فى نوفمبر الماضى، اعتبر وزير العدل الألمانى «بوشمان» الضربات الروسية التى استهدفت بشكل مباشر إمدادات الكهرباء والتدفئة الأوكرانية، قبل أشهر الشتاء الباردة، جريمة الحرب الرهيبة. كونها كانت تتم بشكل متعمد من قبل القوات الروسية، ولم تكن حدثا عرضيا أو وقعت على سبيل الخطأ فى خضم القتال المستعر حول أهداف عسكرية هنا أو هناك. اليوم العالم بأكمله يرقب توابع تفجير «سد كاخوفكا» فى أوكرانيا بقلق بالغ، بعد حالة الدمار الكبير التى خلفتها الانهيارات التى أصابت جسم السد، وتسببت فى هذا الايذاء المباشر لسكان المناطق المحيطة فى «خيرسون».
الخميس الماضى كان الرئيس زيلينسكى فى موقع الحدث ليقف على عمليات الإجلاء الواسعة، التى تجرى منذ أيام لانتشال أكبر عدد ممكن من المحاصرين بالمياه. المناطق المنكوبة بالقطع أكبر من قدرات الدولة الأوكرانية فيما يخص استيعاب هؤلاء، أو التقدم من أجل إزالة آثار ما جرى لكنها تعمل بالإمكانات المتوافرة لديها، حتى وإن اقتصرت فى بعض المشاهد على مجرد توزيع زجاجات مياه الشرب والحليب ولفافات الأغذية، عبر المراكب المطاطية التى تتحرك بها فرق الإغاثة كى تصل لهؤلاء المحاصرين. المناطق التى غمرتها الفيضانات القادمة من الخزان المائى للسد، لم تفرق بين المناطق التى تسيطر عليها أوكرانيا أو غيرها الخاضعة للسيطرة الروسية. منذ اللحظة الأولى وكل من روسيا وأوكرانيا تتبادلان الاتهامات بشأن تدمير السد، الذى يقع على خطوط التماس بين قواتهما، ويتشاركان أيضا فى وصف ما جرى باعتباره «هجوما إرهابيا» وإن كانت كييف تزيد على ذلك باعتباره كارثة بيئية غير مسبوقة. مما دفعها لتقدم باتهام رسمى بحق موسكو أمام محكمة العدل الدولية، التى ردت على المحكمة الدولية بمذكرة مضادة أوردت فيها أن نظام كييف لم يشن هجمات مدفعية مكثفة على السد ليلة 6 يونيو فحسب، بل قام أيضا برفع منسوب المياه فى «خزان كاخوفكا» عمدا إلى مستوى حرج مسبقا !
فى أبريل 2022، أعلن الجيش الروسى دخول مدينة «ماريوبول»، التى تمثل الميناء الاستراتيجى لأوكرانيا على بحر آزوف، وقد سمحت السيطرة على ماريوبول لروسيا ضمان التواصل بين قواتها فى شبه جزيرة القرم مع المناطق الانفصالية فى «إقليم دونباس». لكن حينها واصل نحو 2000 مقاتل أوكرانى القتال متحصنين فى أنفاق «مصنع آزوفستال» تحت الأرض مع ألف مدنى من العمال وسكان تلك المنطقة، وقاوم المقاتلون حتى آخر طلقة وبعد نفاد الذخيرة منهم، تواصل الجانبان لتسوية تسمح بخروج هؤلاء دون أسلحتهم والعودة إلى الداخل الأوكراني. لكن ما تكبدته كييف من خسائر على صعيد البنية التحتية الصناعية، كانت دلالاته فارقة ميدانيا إلى حد كبير بعد أن تكشف أن نحو 90% من ماريوبول دمرت وقتل فيها ما لا يقل عن 20 ألف شخص. هذا الفصل من الحرب الروسية، وغيره على ذات الشاكلة، ربما يفسر نمط الهجمات الأوكرانية المضادة التى تمكنت مؤخرا من عبور خطوط التماس والوصول للعمق الروسى، كونها تضع البنية التحتية الروسية موضع استهدافها الرئيسى، وتمثلت فى محطات توليد وتوزيع الكهرباء الكبرى وبعض من المستودعات الاستراتيجية للوقود. هذا بالتأكيد يرفع الكلفة الفادحة للحرب على الجانبين، ويصل بضغط مباشر على أعصاب مواطنى الدولتين، مما يتسبب تلقائيا فى ارتفاع منسوب الاحتقان لمستويات تفتح آفاق الصراع وتتجه عكسيا بعيدا عن أى تسوية محتملة.
نشرت الدورية الأمريكية الشهيرة «فورين بوليسى» تحليلا أوليا مهما بعنوان ماذا يعنى انهيار سد أوكرانيا بالنسبة للحرب؟ جاء فيه أن الانهيار يلقى بظلال من الشك على سلامة محطة «زابوريجيا» للطاقة النووية على المدى الطويل ومدى صلاحيتها، بموقعها القريب من السد فضلا عن تقديمه لها مياه التبريدالتى تحتاجها مفاعلات المحطة. لكن التحليل وقف أيضا عند التفسير الروسى، الذى يصف ما جرى بأنه يقوض جهود الحرب الخاصة به على المدى الطويل، حيث يغذى السد قناة توفر 85% من المياه لمنطقة القرم ذات الأهمية الاستراتيجية. كما عاد تحليل «فورين بوليسى» للاستشهاد ببعض الوقائع التاريخية المشابهة، عن استخدام السدود وإغراق الأراضى الواسع أثناء الحروب والنزاعات. وللمفارقة هناك واقعة تاريخية كان بطلها الاتحاد السوفيتى، الذى قام بتدمير «سد دينيبرو» 1941 فى محاولة لإبطاء تقدم الجيش الألمانى الكاسح عبر أوكرانيا. كما لجأ الصينيون إلى ذات الوسيلة فى 1938، عندما دمرت قوات الكومينتانج السدود على النهر الأصفر لإغراق الغزاة اليابانيين فى الوحل، مما أسفر عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين. لذلك فإن لم يكن هذا النمط جديدا فى التاريخ، يظل هدم سد كاخوفكا فصلا جديدا قاتما فى الحرب الروسية الأوكرانية. كما يرى التحليل الأمريكى أن روسيا فى سعيها لتدمير البنية التحتية الأوكرانية، ومن خلال النموذج الأخير فى منشأة كهرومائية تبلغ قوتها 350 ميجاوات، تجهض أى قدرة لأوكرانيا على المقاومة. حرب البنية التحتية تستعر؛ ويبدو أنها مرشحة للتفاقم خلال الفصول المقبلة رغم ما يبدو من ارتباط وثيق بين اللجوء إلى هذا النمط، وصناعة الكوارث الإنسانية واسعة المدى. نموذج سد كاخوفكا قد يتسبب فى حدوث فيضانات بالمناطق المحيطة، مما يعنى تشريد الآلاف، وتدمير المنازل والممتلكات. كما يمكن للفيضانات أن تلوث إمدادات مياه الشرب، وتجعل من الصعب على الناس الحصول على الغذاء والرعاية الطبية. لاشك هناك تأثير سلبى على الأمن الغذائى العالمى، فأوكرانيا مصدر رئيسى للقمح والحبوب الأخرى، وعليها الآن إيجاد مصادر بديلة للطاقة لتحل محل الطاقة التى كان يولدها السد. لذلك يظل انهيار السد، تذكيرا إضافيا بوحشية الحرب، والكلفة الباهظة التى تفرضها على الجانبين.
.
رابط المصدر: