بينما يحتدم الصراع اليمني عسكريًا وتتعقد مسارات تسويته سياسيًا، تبرز على بُعد كيلومترات قليلة من الساحل اليمني بوادر كارثة جديدة يُمكن أن تنفجر بين الفينة والأخرى حاملة في طياتها أبعادًا محلية وإقليمية ودولية، وهي تلك المتعلقة بالخزان النفطي العائم “صافر” القابع على بُعد 5 أميال بحرية قبالة سواحل مدينة الحديدة الخاضعة لسيطرة المتمردين الحوثيين، والذي يبلغ طوله 360 مترًا وعرضه 70 مترًا ويسع لـ 3 مليون برميل من النفط في 34 خزانًا بأحجام مختلفة. ويحمل حاليًا 1.14 مليون برميل من النفط الخام (140 ألف طن) موزعة على 34 حجرة تخزين.
ويواجه الخزان الأكبر في العالم خطر التسريب أو الانفجار بفعل تآكل جسمه نتيجة للصدأ وملوحة المياه، أو الغرق، أو الحريق، أو استهدافه بالرصاص أو الصواريخ؛ بعدما فشلت جهود صيانته منذ سقطت مدينة الحديدة وميناؤها في يد الحوثيين عام 2015، واستغلالهم للخزان كورقة مساومة سياسية في وجه الحكومة الشرعية اليمنية والمجتمع الدولي.
وتركز تلك الورقة بالأساس على استعراض نتائج بعض الدراسات التي صدرت مؤخرًا، وتُظهر حجم الكارثة متعددة الأبعاد والمستويات المقبل عليها اليمن والمجتمع الدولي جراء التسريب المحتمل للخزان صافر.
أزمة متفاقمة
تتجدد المخاوف بشأن انسكاب حمولة الحزان صافر في مياه البحر الأحمر كلما تم الإبلاغ عن تسريب جديد بأحد أجزاء الخزان، كان آخرها في 27 ديسمبر 2021 عندما كشف وكيل أول محافظة الحديدة وليد القديمي حدوث تسريب من أنبوب النفط الممتد إلى الخزان صافر.
وبينما تعلو الأصوات المحلية والدولية للتحرك العاجل بغرض احتواء الأزمة قبل تفجرها، يستمر الحوثي في عرقلة الجهود الأممية لصيانة الخزان أو تفريغ محتواه بعدما تعاظمت قيمته كورقة مساومة سياسية حيوية في يد المتمردين الذين يجادلون بأنه لا يُمكن التعامل معه كقضية منفصلة وإنما يجب أن يكون جزءًا من اتفاق تسوية أوسع يمنحهم مزايا سياسية وعسكرية.
وفي ظل التعنت الحوثي، تم إجراء بعض نماذج المحاكاة للتسريب النفطي المحتمل لقياس اتجاهاته وتأثيراته الملوثة المحتملة على المياه والهواء، مع الأخذ في الاعتبار أنماط الرياح والتيارات ودرجة حرارة البحر والملوحة والتقلبات الموسمية والنهارية في الطقس. وقد وجدت النماذج تباينًا موسميًا لاتجاهات تحرك الانسكابات؛ فخلال الصيف تميل الانسكابات إلى التحرك جنوبًا وشرقًا وعلى طول الساحل اليمني، بينما في الشتاء تميل الانسكابات إلى التحرك شمالًا على طول ساحل البحر الأحمر. لكن حالة اللايقين تؤدي إلى مجموعة واسعة من المسارات المحتملة عبر البحر الأحمر، مما يدل على إمكانية الحركة في أي من الاتجاهين لكلا الموسمين.
وفي كل الأحوال تميل معظم الانسكابات إلى التحرك نحو الساحل الشمالي الغربي لليمن في غضون 6 – 10 أيام، مع العلم أن التقديرات تُشير إلى تبخر حوالي 51% خلال 24 ساعة من التسرب؛ نظرًا لطبيعة النفط المخزن على “صافر” كونه من النوع الخام الخفيف، مع بقاء المكونات الأثقل على الماء. وبمرور ستة أيام سيظل 39.6% من النفط طافيًا، فيما ستزيل محاولات التنظيف كمية ضئيلة من الزيت خلال الأيام الستة الأولى. لكن تُشير النماذج إلى أن جهود التنظيف الفعلية مطولة وصعبة من الناحية اللوجستية حتى في ظل الظروف المتفائلة؛ نظرًا للصراع في المنطقة، والألغام البحرية في المياه. ويُوضح الشكل التالي المسارات المحتملة لحركة النفط خلال موسمي الصيف والشتاء على مدار ثلاثة أسابيع:
وبالانتقال إلى مستويات التلوث الهوائي المحتمل، أفادت الدراسات أن حجمها يتوقف على مسببات الانسكاب، أهو تسريب وما إذا كان بطيئًا أو سريعًا ومدته، أم انفجار مصحوب بحريق، مع مراعاة اختلاف تيارات المياه والهواء خلال فصلي الشتاء والصيف. وتشير نماذج المحاكاة إلى اتجاه الدخان الناتج عن انفجار يحترق خلاله النفط شرقًا فوق اليمن خلال الصيف أو غربًا فوق البحر الأحمر خلال الشتاء، على أن يطال جنوب غرب السعودية في الموسمين.
ويكون الدخان محملًا بالسخام ومواد كيميائية سامة ومواد جسيمية خشنة تدعى PM10 وأخرى دقيقة تدعى PM2.5 بتركيز 1600 ميكروجرام بالمتر المربع، وهي تشكل خطرًا على صحة الإنسان كونها قادرة على التغلغل داخل الممرات الهوائية بالرئة، وتوصي منظمة الصحة العالمية بعدم التعرض لكميات تزيد على 15 ميكروجرامًا منها خلال 24 ساعة. ويوضح الشكل التالي الاتجاهات المحتملة لانتشار الهواء الملوث خلال فصلي الشتاء والصيف:
تأثيرات متعددة الأبعاد
تكشف مقارنة حجم التسريب المتوقع بحوادث تسريب نفطي سابقة مستوى الدمار الناجم عن كارثة كتلك؛ إذ يعادل حجم الانسكاب المتوقع أربعة أضعاف كمية النفط المنبعثة من تسريب شركة إكسون فالديز في خليج ألاسكا في عام 1989 الذي كان شديدًا لدرجة أن الكونجرس أقر عام 1990 قانون التلوث النفطي الذي وضع إجراءات للاستجابة للانسكابات المستقبلية وحدد المسؤوليات القانونية للأطراف المسؤولة بعد الانسكابات النفطية.
وكذا، يعادل التسريب نحو 48 ضعفًا لحادث تسرب النفط من الناقلة “إم. في واكاشيو” بموريشيوس في 8 أغسطس 2020 عندما ارتطمت الناقلة المملوكة لشركة يابانية وترفع علم بنما ومحملة بـ 3800 طن من النفط بشعب في بوانت ديسني، ما تسبب في تسرب مليون جالون من زيت الوقود المحرك الثقيل (حوالي 23.8 ألف برميل)، انتشر بشكل كبير على أكثر من 30 كيلومترًا، وسرعان ما وصل النفط إلى الشعب المرجانية والبحيرات والشواطئ الرملية البيضاء.
ويُمكن استعراض التأثيرات السلبية للانسكاب المحتمل على النحو التالي:
• تفاقم المعاناة الإنسانية وانعدام الأمن الغذائي: يرزح اليمنيون تحت وطأة أزمة إنسانية حادة ألمت بالبلاد على وقع الحرب الأهلية الممتدة منذ ستة أعوام؛ إذ يحتاج أكثر من 20 مليون شخص إلى المساعدة، بما في ذلك 18 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات المياه النظيفة، و16 مليونًا يحتاجون إلى مساعدات غذائية. ويعاني أكثر من مليوني طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، وأكثر من 8 ملايين لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب.
ومن المتوقع، أن تُفاقم كارثة التسريب المحتمل لنفط الخزان “صافر” المعاناة الإنسانية لليمنيين؛ إذ ستوثر بقعة الزيت العائمة على الموانئ الضرورية لاستيراد المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها معظم السكان والوقود اللازم للعديد من الأغراض؛ إذ يتوقع أن يُغلق ميناءا الحديدة والصليب المستخدمان في إدخال 68% من المساعدات في غضون أسبوعين، بما يوقف المساعدات الغذائية لما يقدر بنحو 5.7 مليون شخص، بينما سيتأثر ميناء عدن الواقع خارج البحر الأحمر في غضون ثلاثة أسابيع حارمًا 8.4 مليون شخص من المساعدات.
وسيفاقم إغلاق مصايد الأسماك التي تلبي احتياجات 1.7 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي؛ إذ تتوقع الدراسات أن يهدد التسريب 66.5 – 85.2% من مصايد اليمن خلال أسبوع واحد، و93 – 100% من المصايد في غضون ثلاثة أسابيع اعتمادًا على الموسم. علاوة على ذلك، سيتعطل تسليم إمدادات الوقود لليمن بما يتراوح بين 180 ألف إلى 250 ألف طن متري شهريًا، أي ما يُعادل 38% من متطلبات الوقود المحلية، متسببًا في ارتفاع أسعار الوقود وبالتالي أسعار السلع الأساسية.
هذا بالإضافة إلى تعثر إمكانية الوصول إلى المياه، لأن الوصول إليها يعتمد على مضخات تعمل بالوقود أو شاحنات المياه، مما قد يؤدي إلى عودة ظهور الأمراض المعدية المنقولة بالمياه؛ فخلال الإغلاق الكامل للموانئ في نوفمبر 2017، ارتفعت أسعار الوقود بشكل حاد في جميع أنحاء البلاد، وارتفعت الأسعار في الحديدة بنسبة 72% خلال ديسمبر 2017، وفقد 8 ملايين شخص إمكانية الوصول للمياه الجارية.
علاوة على ذلك، سوف تتعرض إمدادات المياه النظيفة للاستخدام اليومي لما يُقدر بـ 1 إلى 1.9 مليون شخص للتهديد بسبب تلوث محطات تحلية المياه المسؤولة عن إجمالي 77 ألف م3 من المياه النظيفة في الصيف و362 ألف م3 في الشتاء. ويتجاوز التأثير الساحل اليمني في الحديدة والصليف وعدن، ليمتد بفعل تيارات المياه والرياح إلى سواحل إريتريا والسعودية في غضون ثلاثة أسابيع، مخلفًا أزمة في منطقة البحر الأحمر بأكملها، لاسيمَّا أن تلك الدول تعتمد بشكل أساسي في تلبية احتياجاتها المائية على التحلية، إذ توجد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب أكثر من 290 محطة تحلية مياه، منها عشرات المحطات العملاقة التي يتجاوز إنتاجها 100 مليون جالون في اليوم، وتنتج نحو 4% من مجمل إنتاج محطات التحلية.
• تدهور الصحة العامة: كشفت دراسة أجراها باحثون من كلية الطب بجامعة ستانفورد الأمريكية بشأن تأثيرات الانسكاب المحتمل على الصحة العامة في اليمن والدول المجاورة أن مخاطر دخول المستشفى بأمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي لسكان اليمن ستزيد بما يتراوح بين 5.8% و42% اعتمادًا على مدة الانسكاب ووجود الدخان الناتج عن الاحتراق؛ ففي حالة الانسكاب البطيء شتاءً يُتوقع أن تبلغ النسبة 5.8% لترتفع إلى 31.2 في حالة الانسكاب السريع صيفًا، وبإضافة تأثير الاحتراق تسجل النسبة المتوقعة 6.7% للانسكاب البطيء شتاءً، ترتفع إلى 42% في حالة الانسكاب الصيفي السريع.
ويُمكن أن يواجه عمال التنظيف والأفراد الآخرون المعرضون مباشرة للزيت خطرًا متزايدًا بنسبة 530% فيما يتعلق بأمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي؛ نتيجة استنشاق الجسيمات الدقيقة، حيث يبلغ تلوث الهواء أعلى مستوياته في منطقة الجوار المباشر للتسريب مسجلًا مستويات PM2.5 (مواد جسيمية دقيقة ناجمة عن احتراق النفط الخام) تصل إلى 1600 ميكروجرام/م3.
• تعثر الاقتصاد اليمني وتهديد التجارة العالمية: يحمل الانسكاب النفطي المحتمل مخاطر اقتصادية جمة تطال العديد من القطاعات الاقتصادية ليس اليمنية فحسب، إنما تمتد تأثيراتها إلى السعودية وجيبوتي وإريتريا؛ فعلى سبيل المثال، يُمكن أن يواجه ما يقدر بنحو 9.9 مليون شخص في اليمن و1.5 مليون في المملكة العربية السعودية مخاطر خسائر المحاصيل والعواقب ذات الصلة مثل العرض المحدود للأسواق وارتفاع الأسعار نتيجة ترسب السخام.
وبالنسبة لليمن، قد تؤثر ترسيبات الملوثات على حوالي 500 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية حيث تتغطى ثمار البابايا والحمضيات والمانجو بالسخام، وتتضاءل جودة الذرة والطماطم والسمسم والبطيخ والبطاطا الحلوة، ويعاني حوالي 3.25 مليون مزارع من خسائر في المحاصيل من خلال ضعف النمو أو التلف، مما يقلل من دخلهم ويحتمل أن يهدد سبل عيشهم لمدة عام، وربما تبلغ الخسارة المقدرة في الإنتاج الزراعي 70 مليون دولار أمريكي.
