مدخل لفهم عملية تدوير النخبة السياسية الموالية في مصر

 وسام فؤاد

 

خلال الفترة بين 8 يونيو 2014 وحتى اليوم، شهدت النخبة السياسية الموالية لسلطة 3 يوليو معدل تدوير يمكن اعتباره عاليا. حيث شهدت مصر تغيير وزيرين للدفاع، ورئيسين للأركان، بالإضافة إلى ارتفاع معدل تدوير القيادات العسكرية المركزية، ومن بينها جهاز المخابرات الحربية الذي شهد 3 تعديلات منذ يونيو 2014؛ وهي فترة وجيزة بالنسبة لهذا المنصب، علاوة على تعيين 3 رؤساء وزارات، والإطاحة بأكثر من 140 وكيلا وقياديا بجهاز المخابرات العامة؛ وهي العملية التي تمت عبر 8 قرارات تصفية لقيادات هذا الجهاز حدثت خلال الفترة بين يونيو 2014 ويناير 2017، فضلا عن أسرع حركة لتغيير القيادات المحلية على مستوى المحافظين؛ فمنذ ثورة يناير 2011، شهدت مصر 8 حركات لتغيير المحافظين، منهم 3 حركات فقط قبل الانقلاب و5 حركات بعده، وهو معدل إحلال فائق السرعة. هذا علاوة على تغيير 3 رؤساء وزارة، مع تعديل وزاري واحد لكل رئيس وزارة. وتأتي نتيجة انتخابات مجلس النواب بعد أيام لتضع صيغة رسمية للإطاحة ببعض علامات النخبة السياسية المصرية مثل مرتضى منصور وابنه، والكاتبة الدائمة الإساءة للدين الإسلامي فاطمة ناعوت وغيرهم، لتفتح الباب للتساؤل حول ملامح آلية “تدوير” النخبة السياسية في مصر. محاولة رسم هذه الملامح تقتضي وضع إطار نظري يفسر عملية “تدوير النخبة السياسية المصرية”، ويكشف عن أبرز مكونات وأقسام هذه النخبة، والقسم الذي يطاله التغيير الدوري، ويكشف ملامح أهداف عملية التدوير.

أولا: لمحة نظرية

الحاجة الاجتماعية المستدامة لأي نظام سياسي، أيا كان نوع هذا النظام السياسي، لوجود قلة من الأفراد يمكنهم قيادة الجموع الشعبية، سواء أكانت هذه الجموع منظمة أم فرادى أم حتى متشظين، هو ما يدفع لتكريس مفهوم النخبة الذي تحدث عنه مفكرون وأكاديميون من مختلف المشارب، حتى وإن استخدموا مفاهيم مختلفة للتعبير عن هذه الظاهرة الاجتماعية، حيث نجد مفكري مدرسة “النخبة” مثل “فلفريدو باريتو” و”توم بوتومور” و”سي رايت ميلز”، قد استخدموا هذا المفهوم بصورته تلك؛ بعد تأصيله في التاريخ؛ وصولا إلى فيلسوف اليونان “أفلاطون”، في حين مال التيار اليساري لاستخدام مصطلح “الطليعة” في التعبير، وإن اتجه أحد أبرز مفكري اليسار في منتصف القرن الماضي “أنطونيو جرامشي” لاستخدام مفهوم “المثقف” / “المثقف العضوي” للتعبير عن نفس الظاهرة؛ وإن بمفهوم أو محمول مختلفين لدى هذه المسارات الثلاثة لتناول المفهوم.

أ. تعريف النخبة:

مما سبق نجد أن تعريف النخبة قد اختلف بين مدرسة النخبة الأوروبية وبين اليسار والمفهوم الموسوعي للداعية في الفكر الإسلامي المعاصر، لكن ثمة اتفاق على جوهر أساسي لمفهوم النخبة السياسية يتمثل في امتلاك قلة من الأفراد للمؤهلات الذاتية والموضوعية، وكذا الاستعداد النفسي لممارسة التأثير على القرار السياسي، وعلى الخيارات والمسارات الكبرى للمجتمع، وبهذا فهو لا ينطبق على أصحاب المناصب السياسية الرسمية وحسب، بل يتعداهم إلى الناشطين سياسيا من خلال التنظيمات الحزبية والجمعوية، والمساهمين في مجالات الرأي والفكر، وحتى الصفوة العسكرية ورجال المال والأعمال[1].

