ثمة انفصالٌ بين القراءة الأميركية للشرق الأوسط وتفسير الجهات الأخرى، ولا سيما تلك الموجودة في المنطقة، لما يجري هناك. وهذا ليس حكرًا على الولايات المتحدة فقط، ولكنه تفاقم مع الأميركيين بسبب منح إسرائيل دورًا محوريًّا في شرح العالم العربي لصنّاع القرار الأميركيين، بما يتنافى مع مصلحتهم…
بقلم: مايكل يونغ
استندت استجابة جو بايدن لهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر في البداية إلى منظور محلّي، وهو الآن يدفع ثمن ذلك.
أُثيرت ضجة كبيرة حول امتناع الولايات المتحدة الأسبوع الماضي عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضدّ مشروع قرار مجلس الأمن الذي دعا إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة. ونتيجةً لذلك، تمّت الموافقة على النص واعتُمد القرار رقم 2728. لكن هذه الخطوة أغضبت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ألغى زيارة كانت مقرَّرة لوفدٍ إسرائيلي إلى واشنطن، معترضًا أن “الولايات المتحدة سمحت اليوم بتمرير قرارٍ لا يجعل وقف إطلاق النار مشروطًا بإطلاق سراح المختطفين”.
منذ ذلك الحين، ركّزت وسائل الإعلام الكبرى على العلاقات “المتشنّجة” بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن. فقد حدّد مقالٌ نُشر في 26 آذار/مارس في صحيفة نيويورك تايمز مسار النقاش بوضوح، إذ قال في جملته الافتتاحية إن “العلاقة بين الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتّجهت على ما يبدو نحو حضيضٍ جديد، في ظل الضغوط التي يواجهها الرجلان نتيجة السياسات المحلية والانتخابات التي تلوح في الأفق”. لم يُشِر شيءٌ في هذه الجملة إلى أن مصير الفلسطينيين عاملٌ يُسهم في خلافهما. فعند تناول شؤون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، يبدو أن قاعدة النقاش العام تقتضي تحويل كل المسائل إلى رواية أميركية للحفاظ على اهتمام القرّاء.
ثم خطت نيويورك تايمز خطوة إضافية في مقال آخر نُشر في اليوم نفسه. وجادل بأن الناشطين المناصرين للفلسطينيين يواصلون التركيز على معاقبة بايدن لأنه أتاح لإسرائيل ارتكاب مذابح في غزة، مع أن دونالد ترامب كان يصغي إلى مستشارين يعكسون وجهات نظر اليمين الإسرائيلي (لا بل اليمين المتطرّف). هنا أيضًا، كانت الرسالة الضمنية واضحة: لتحقيق فهمٍ أفضل للشرق الأوسط، يجب النظر إليه من زاوية أميركية، ومن الحماقة ألّا يعي الناشطون أن الإضرار ببايدن سياسيًا قد يُفضي إلى وصول شخصٍ أسوأ بكثير إلى الحكم.
يُعيد هذا الأمر إلى الأذهان ما حدث في المرحلة المؤدّية إلى الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. من نواحٍ كثيرة، أصبحت النقاشات العامّة حول احتمال اندلاع الحرب آنذاك متمحورة حول الولايات المتحدة نفسها. وأولئك الذين أيّدوا الحرب دافعوا عن موقفهم مستخدمين لغة الحرية والديمقراطية، التي يستطيع معظم الأميركيين التماهي معها. أما الذين عارضوا الحرب فقد وصفوا مؤيّديها جميعهم بأنهم “محافظون جدد”، حتى أولئك الذين قارَبوا الإطاحة بالنظام العراقي من منظور ديناميات الشرق الأوسط بالكامل وبمعزلٍ عن السياسات الحزبية الأميركية.
كان هذا المزاج سائدًا بشدّة في النقاش العام، بحيث بات العراقيون خصوصًا، والعرب عمومًا، غائبين إلى حدٍّ كبير عن الحوار الأميركي الداخلي حول ما إذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تغزو… العراق. لوحِظ هذا الميل أيضًا بعد هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، حين سارعت مجموعة كبيرة من السياسيين والناشرين الأميركيين إلى إلقاء اللوم على إدارة بايدن. في أغلب الأحيان، لم يلعب العرب سوى دورٍ ثانوي في النقاشات الغربية حول منطقتهم. وفيما يمكن شرح ذلك بسهولة – معظم الناس يُقارِبون المواضيع التي يجهلونها من خلال صياغتها بعبارات يمكنهم فهمها – فإن العمل داخل فقاعة يسفر دائمًا عن نتائج سلبية على مستوى السياسة العامة.
حين وقعت هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، فكّر بايدن من منطلق محلّي في المقام الأول في طريقة الردّ. لقد كان الرئيس على مشارف عامٍ انتخابي ولم يكن بإمكانه أن يُرى وكأنّه يتخلّى عن حليفٍ للولايات المتحدة تعرّض إلى هجوم شرس، ولا سيما أن داعمي إسرائيل يشكّلون قاعدة انتخابية مهمة في الحزب الديمقراطي. هذه الاعتبارات مفهومة، إلّا أنها عنت أن الفلسطينيين تُركوا إلى حدٍّ كبير خارج حسابات الرئيس، الأمر الذي ألحق في نهاية المطاف ضررًا كبيرًا به.
بدأت المشاكل بعد أسابيع من المذابح في غزة، حين فشلت الإدارة الأمريكية في تقدير دلالة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، واختارت بشكل غير حكيم التعامل معها سياسيًا. وردًّا على سؤال أحد الصحافيين، أجاب المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي باستخفاف قائلًا: “لقد قلنا مرارًا وتكرارًا إننا نعتبر هذه الادّعاءات وهذه القضية باطلة، فلا أساس للاتّهامات الموجّهة إلى إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية. هذه ليست كلمةً تُرمى بخفّة، والأكيد أننا لا نعتقد أنها تنطبق هنا”.
حتى عندما أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا مؤقتًا اعتبرت فيه أن “من المعقول” أن يَلحق بالفلسطينيين “ضررٌ يتعذّر إصلاحه”، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ، كرّر البيت الأبيض أنه لا يرى أي دلائل تثبت صحة “الادّعاء بوجود نية أو فعل إبادة جماعية” من جانب إسرائيل. وقد تسبّب ذلك بضرر أكبر للأميركيين على الصعيد الدولي، ففي تلك المرحلة، اكتفت المحكمة بالإشارة إلى أن السلوك الإسرائيلي في غزة يضفي مصداقية على ذلك الاتهام، لا أكثر، فبدا وكأنّ إدارة بايدن تذهب أبعد من اللازم في اعتراضها.
حاول بايدن التعويض عن تغاضيه الأولي عن الفلسطينيين من خلال طرح الأُفق السياسي لحلّ الدولتَين. ولكن هذا المجهود جاء بمثابة عملية ترقيع عرجاء، لأن إسرائيل ستستمر في التصدّي لمثل هذه النتيجة، وقد استنتج الفلسطينيون، ولهم في ذلك ما يبرّره، أن إسرائيل قطعت بالفعل شوطًا بعيدًا جدًّا في مشروعها الاستيطاني بما يحول دون قيام دولة فلسطينية تمتلك مقوّمات الدولة.
علاوةً على ذلك، أظهرت الولايات المتحدة، على مدى أكثر من عقدَين من الزمن، تجاهلًا كبيرًا للمشكلة الفلسطينية وأشاحت بنظرها إلى حدٍّ ما عن توسّع المستوطنات الإسرائيلية. لا أحد يعتقد حقًّا أن مخطّط الدولتَين يمكن أن ينجح اليوم. حين تنتهي الحرب على غزة، الاحتمال كبيرٌ بأن تعود واشنطن إلى اعتماد موقف قائم على الإهمال الحميد.
بعدما استخدم الأميركيون الفيتو في وجه عددٍ من قرارات مجلس الأمن التي دعت إلى وقف إطلاق النار في غزة، حاولوا تمرير قرار من إعدادهم ربط وقف إطلاق النار بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين. استخدمت روسيا والصين الفيتو ضدّ المقترح الأميركي، فقد رأتا فرصة سانحة لإفشال الأميركيين والدفع نحو اعتماد قرار أكثر صرامة. بحلول ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام حول العالم تُظهر بالتفاصيل القاتمة تكتيكات التجويع التي تستخدمها إسرائيل في غزة (والتي أقرّ بها المسؤولون الأميركيون أنفسهم)، ما أرغم إدارة بايدن على التراجع. فمن خلال الاستمرار في تسليح إسرائيل ومساعدتها في همجيتها، بات يُنظَر إلى الإدارة الأميركية بأنها متواطئة في جرائم الحرب الإسرائيلية. وقد أصبح ذلك أكبر من قدرة بايدن على التحمّل، ما أرغم الإدارة الأميركية على الامتناع عن التصويت على القرار 2728، وهذا عكس ضمنًا الإقرار بأن معظم دول العالم تركّز على تخفيف معاناة الفلسطينيين.
انقلبت حسابات الرئيس الداخلية المحلية فجأةً بسبب الغضب الدولي، ما قوّض المكانة العالمية للولايات المتحدة. إذا كانت جميع السياسات هي سياسات محلية، صحيحٌ أيضًا جميع السياسات المحلية يمكن أن تكون لها تداعيات عالمية في حالة القوة العظمى الأميركية. لقد أخطأ بايدن في استبعاد الفلسطينيين تمامًا من تقييمه الأولي لطريقة الردّ على أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وحين لاحظ أن إسرائيل لا تلتزم بأي قيود في قتلها للفلسطينيين، ومعظمهم من المدنيين، اعتُبرت استجاباته على نطاق واسع ضئيلة جدًّا، ومتأخّرة جدًّا. وما زاد الأمور سوءًا أن الصين وروسيا، عدوّتَي الولايات المتحدة، استغلّتا ذلك لإذلال واشنطن.
في الكثير من الأحيان ثمة انفصالٌ بين القراءة الأميركية للشرق الأوسط وتفسير الجهات الأخرى، ولا سيما تلك الموجودة في المنطقة، لما يجري هناك. وهذا ليس حكرًا على الولايات المتحدة فقط، ولكنه تفاقم مع الأميركيين بسبب منح إسرائيل دورًا محوريًّا في شرح العالم العربي لصنّاع القرار الأميركيين، بما يتنافى مع مصلحتهم. من غير المحتمل أن يبدّل الأميركيون أسلوبهم في التعاطي مع الفلسطينيين، بغضّ النظر عمّا يجري في غزة، ولكن القيام بذلك سيؤدّي إلى ارتكاب أخطاء أقل.
حذّر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الآونة الأخيرة من أن إسرائيل قد تُعزَل بسبب سلوكها في غزة – وتحديدًا بسبب هجوم تخطّط له في رفح قد يسفر عن مقتل آلاف المدنيين – وكلامه هذا يمكن أن ينطبق على الولايات المتحدة أيضًا. فالتبدّل في موقف بايدن من الجرائم الإسرائيلية في غزة لن يغيّر حقيقة أن واشنطن هي التي جعلت هذه الجرائم ممكنة على مدى أشهر.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/38520