذكرها على النحو الآتي:
1-الضغوط الخارجية: بالرغم من الدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل ارتباطًا باللوبي اليهودي المؤثر في مشهد الانتخابات الأمريكية الرئاسية القادمة، إذ حظي نتنياهو بدعم عسكري من جانب الولايات المتحدة في حرب غزة، وحظي خطابه أمام الكونجرس بالتصفيق الواسع بالرغم من الانتهاكات المرتكبة ضد الفلسطينيين. فإن هناك محاولات من قبل واشنطن لضبط سلوك إسرائيل المندفع وعدم التصعيد إقليميًا، خاصة أن اندلاع الحرب في لبنان، وعدم قدرة واشنطن على احتواء التوترات يضعف صورتها كقائد دولي وضابط للأمن العالمي والإقليمي.
وقد قدمت مقترحات أمريكية وفرنسية للدفع في اتجاه المسار الدبلوماسي لمناقشة عدم إشعال الجبهة اللبنانية، وتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 لتأمين الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، والعمل على انسحاب قوات حزب الله بعيدًا عن الحدود، ونشر القوات المسلحة اللبنانية في الجنوب بدعم من قوات اليونيفيل، وبدء مفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البرية. ويستمر الحراك الدبلوماسي الدولي للدفع في اتجاه مسار التهدئة، وعدم الاتجاه إلى حرب شاملة عبر التنسيق المشترك والجهود المصرية والفرنسية والأمريكية المبذولة لتجنب اندلاع حرب شاملة، حيث زار المبعوث الأميركي “آموس هوكشتاين” بيروت مرة أخرى والتقى رئيس حكومة تصريف الأعمال “نجيب ميقاتي” ووزير الخارجية “عبد الله بوحبيب” وقائد الجيش “جوزيف عون” في 14 أغسطس 2024، بهدف التشاور حول المقترح السابق بتطبيق القرار 1701 بدءًا بانسحاب حزب الله لمسافة 7 أو 10 كيلو مترًا، وتسليم القوات المسلحة اللبنانية إدارة الحدود.
كذلك تستمر المساعي الدبلوماسية الفرنسية بشأن الملف اللبناني، وفي 18 أبريل الماضي تبنى الاتحاد الأوروبي موقفًا مشتركًا بشأن لبنان، كذلك استضاف الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، رئيس الوزراء اللبناني “نجيب ميقاتي”، وقائد الجيش اللبناني “جوزف عون” في 19 أبريل الماضي، وقد أرسلت فرنسا عدة مرات وزير خارجيتها ووزير دفاعها ومسئولين آخرين رفيعي المستوى إلى إسرائيل ولبنان. كما كثف المسئولون الفرنسيون والأمريكيون من اتصالاتهم في الآونة الأخيرة. علاوة على زيارة وزير الخارجية الفرنسي “ستيفان سيجورنيه” إلى بيروت، ولقائه رئيس مجلس النواب “نبيه بري” في 15 أغسطس، فضلًا عن زيارة وزير الخارجية المصري ” بدر عبد العاطي” لبيروت ولقائه مع رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري”، ووزير الخارجية “عبد الله بوحبيب”، ورئيس مجلس الوزراء ” نجيب ميقاتي” بهدف الدفع في مسار التهدئة. وعليه تُمثل هذه الضغوط الخارجية من الأطراف المختلفة محددًا مهمًا لفكرة عدم التصعيد والعمل على عدم تحول لبنان إلى ساحة للحرب.
2-الموقف الإيراني: برغم الحرب الإعلامية البارزة بين حزب الله كأحد أهم الأذرع الإيرانية في المنطقة، وإسرائيل حول التصعيد في لبنان، وتكثيف الهجمات الصاروخية على شمال إسرائيل في بعض الأحيان من جانب حزب الله، وخطابات الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” التي تحمل نبرة التهديد والوعيد، خاصة فى كلمته مطلع أغسطس 2024، بأنها “مرحلة تنتهي فيها عمليات إسناد المقاومة الفلسطينية، وتبدأ فيها عمليات الحرب المفتوحة”. فإن هذه الكلمات لم تخرج عن نطاق الخطاب الإعلامي الذي يروج لصورة الحزب كأحد أهم الأذرع، وكسب مزيد من الشعبية، لكن حزب الله يتخوف من تحويل لبنان إلى غزة ثانية بما يجعله في مأزق مع القوى السياسية اللبنانية الرافضة للحرب، كما أنه لا يمتلك خطة لما بعد الحرب.
من ناحية أخرى، لا ترغب إيران في توسعة الحرب، وتحاول طهران تحقيق أكبر قدر من المكاسب في سياق هذه التوترات الإقليمية سواء في ملف البرنامج النووي الإيراني، أو خفض العقوبات المفروضة عليها بتوظيف ملف الحرب في غزة والجبهة اللبنانية والمؤشرات في ذلك كثيرة ومنها؛ القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق في بداية شهر إبريل الماضي، واقتصار الرد الإيراني على شن هجمات مباشرة على إسرائيل بواسطة أكثر من 300 صاروخ كروز وباليستي وطائرة بدون طيار، وعدم التصعيد إلى أكثر من ذلك. بالإضافة إلى عمليات الاستهداف المتكررة لقيادات مهمة سواء “إسماعيل هنية” داخل إيران أو “فؤاد شكر” في الضاحية الجنوبية لبيروت بهدف إثارة استفزاز إيران إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل وانتظار الرد الإيراني المرتقب على هذه العمليات.
لكن هذه الحوادث السابقة أنتجت ردًا إيرانيًا محدودًا وعدم رغبة في التصعيد، بما أضعف صورتها كقوة إقليمية مؤثرة، وعليه يُمثل الموقف الإيراني وبالطبع موقف حزب الله والمحافظ على مستويات منضبطة للتصعيد محددًا مهمًا لعدم تحول لبنان إلى ساحة للحرب، أو ربما الخروج عن النمط المعتاد وجر لبنان إلى حرب واسعة بدخول الأطراف المختلفة.
كذلك يُمثل الرد الإيراني على عملية اغتيال “إسماعيل هنية” خلال الفترة المقبلة محددًا مهمًا في التطورات على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، لا سيما أن الرد المرتقب قد يثير ردًا متبادلًا من جانب إسرائيل بما يُنذر بإشعال جبهة لبنان، وقد كان للاجتماع الذي عقد في طهران بين حزب الله وجماعة أنصار الله الحوثية اليمنية والمليشيات العراقية والممثلين عن حركتي الجهاد الإسلامي وحماس وعدد من قادة الحرس الثوري الإيراني مع المرشد الإيراني “على خامنئي” في 1 أغسطس 2024، وذلك عقب عملتي استهداف القائد العسكري في حزب الله “فؤاد شكر” وإسماعيل هنية”، بهدف التشاور حول الرد المحتمل على عملتي الاغتيال، مؤشر على الرد الإيراني المرتقب.
وفي سبيل ذلك اتخذت إسرائيل إجراءات احترازية بما يعني أن الرد الإيراني قادم، لكن احتمالية الرد الإسرائيلي في حال ضربة إيرانية أو من جانب وكلائها في المنطقة تحكمه التوافقات السياسية والوساطة الإقليمية والدولية التي تدفع بعدم إشعال الجبهة اللبنانية. لكن في حال عدم نجاح هذه الجهود ربما يكون المسار المحتمل هو تقيم إسرائيل للضربة القادمة من إيران أو وكلائها، والرد عليها وبالتالي نكون أمام جبهة صراع إقليمي ممتدة سيكون لها تداعياتها الإقليمية على المنطقة برمتها.
ختامًا، يمكن القول إن خيار الحرب غير مرحب به إقليميًا ودوليًا، لكن تظل المحددات الداخلية والخارجية السابق الإشارة إليها حاكمة لسياق التطورات القادمة، ولحسابات الأطراف المختلفة بشأن الحرب، وإن كان القادة الإسرائيليون في دفعهم بمسار الحرب إنما بهدف تحقيق انتصار سياسي، وعدم فقدان نفوذهم في ظل خلافات داخلية، وجرائم دولية تنتظرهم نتيجة الانتهاكات المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني. وعليه يظل السيناريو المستقبلي لفكرة إشعال جبهة لبنان مرهونًا بالمتغيرات الإقليمية ونجاح أو فشل الجهود الدولية المبذولة لاحتواء التوترات بين مختلف الأطراف وإعادة ترتيب الأوراق بينها.
المصدر : https://ecss.com.eg/47536/