علاوة على ذلك، من المحتمل أن تكون للانسكاب آثار مدمرة على سبل عيش 31500 صياد وأسرهم، وقد يفقد 235 ألف عامل في صيد الأسماك والصناعات ذات الصلة (صنع الثلج والتعبئة والنقل) وظائفهم؛ إذ من المتوقع إغلاق 50% من مصايد الأسماك بسبب الانسكاب النفطي، في وقت يُمثل الصيد مصدر دخل لنحو 1.7 مليون شخص يعيشون في مجتمعات فقيرة وشديدة الفقر. كذلك، يهدد التسريب السياحة المرتبطة بالشعاب المرجانية في البحر الأحمر بما يُهدد خطط اليمن والسعودية لتعزيز السياحة الساحلية. وإلى جانب التأثيرات القطاعية المذكورة، تبلغ التكلفة التقديرية لتنظيف بقعة الزيت المتوقعة نحو 20 مليار دولار، وهي تكلفة باهظة.
أما على صعيد التجارة العالمية، فقد يعيق التسرب وإغلاق الموانئ التجارة العالمية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يبلغ عرضه 29 كيلومترًا في أضيق نقطة له، ويمر عبره 10% من تجارة الشحن العالمية، وقد تؤدي مناطق الاستبعاد التي سيتم إنشاؤها للتنظيف إلى إعادة توجيه حركة المرور، وستتأخر الشحنات لأن السفن التي يُحتمل تعرضها للنفط ستتطلب التنظيف.
• تدمير النظام البيئي: سيؤثر تسريب النفط في البحر الأحمر على المنطقة الأكثر تنوعًا بيولوجيًا في العالم، مع وجود نظام بيئي شديد التنوع البيولوجي يستضيف العديد من الأنواع المستوطنة والموائل الحساسة مثل قاع الأعشاب البحرية وأشجار المانجروف والشعاب المرجانية الأكثر مقاومة للحرارة في العالم.
ويتمثل التأثير الأبرز في نفوق 850 ألف طن من الأسماك، واختفاء 300 نوع من الشعب المرجانية، واختناق 139 نوعًا من العوالق الحيوانية التي تعيش في المياه، وفقدان 115جزيرة يمنية لتنوعها البيولوجي، فضلًا عن خسارة وتدمير محمية جزيرة كمران الشمالية لقربها من السفينة، وهي جزيرة غنية بأشجار القرم والمانجروف والشعاب المرجانية والعديد من أنواع الأسماك وأسماك القرش، وواجهة سياحية مهمة للغوص، ومركز صيد ممتاز. علاوة على أضرار جسيمة بالقاع؛ بسبب ترسب أجزاء الزيت الثقيل في أعماق البحار، وهو أمر له تأثير طويل المدى، وعملية معالجته صعبة ومعقدة ومكلفة.
ختامًا، تُضيف قضية الخزان صافر بُعدًا جديدًا للأزمة اليمنية لا يبدو حتى الآن أنه يُمكن فصلها عن المسار السياسي المتعثر، ويُنذر التباطؤ في معالجتها بوقوع كارثة متعددة الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والصحية والبيئية والسياسية أيضًا، تتزايد احتمالات وقوعها بمرور الوقت.
المراجع
“Anticipated spill from deteriorating Red Sea oil tanker threatens public health, Stanford-led study finds”, Stanford medicine, 11 October 2021, available at: https://med.stanford.edu/news/all-news/2021/10/deteriorating-oil-tanker.html.
“FSO SAFER: A Shipwreck in slow motion (The humanitarian, economic and environmental impacts of an oil disaster in the making in the Red Sea)”, Greenpeace International briefing, December 2021, available at: https://www.greenpeace.org/static/planet4-mena-stateless/2022/01/0fc732ba-fso-safer-a-shipwreck-in-slow-motion.pdf.
“Public health impacts of an imminent Red Sea oil spill”, Nature Sustainability, 11 October 2021, available at: https://www.nature.com/articles/s41893-021-00774-8#MOESM1.
“YEMEN FSO Safer: Impact assessment April–June 2021”, ACAPS, June 2021, available at: https://www.acaps.org/sites/acaps/files/products/files/20210407_acaps_yemen_fso_safer_impact_assessment_april-june_2021.pdf.
“الخزان صافر… ورقة الحوثي لابتزاز العالم تنذر بكوارث هائلة”، المرصد المصري، 6 سبتمبر 2020، متاح على: https://marsad.ecss.com.eg/39101/.
.
رابط المصدر: