محرّكات دافعة.. تجدد الخلافات التركية السويدية وعرقلة انضمام استوكهولم للناتو

مارى ماهر

 

لما كانت إحدى النتائج الجيوسياسية الرئيسية للحرب الروسية الأوكرانية هي إثارة المخاوف الأمنية للدول الأوروبية، ودفعها لإعادة النظر في سياستها الدفاعية؛ فإن السويد وجارتها فنلندا قررتا إنهاء عقود من الحياد العسكري وقررتا التقدم بطلب للحصول على عضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وحال إكمال إجراء عضويتهما فإنها فستكون واحدة من أهم عمليات الانضمام في تاريخ الناتو، حيث ستجلب جيشين متقدمين تقنيًا على أعتاب الأراضي الروسية. ولكن مع مرور حوالي ثمانية أشهر على طلب العضوية، لم يحصل البلدان على الدعم اللازم للقبول، فحتى الآن وافق ثمانية وعشرون عضوًا في الناتو على عضوية الدولتين الإسكندنافيتين، فيما ما زالت المجر وتركيا ممتنعتين. وبينما لوحت بودابست بقرب تصويت برلمانها على قبول الانضمام، تبقى تركيا العقبة الوحيدة أمام استكمال متطلبات العضوية، حيث استغل رئيسها رجب طيب أردوغان القضية لانتزاع التنازلات وتقديم نفسه على الساحة الدولية كزعيم قوي. ويبدو أن فنلندا تتحرك بخطوات أسرع تجاه تلبية المطالب التركية، بينما لا تزال الخلافات تهيمن على مشهد العلاقات التركية السويدية وتبطئ خطوات انضمامها إلى الناتو.

العائق الكردي

تعد السويد موطنًا لحوالي 100 ألف كردي من أصل حوالي 10 ملايين، وقد بدأ الأكراد الانتقال إلى السويد لأول مرة من تركيا والعراق وإيران وسوريا في الستينيات كعمال مهاجرين، ثم كجزء من التدفق العالمي لنشطاء المعارضة والمنفيين السياسيين الذين اجتذبتهم ثقافة الانفتاح والقبول السياسي في السويد، حيث فرّوا من سياسات الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ومن الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، ومن موجة التمييز والمضايقات في سوريا، ومن العنف السياسي التركي ضدهم في سبعينيات القرن الماضي وعقب انقلاب عام 1980، كما أدت حملات القمع السياسي عقب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 إلى تدفق جديد لكل من الأكراد والأتراك إلى السويد، الذين اتهموا بالعمل مع جماعة فتح الله جولن، التي تصنفها أنقرة إرهابية. وفي السويد، حدثت الكثير من حركات الاستقلال والنشاط المؤيدة للأكراد والتي أثارت حفيظة أنقرة وطلبت مرارًا وقفها بدعوى أنها موجهة إلى تركيا، لكن دون استجابة سويدية، حتى جاء الطلب السويدي الفنلندي للانضمام إلى الناتو في مايو 2022 ليمنح تركيا ورقة ضغط بشأن هذه القضية.

ورغم كون السويد ثاني دولة بعد تركيا تصنف حزب العمال الكردستاني كجماعة إرهابية عام 1984، إلا أنها تدعم وحدات حماية الشعب السوري وذراعها السياسي حزب الاتحاد الديمقراطي، اللذين تعتبرهما تركيا امتدادًا لحزب العمال، وقد أبرم الاشتراكيون الديمقراطيون اتفاقًا مع النائبة الكردية من أصل إيراني أمينة كقباوة في نوفمبر 2021 استطاعت بموجبه زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ماجدالينا أندرسون أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في السويد، وهو ما اعتُبر تعميقًا للتعاون مع الأكراد، كما رحبت السويد برئيسة الجناح النسائي في وحدات حماية الشعب الكردية نسرين عبد الله، ورئيس حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، حيث أجرى التلفزيون الحكومي السويدي مقابلة معه والتقط صورة مع وزيرة الخارجية السويدية السابقة آن ليندي.

وفي محاولة لتلافي الفيتو التركي على عضويتهما في الناتو، أبرمت السويد وجارتها فنلندا اتفاقًا مع أنقرة في يونيو 2022 يهدف لتقديم تنازلات بشأن تلبية مطالبتها وتطمين مخاوفها، تعهدتا بموجبه باستئناف مبيعات الأسلحة إلى تركيا، وتوسيع التعاون العسكري مع تركيا، وإنشاء آلية تعاون منظمة لتبادل المعلومات الاستخبارية في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، والتعاون الكامل مع تركيا في مكافحة حزب العمال الكردستاني وفروعه، والامتناع عن تقديم الدعم لوحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي وحركة فتح الله جولن، واتخاذ تدابير ملموسة لتسليم المجرمين والإرهابيين. وبموجب الصفقة أنهت السويد حظر الأسلحة المفروض منذ 2019 على تركيا بسبب مخاوف بشأن الجرائم العسكرية ضد المسلحين الأكراد داخل البلاد وفي سوريا والعراق، وأعادت 3 مطلوبين إلى تركيا، وأقرت بعض التعديلات الدستورية ضد الإرهاب التي دخلت حيز التنفيذ في 1 يناير 2023، وأكدت في رسالة بعثتها إلى أردوغان يوم 7 ـكتوبر 2022 التزامها بمعالجة طلبات التسليم المعلقة للمشتبه بهم بالإرهاب على وجه السرعة وبشكل شامل.

وعقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة في سبتمبر 2022، نأت الحكومة اليمينية الجديدة بنفسها عن حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية، وكانت تركيا هي الدولة الأولى التي زارها رئيس الوزراء السويدي الجديد من يمين الوسط الجديد أولف كريسترسون في 21 أكتوبر 2022، وبعدها بيومين أعلن وزير الخارجية السويدي توبايس بيلستروم أن استوكهولم لن تتسامح مع حزب العمال الكردستاني دون ذكر حركة جولن أو نقض النتائج السابقة بشأن تسليم المجرمين أو اللجوء السياسي. ورغم ذلك، تفاقمت عناصر التوتر بين الحكومتين التركية والسويدية خلال الأيام القليلة الماضية بحيث باتت تشكل عقبة أمام تصويت البرلمان التركي بالموافقة على عضوية استوكهولم في حلف شمال الأطلسي، بما يضاف إلى مسببات الخلاف التقليدية، ومن مظاهر ذلك:

• رفض السويد تسليم الصحفي بولنت كينيس، الأكاديمي ورئيس التحرير السابق لصحيفة “زمان” اليومية الصادرة بالإنجليزية المغلقة حاليًا، والذي حدده أردوغان بالاسم، إلى جانب تسليم 130 شخصًا آخرين لم يتم الكشف عن أسمائهم لكن وصفهم بالإرهابيين، مقابل تصديق بلاده طلب استوكهولم للانضمام إلى الناتو؛ لكن المحكمة السويدية العليا استشهدت بخطر “الاضطهاد على أساس المعتقدات السياسية” عندما رفضت هذا الطلب، وهو القرار الذي التزمت به الحكومة السويدية عندما أكد رئيسها أولف كريسترسون أن حكومته ليس لديها خيار سوى اتّباع أوامر المحكمة ولا يوجد مجال لتغيير ذلك.

• إعطاء حكومة استوكهولم تصريحًا للناشط اليميني المتطرف الدنماركي راسموس بالودان لتنظيم احتجاج خارج السفارة التركية وحرق نسخة من القرآن الكريم، ونشر مجموعة كردية تسمى “لجنة التضامن السويدية من أجل روج آفا” مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يقارن أردوغان بالديكتاتور الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني وشوهدت فيه دمية لأردوغان معلقة من قدميها تحاكي كيف قُتل موسوليني. وتصريح رئيس الوزراء السويدي الذي رأى فيه أن الحكومة التركية تفرض سلسلة من المطالب لا تستطيع ولا ترغب بلاده في تلبيتها.

• إلغاء أنقرة زيارة كانت مقررة لوزير الدفاع السويدي بال جونسون في 27 يناير، حيث صرَّح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين بأن تركيا ليست في وضع يسمح لها بالمصادقة على انضمام السويد إلى الناتو. وسبقها إلغاء رئيس البرلمان التركي مصطفى سينتوب، زيارة لنظيره السويدي أندرياس نورلين كانت مقررة يوم 17 يناير.

محركات أنقرة

لا يشكل العامل الكردي سببًا وحيدًا لعرقلة تركيا مسار الانضمام السويدي لحلف الناتو، فجملة من الحسابات الداخلية والخارجية كانت محركًا رئيسيًا لأردوغان، منها:

• دغدغة مشاعر القوميين الأتراك: تُشكل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقررة خلال مايو المقبل محركًا أساسيًا لسلوك أردوغان الخارجي؛ حيث يتطلع الرئيس -الذي يواجه مخاطر سياسية مرتبطة بانخفاض الدعم المحلي بسبب الاقتصاد المتعثر والتضخم المتصاعد وغلاء المعيشة- إلى إنقاذ قاعدته الانتخابية، ومداعبة المشاعر القومية المحلية عبر إظهار نفسه زعيمًا قويًا يمكنه تحدي الغرب وحماية المصالح التركية دوليًا، وإجبار الناتو على تقديم تنازلات في قضية مهمة تم تأطيرها حول “الحرب ضد الإرهاب الكردي”، وهي إحدى القضايا القليلة التي تحظى بالتفاف وإجماع وطني. لذلك، من غير المرجح أن يتخلى أردوغان عن مطالبه دون الحصول على تنازلات كبيرة من السويد طالما أنها تفيد الاستراتيجية السياسية لحزب العدالة والتنمية، وخشية أن يكلفه الأمر التضحية بالناخبين المتأرجحين من القاعدة التصويتية للحزب الحاكم، وهو ما يجعل مسألة توقيت التصديق خاضعة للحسابات الانتخابية. وقد ألمح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين إلى انخفاض فرص التصديق قبل قمة الناتو القادمة المقررة في يونيو المقبل، محددًا إطارًا زمنيًا لا يتجاوز الشهرين ونصف قبل دخول البرلمان في عطلة ما قبل الانتخابات، بينما ترجح استوكهولم حاجتها لحوالي ستة أشهر لترتيب التشريعات اللازمة لتلبية مطالب تركيا بقمع الإرهاب والعناصر الكردية المسلحة داخل السويد، وهو ما يتجاوز موعد الانتخابات العامة.

• الخطاب السويدي الحقوقي: تُركز السياسة الخارجية السويدية على قضايا حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والتعددية، مما يشكل ضغطًا على الثقافة السياسية المحافظة التي يتبناها حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، فقد دافع السويديون داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي عن نهج قائم على حقوق الإنسان في العلاقات مع تركيا، وهو ما أزعج أنقرة لسنوات، وخلال 2020 دخل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في خلاف عام مع وزيرة الخارجية السويدية -آنذاك- آن ليند، متهمًا إياها بازدواجية المعايير وإلقاء محاضرات على تركيا بشأن حقوق الإنسان.

• إرضاء الشريك الروسي: يبدو أن أردوغان غير راغب في إغضاب الكرملين نظرًا لتشابك المصالح وتعدد ساحاتها وتنوع مجالاتها، لا سيما أن توسع الناتو يمثل أحد المكاسب الاستراتيجية طويلة الأجل بالنسبة للغرب، ويشكل بالوقت ذاته هزيمة استراتيجية خطيرة لروسيا، كونه يعني توسيع حضور الحلف على طول الحدود الروسية، لذلك ربما ترغب أنقرة في الموازنة بين شراكاتها الاستراتيجية مع الناتو وأوكرانيا وعلاقاتها الصعبة والمهمة مع روسيا.

• انتزاع تنازلات من حلفاء الناتو: على مدار السنوات القليلة الماضية انتقدت تركيا تغاضي الحلف عن مخاوف تركيا الأمنية، وتجددت حلقات الخلاف بشأن قضايا متعددة، وعلى الأخص مع اليونان وفرنسا بشأن قضايا مثل: الحدود البحرية لشرق المتوسط، وعمليات التحليق فوق بحر إيجه. ولهذا تستغل أنقرة مسألة توسيع الناتو للحصول على تنازلات لعل أهمها الضغط على واشنطن للموافقة على صفقة تقدر قيمتها بـ 20 مليار دولار لشراء 40 مقاتلة من طراز F-16 لتوسيع وتحديث أسطولها الجوي الحالي، وفك الارتباط الأمريكي بقوات سوريا الديمقراطية. ومع ذلك، لم تخبر إدارة بايدن أنقرة بشكل صريح بكون تمرير عضوية السويد وفنلندا في الناتو شرطًا رئيسيًا ووحيدًا لإتمام صفقة F-16، وهذا يترك أردوغان ليقرر ما إذا كان سيذعن لضغوط واشنطن ومتى.

ختامًا، يبدو أن استرضاء تركيا لن يكون سهلًا أو سريعًا، لكن بينما يرجح أن تتجه استوكهولم خلال المرحلة المقبلة إلى تهدئة التوترات لاستكمال مسار عضويتها في الناتو الذي يشكل أولوية لأمنها القومي، لا سيمَّا أن فنلندا لوحت بإمكانية التفكير في الانضمام بمفردها قبل أن تخفف الموقف وتقول إن المسار المشترك لا يزال ممكنًا؛ ستظل تركيا تضغط بأقصى قدر ممكن للحصول على تنازلات، وتبقى عين أردوغان على موعد الانتخابات التركية في مايو المقبل التي تُعتبر عاملًا رئيسيًا حاكمًا لقرارات وسلوكيات سياسته الخارجية يحاول توظيفها بالقدر الأمثل الذي يضمن له الاحتفاظ بالسلطة، لذلك يُمكن اعتبار يوم 14 مايو مهمًا على صعيد تحقيق انفراجة في موقف أنقرة من عضوية السويد وفنلندا في الناتو، مع ترجيحات بصعوبة إعطاء الضوء الأخضر لعضويتهما قبل الانتخابات الرئاسية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32733/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M