غير أن إطلاق مفهوم “النخبة”، وتعميم أركانه المتمثلة في “امتلاك المؤهلات” لا يمكن اعتباره ترسيما دقيقا لملامح النخبة السياسية بشكل عام، وفي الحالة المصرية بشكل خاص. في هذا الإطار، كان من المهم التمييز بين عدة مستويات للنخلة، وصولا إلى تلك الفئة التي يصك لها الباحث تسمية “النخبة السياسية الموالية”، وهي نخبة تتضمن عدة فئات فرعية.

ب. تعريف النخبة السياسية الموالية:

باعتبار الحديث في هذه الدراسة ينصرف إلى الحديث عن النخبة السياسية الموالية لا النخبة المعارضة، وهو ما يحتاج تناولا آخر في حينه، فإن النخبة الموالية يمكن تعريفها بأنها ذلك القسم من النخبة السياسية الذي تصدر عنه أمارات أو إشارات التأييد للسلطة السياسية، والتي يمكن فحصها بالاستناد لتحليل تاريخ أعضاء هذا القسم من النخبة. ويعد تعريف هذا الشطر من النخبة، وتفصيل تقسيماته مهم باعتبار تباطؤ التحول الديمقراطي في بلداننا العربية، ومصر بخاصة، ما يستدعي فهمًا أوفى لأقسام النخب الموالية وأدوارها في بلداننا، وهو فهم وتفصيل لم يقرأه الباحث في المكتبة العربية التي لا يدعي إحاطة بمحتواها التفصيلي في هذا المجال.

ويجدر بالباحث أن ينوه إلى أن تركيز الدراسة على النخبة السياسية الموالية، وتعريفه لها يتضمن شقين إشكاليين: أولهما يتعلق بالدور السياسي للنخب غير السياسية، كالنخب الاقتصادية والثقافية، أو ما يميل الباحث لتسميته بـ “النخبة الموالية التابعة”. حيث يبدو أنه يتجاهل الأدوار السياسية لهذه النخب. غير أن تقسيم الباحث لمفهوم النخبة السياسية الموالية، والذي سنعرض له في الإشكالية الثانية، يعكس تراتبية وظيفية سيتمكن القارئ معها من معرفة موقع هذه النخب الموالية التابعة.

وبرغم أن مفهوم النخبة أكبر من شطره الخاص بالنخبة الموالية، فإن هذا بدوره يثير إشكالية فرعية تتعلق بالنخب غير السياسية التي تقود المجتمع المدني الذي تهمشه السلطات المصرية؛ وهي النخب السياسية والثقافية صاحية الرؤى المستقلة فيما يتعلق بالتنمية وإدارة المجال العام، وحتى السياسة الخارجية، والتي تحرص الدولة على تسميتها بالنخب المعارضة، وهي مساحات من النخب يجري إخراجها من “التيار الأساسي”، إما عبر النفي مثلما تعرف مصر عن قطاع واسع من الفنانين المهجرين مثل خالد يوسف[2] وهشام عبد الحميد وعمرو واكد وخالد أبو النجا وهشام عبد الله ومحمد شومان، أو عبر الاستبعاد من المشاركة في المسار الثقافي داخليا كما يحدث مع قطاع واسع من الفنانين لا يتسع المقام لذكرهم[3].

ولا يمكن في هذا الإطار التغافل عن مسار ترويض قطاع من هذه النخبة بفرض حظر عليها[4]، ثم رفعه بعد تقديم إفادات /أمارات العودة لحظيرة الموالاة. ونفس الحال ينطبق على مساحة النخبة الاقتصادية والعسكرية؛ حيث لا مجال للاستثناء فيما يتعلق بممارسة السلطة. فعلى الصعيد الاقتصادي نجد مسالك السلطة في التعامل مع قطاع من رجال الأعمال بالحرمان من ركائز قوتهم، حيث يحضر في هذا الإطار نموذج مثل صفوان ثابت، علاوة على ما حدث مع رجل الأعمال صلاح دياب في أزمة صحيفة المصري اليوم، والضغوط التي مورست عليه لإخضاع الصحيفة، ثم معاودة القبض عليه لاحقا بسبب تواصلات له مع المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق[5]، علاوة على الضغوط التي مورست على رجل نجيب ساويرس، والتي بدأت بنزع حصصه من وسائل الإعلام التي يملكها، ثم رفض منحه صفقة البنك الاستثماري التابع لمجموعة “سي آي بي CIB” والمتمثل في بنك “سي آي بي كابيتال”[6]، حتى أصدر عدة أمارات بالعودة لمربع الموالاة، قبل أن تتم مكافأته بصفقة النوبة[7].

الأمر نفسه ينطبق على النخبة العسكرية، ويمكن في هذا الإطار الإشارة لحوادث مثل صدام سلطة 3 يوليو مع “أسامة عسكر” الذي اتهمته سلطة 3 يوليو بالفساد[8] قبل أن تضطر – إثر وساطات – لإعادته لمنصب أعلى من منصبه الذي عزل منه[9]، علاوة على ما حدث مع كل من سامي عنان وأحمد شفيق والعقيد محمد قنصوه وفريد حجازي، والقائمة تطول من العسكريين الذين استبعدوا خلال الفترة الماضية، ثم أتى حراك 20 سبتمبر ليكشف أن المستبعدين من المؤسسة العسكرية[10] والقيادات المعزولة من جهاز المخابرات العامة[11] كانوا إحدى مسارات تحريك هذا الحراك إلى جانب المعارضة السياسية الخارجية والداخلية.

الإشكالية الثانية تتعلق بتحفظ الباحث حيال تحويل النخبة السياسية إلى كيان مصمت مغلق على نفسه؛ باستثناء تلك الصلة التي تربطه بالسلطة ذات الصبغة الإلهية التي بيدها المنع والمنح، حيث يراها الأكاديمي محمد سبيلا “نخبة النخب”، أو “سيدة النخب”[12]، حيث تميل إلى أن تكون مصب كل النخب الفرعية، وهو ما يفيد بأن أدوار أفرادها قد تتشابه، أو على الأقل يشي بتجاهل مكوناتها والوظائف المتمايزة لهذه المكونات.

وفي هذا الإطار، يقسم الباحث النخبة السياسية الموالية إلى 4 أقسام فرعية، هي “نخبة القرار”، و”نخبة المساندة” و”نخبة التنفيذ” ونخبة “التحفيز”.

1. نخبة القرار:

هي ذلك القطاع من النخبة السياسية الموالية المسؤولة عن صناعة التوجهات العامة للدولة، والسياسات التنفيذية المرتبطة بهذه التوجهات على المنحى الإستراتيجي. وتتضمن هذه النخبة في مصر رأس السلطة، وكبار المستشارين في الملفات الأساسية، ومسؤولي الاتصال بـ “مراكز المشورة شبه الملزمة” على المستويين؛ العالمي (الولايات المتحدة بصورة أساسية) والإقليمي (الإمارات العربية المتحدة بصورة أساسية)[13]، والقيادات السيادية والأمنية الرفيعة. ويمكن أن يضاف لهذه القائمة رئاسة الوزراء بما يتضمنه المجلس من كبار القيادات البيروقراطية؛ سواء منها ما تأهل لمراتب الوزارة أم أولئك الشاغلين للوظائف البيروقراطية الرفيعة؛ ذوي الخبرة على أصعدة مختلفة “تشغيلية” وحتى “بروتوكولية”.

ويميل رأس سلطة 3 يوليو لاختيار قطاع واسع من أعضاء هذه النخبة من السياسيين الذين يمكن تهديدهم قانونيا؛ وهو ما يعكس رغبة في السيطرة على أعضاء هذا القطاع النخبوي. وفي هذا الإطار نجد رئيس الوزراء الأول له؛ المهندس إبراهيم محلب السابق اتهامه في قضية اختلاس[14]، والدكتور مصطفى مدبولي المتهم أيضا في قضية اختلاس[15]، فضلا عمن توسط بينهما؛ المهندس شريف إسماعيل المتهم بالفساد كذلك؛ فضلا عن اتهام المجتمع السياسي المصري له ببيع الغاز للكيان الصهيوني بسعر بخس أقل من السعر العالمي[16].

ويميل هذا القطاع النخبوي للاستقرار بصورة كبيرة، حيث انتقل رئيس الوزراء إبراهيم محلب من منصبه إلى منصب مساعد الرئيس لشؤون المشروعات الكبرى بعد تعالي اتهامات له بالفساد[17]، ولم يعتزل “إسماعيل” منصبه إلا بعد 3 سنوات لداعي اشتداد المرض عليه؛ وهو يشغل أيضا منصب مساعد الرئيس لشؤون المشروعات الكبرى، فيما يبقى “مدبولي” في منصبه منذ يونيو 2018.

2. النخبة المساندة:

هي ذاك القطاع من النخبة السياسية الموالية الذي يحوز ركيزة قوة قاهرة، وتستند إليه السلطة المركزية من أجل الحصول على دعم من أجل الاستمرار في قلب العملية السياسية. طبيعي أن ينصب الحديث في هذا المقام على المؤسسات العسكرية والأمنية بأنواعها التي تستخدمها سلطة 3 يوليو لإرهاب النخب السياسية غير الموالية للسلطة[18]. وتستخدم سلطة 3 يوليو – كما سلطة مبارك – هذه الأجهزة لتخويف الجماهير عبر صدمات محدودة لكنها مكثفة، مثال ما حدث في المجازر التي شهدتها مصر في عام 2013، ومثل عمليات التصفية خارج نطاق القانون، والوقوف وراء أحكام الإعدام الجماعية المسيسة، والاعتقالات السياسية لفترات طويلة بدون محاكمة، وشيوع أخبار التعذيب والإهانة في مراكز الشرطة، والتساهل في محاكمة مرتكبي هذه الجرائم المنتمين للنخبة السياسية الموالية، وحتى تعيين أحد كوادر الأجهزة الأمنية المتهم باقتراف جرائم التعذيب رئيسا للجنة البرلمانية الخاصة بحقوق الإنسان، وتجاوز الأمر حد تعيين النخبة العسكرية في المناصب المركزية الحساسة لصالح توسيع نطاق انتشار النخبة العسكرية في المؤسسات المدنية للدولة[19]؛ وكان من اللافت أن تعلن وزيرة الصحة الحالية في يوم 22 ديسمبر 2018 بإن مدراء المستشفيات النموذجية التي سيتم تطويرها وعددها (48 مستشفى منها 29 تابعة لوزارة الصحة و19 تابعة للتعليم العالي) سيكونون من العسكريين[20].. إلخ.

يستغل هذا القطاع النخبوي الأخطاء السياسية الحرجة التي تقترفها قطاعات من المعارضة السياسية لتحويل هذا النهج لقاعدة عامة تحت غطاء نشر الفزع عبر تضخيم هذه الأحداث، والتكرار في الإلحاح على وجودها.

وفي مقابل وظيفة المساندة، تحصل النخبة المساندة على دعم سلطوي غير محدود، سواء أكان الدعم الموجه لها باعتبارها مؤسسة؛ من قبيل النفوذ التجاري والصناعي والمالي للمؤسسة العسكرية[21] أو النفوذ التجاري للمؤسسات الأمنية[22]، أو كان هذا الدعم على صعيد المزايا الفردية للمنتمين لهذه المؤسسة بخلاف وضعهم الوظيفي، وهو الدعم الذي يكون في صور تعيينات ما بعد انتهاء مدة الخدمة، أو المكانة الاجتماعية التي تضعهم فوق القانون، على نحو ما رأينا في واقعة “طفل المرور” التي وقعت مؤخرا ونظيراتها[23]، حيث أطلق سراح الطفل، مرتكب جريمة القيادة وهو قاصر، وذلك بعد اكتشاف هوية والده (يعمل قاضيا).

ومن جهة أخرى، يتسم هذا القطاع النخبوي بأن التجنيد لعضوية الدائرة المركزية فيه يتوقف على ما تتصف به من ولاء للسلطة السياسية. ويرتبط بقاء أعضاء هذه النخبة في مراكزهم النخبوية بالاستناد لهذا المعيار من معايير التجنيد. فالمشير محمد حسين طنطاوي بقي في منصبه لأكثر من 20 عاما خلال الولاية الممتدة للرئيس المصري الأسبق “مبارك”. كما لم تتحمل سلطة 3 يوليو الاجتماع الذي جمع كل من الفريق أسامة عسكر والفريق سامي عنان؛ قبيل إعلان الأخير اعتزامه الترشح لرئاسيات 2018. كما حوكم العقيد محمد قنصوه لقيامه – تماما – بنفس السلوك السياسي الذي قام به رأس سلطة 3 يوليو خلال عملية ترشحه لرئاسيات 2014.

تدوير هذا القطاع النخبوي يرتبط كذلك بالعرف المستقر بنفي الشراكة في السلطة، وبخاصة خلال فترة “الارتداد نحو الاستبداد”، ولعل هذا ما يفسر إطاحة سلطة 3 يوليو بكل المراكز التي ساندت انقلاب 2013، وبخاصة وزيري الدفاع والداخلية الذين شاركا في الانقلاب. فالفريق صدقي صبحي الذي حرص على تحصين مركزه القانوني والسياسي دستوريا كوزير للدفاع[24]، لم يكن النص القانوني سندا كافيا لمنع الإطاحة به متى توفرت الشروط الداخلية في هذا القطاع النخبوي لتنفيذ هذه الإطاحة بعد التغييرات التي شهدتها الخبة المركزية للمؤسسة العسكرية المصرية قبيل إقالته، والتي تم العدول عن تهميش قطاع واسع منها في أعقاب حراك 20 سبتمبر[25].

3. نخبة التنفيذ:

فهي ذلك القطاع من النخبة السياسية الموالية، الذي توكل إليه مهمة تنفيذ توجهات السياسة العامة. ويتشكل هذا القطاع من عدد قليل من كوادر البيروقراطية والأجهزة الأمنية، وقطاع واسع من أعضاء الهيئات القضائية المختلفة الذين تتراوح آليات تجنيدهم لعضوية هذا القطاع النخبوي بين الإغواء والتهديد. ويتعاظم دور كوادر الأجهزة الأمنية في هذا الإطار في مساحتين أساسيتين؛ أولاهما زيادة درجة أمننة المجتمع، وشيوع دعايات الشيطنة، وتركيزها على وجود عدو داخلي يجري تضخيم حضوره “الخفي” وتأثيراته “الهدامة” و”المخيفة” في آن، ما يدفع لزيادة حضور كوادر النخبة الأمنية في مختلف مفاصل الدولة، فنجده يتولى منصب المحافظ[26]، وسكرتير المحافظة[27]، ومستشار المحافظ، وسكرتير المدينة[28]، ورؤساء المجالس المحلية[29] ورؤساء الأحياء[30]. وتستخدم هذه المناصب كأداة للتنفيذ وكمكافأة في آن. ومن أهم الوظائف التي تلعبها هذه النخبة التنفيذية أنها تشارك بقوة في صناعة الرأي العام، وتحويله، وتهيئته لتقبل القرارات، وحتى لتهديده إن تطلب الأمر[31].

ويتسم هذا القطاع لأن يكون أكثر قطاعات النخبة السياسية الموالية استقرارا، وذلك لتجنيب مكوناته الشعور بالتهديد، ومن ثم تحفيزهم لتأدية أدوارهم. كما يتسم من جهة أخرى بأنه خفي عن الأنظار، حيث لا يعلم عن وجوده أو عن شخوصه شيء إلا في حالة حدوث أزمة تؤدي للكشف عن أدواره على نحو ما حدث مع المقدم “أحمد شعبان” من جهاز المخابرات العامة، أو الضابط “أشرف” الذي اشتهر من خلال تسريبات توجيهه للممثلين المصريين فيما يتعلق بتصريحاتهم الإعلامية؟ ويتحول استمرارهم في أداء وظائفهم أحد أهم ركائز قدرات السلطة على الضبط والسيطرة؛ عبر مراكمة هؤلاء “التنفيذيين” للخبرة في أدائهم لوظائفهم.

4. نخبة التحفيز:

القطاع الرابع من النخبة السياسية الموالية هو قطاع “نخبة التحفيز “، وهو قطاع هامشي من النخبة السياسية الموالية؛ دوره المبالغة في إظهار الولاء، ولفت الأنظار إليهم، بما يكفل تسليط الأضواء على تصريحاتهم التي تبالغ في إظهار الولاء، وهو ما من شأنه أن يوحي بأن هناك قدرا عاليا من التأييد الذي تتمتع به سلطة 3 يوليو. وتعد قدرتهم على لفت الأنظار إليهم إحدى أهم مؤهلات تحولهم إلى مربع النخبة السياسية الموالية. ومن قبيل هذه النخبة القاضي أحمد الزند والمحامي مرتضى منصور والكاتبة فاطمة ناعوت والإعلامي إبراهيم عيسى وغيرهم.

يرجع الملمح الخاص بهامشية دور مكونات هذا القطاع من النخبة إلى أنه لا يمتلك مؤهلات هيكلية مثل الثروة الضخمة مثل رجال الأعمال الكبار أو العصبية الدولتية مثل النخبة العسكرية والجهاز البيروقراطي، ويمكن حصر ركائز القوة التي يحصلون بموجبها على حضورهم في امتلاكهم مهارات الظهور ولفت الأنظار والقدرة على إثارة الرأي العام. وفي هذا الإطار، اتسم “الزند” بتصريحاته السياسية المثيرة للجدل مثل (أنا راجل بتاع شاي وقهوة) و(ابن الزبال لا مكان له على منصة القضاء)، كما اشتهر “منصور” بسلاطة اللسان وقدرته على إثارة القضايا التي تتحول – بعد التغطية الإعلامية – لشغل المجال العام، إن جاز استخدام مصطلح المجال العام في مصر، كما يشتهر “عيسى” بهجومه على الحديث النبوي، فيما تشتهر “ناعوت” بمهاجمة تعاليم الديانة الإسلامية ككل.

ويجد هذا القطاع النخبوي طريقه من النخبة التابعة للنخبة الموالية عبر بوابة المركز القانوني الرسمي، حيث تتجه السلطة لتعيين من تشاء منهم إما في مراكز تنفيذية أو مراكز تشريعية عبر السلطات المخولة لرئيس الجمهورية، وبعض هذه النخبة يفضل الحصول على مساندة ودعم الأجهزة الأمنية للحصول على لقب “نائب منتخب”؛ حيث ينظرون لأعضاء المراكز القانونية الرسمية المعينين نظرة دونية فيما يتعلق بمكانتهم السياسية وقدرتهم على التأثير في الجماهير وقيادتها.

وتعد إحدى أهم ملامح هامشية دورهم ذلك اليسر الذي تجري به عملية استبدالهم، على نحو ما حدث مع المحامي مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك؛ ومع الكاتبة فاطمة ناعوت في نيابيات 2020، والإطاحة بإبراهيم عيسى من “حوش عيسى”[32]، والإقالة التأديبية لعدد من الإعلاميين؛ منهم أسامة كمال ومعتز عبدالفتاح ومحمد الباز وتامر أمين ومحمد مصطفى شردي[33] قبل أن تعيدهم أجهزة سيادية لعوارضهم الإعلامية بعد فترة.. إلخ.

 تدوير النخبة السياسية الموالية

خلال الفترة بين 8 يونيو 2014 وحتى اليوم، شهدت النخبة السياسية الموالية لسلطة 3 يوليو معدل تدوير يمكن اعتباره عاليا. حيث شهدت مصر تغيير وزيرين للدفاع، ورئيسين للأركان، بالإضافة إلى ارتفاع معدل تدوير القيادات العسكرية المركزية[34]، ومن بينها جهاز المخابرات الحربية الذي شهد 3 تعديلات منذ يونيو 2014؛ وهي فترة وجيزة بالنسبة لهذا المنصب، علاوة على تعيين 3 رؤساء وزارات، والإطاحة بأكثر من 140 وكيلا وقياديا بجهاز المخابرات العامة؛ وهي العملية التي تمت عبر 8 قرارات تصفية لقيادات هذا الجهاز حدثت خلال الفترة بين يونيو 2014 ويناير 2017[35]، فضلا عن أسرع حركة لتغيير القيادات المحلية على مستوى المحافظين؛ فمنذ ثورة يناير 2011، شهدت مصر 8 حركات لتغيير المحافظين، منهم 3 حركات فقط قبل الانقلاب و5 حركات بعده[36]، وهو معدل إحلال فائق السرعة. هذا علاوة على تغيير 3 رؤساء وزارة، مع تعديل وزاري واحد لكل رئيس وزارة.

هذا على المستوى المتعلق بالدوائر النخبوية الثلاثة الأولى. أما على صعيد الدائرة الرابعة “نخبة التحفيز”، فإن معدل التدوير فيها محدود، بالرغم من أن تدويرها أمر هين على نحو ما أوضحنا عاليه؛ لافتقار هذه النخبة لركائز قوة صلبة تمكنها من رفع قدراتها التفاوضية في مواجهة الجسد الرئيسي للنخبة. وبدا خلال الفترة الماضية أن معدل الاستقرار يرجع لامتلاك البعض “وسائط إذعان”؛ من تسجيلات صوتية ومرئية؛ مكنتها من البقاء في مراكزها لفترة طويلة، غير أن وسائط الإذعان تبدو في طريقها لفقدان أهميتها بالنظر لقدرة السلطة على إلحاق الأذى بملاك “وسائط الإذعان”، ما يدفعهم إما للهرب مثلما فعل الصحافي عبد الرحيم علي[37]، أو للصمت مثلما فعل مرتضى منصور في واقعة “النادي النهري” عندما أدرك هوية السيدة التي ارتكبت المخالفة الأخلاقية في فرع النادي، والذي أدى تعامله معها للعصف بمستقبله السياسي، برغم أنه كان موقفا متوازنا رفض فيه فضحها عبر تسليمها للشرطة.

وفي هذا الإطار، تعتبر آلية تدوير النخبة المصرية آلية وظيفية، تتمثل منافعها الأكبر في كونها “آلية تأمين سلطوي”، بجانب كونها “آلية تأديب سلطوي”. ويمكن التعرف على وظائف آلية تدوير الخبة فيما يلي:

1. مسار تحييد مصادر التهديد:

يتعلق هذا المسار بهدف إدارة التهديدات الصادرة عن نخبتي “المساندة” و”التنفيذ” بصورة أساسية بغية تحييدها. فمن أهم وظائف آلية تدوير النخبة أنها تعد وسيلة لتجريد مصادر التهديد من المراكز القانونية التي تمنحها قوة إصدار القرارات التي تمثل تهديدا للنخبة المركزية. ويعد المنصب أحد أهم وسائل التوزيع القانوني للقوة السياسية داخل المجتمع السياسي، وغالبا ما ترتبط به القوة السياسية، ولا يتجاوزها في الأهمية إلا قدرة شاغلي المراكز القانونية على استغلال الموارد المتاحة بين أيديهم لبناء مراكز تأثير غير قانونية /شللية، خاضعة لهم[38]. إن تنوع المراكز القانونية وغير القانونية على هذا النحو يحدد آلية تحييد التهديد. فشاغل المنصب يمكن إبعاده من منصبه، أما مركز القوة المعتمد على المراكز غير القانونية في بناء الولاء؛ يتم التعامل معه بالإبعاد خارج مراكز التأثير تماما، وهو ما يفسر حجز شخصية بوزن الفريق أسامة عسكر في أحد فنادق الحرس الجمهوري[39] قبل جهود الوساطة التي أعادته لاعبا رئيسيا في أوساط النخبة العسكرية، أو وضع كل من أحمد شفيق وسامي عنان قيد الإقامة الجبرية بعد الإفراج عن الأخير.

ففي المؤسسة العسكرية – على سبيل المثال، والمؤسسة الشرطية كذلك – برغم كونها مؤسسة مدنية، فإن المنصب فيها يخول لحائزه سلطة إصدار قرارات ملزمة من المستويات الأعلى للمستويات الأدنى، ويمثل الانضباط المؤسسي وفق هذه القيمة مصدر التهديد الأساسي، وبخاصة عندما يصدر عن قيادة لها وزنها وقدرتها على التأثير في مواقف جموع واسعة ومؤثرة من ضباط هاتين المؤسستين. ونادرا ما نجد في المؤسسة العسكرية من يحوز القدرة على التأثير خارج إطار المركز القانوني، ويعد المشير حسين طنطاوي ومن قبله المشير عبد الحليم أبو غزالة أحد أبرز النماذج على هذا التأثير من خارج المركز القانوني.

في هذا الإطار، أتت إقالة جميع قيادات المجلس العسكري، باستثناء رئيس الأركان الحالي محمد فريد حجازي؛ واللواء أركان حرب ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية. وكان من بين القيادات التي أطيح بها الفريق صدقي صبحي، وزير الدفاع وغيرهم من القيادات. وفي حركة تغييرات شهر يونيو 2020 على سبيل المثال، أقال رأس سلطة 3 يوليو اللواء عماد الغزالي من منصبه أمين عام وزارة الدفاع، وكان “الغزالي” يتولى قيادة المنطقة المركزية العسكرية أثناء حراك 20 سبتمبر 2019، ورفض انتشار الجيش في الشوارع خلال هذا الحراك، ما أدى لتعزيز الحراك. هذا علاوة على إقالة اللواء يحيي الحميلي من منصب رئيس هيئة التدريب، بعد إعادته إليه مع وساطة المشير “طنطاوي” في ديسمبر 2019. وكان “الحميلي” على خلاف دائم مع السيسي في عدة ملفات، من بينها ملف الانتشار ومنهج المعالجة العسكري في شمال سيناء، وكان من ضمن القيادات التي أطاح بها السيسي بعد “ثورة الغلابة” في نوفمبر 2016[40]. وينطبق الحديث نفسه على “أسامة عسكر” الذي اتجه لتأييد سامي عنان في رئاسيات 2018[41].

جدير في هذا الإطار أن الوساطة السياسية تعد أحد آليات تسوية الصراعات في المنظومات الهير ركية، وغالبا ما يقوم بها أشخاص ذوي قوة رمزية، إلى جانب آليات أخرى مثل تعزيز المنافسة وحتى الكراهية عبر المراكز القانونية المتصارعة، أو الإقالة والإبعاد، أو حتى الترقية العقابية /الإبعادية، أو الاعتقال، وحتى العنف واسع النطاق على نحو ما حدث في خواتيم الفترة الناصرية بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر. وبخلاف ذلك، فإن الصراعات في المؤسسة العسكرية لا يمكن معالجتها بآليات التسوية المدنية مثل التفادي أو التفاوض أو المصالحة.. إلخ.

وفي نفس المربع، أطاح رأس سلطة 3 يوليو بعدد كبير من قيادات جهاز المخابرات العامة، بدءً باللواء محمد رأفت شحاتة، مدير جهاز المخابرات العامة أثناء فترة حكم الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، وعين بدلاً منه اللواء محمد فريد تهامي، حيث أطاح خلال ولاية التهامي “الأب الروحي للسيسي” كما يشاع داخل الجيش، بالعشرات من وكلاء الجهاز وقتها من المحسوبين على إدارة عمر سليمان. قم أقال السيسي اللواء “التهامي” بعد صدامه مع اللواء عباس كامل، ليعين اللواء خالد فوزي، ويطيح معه بالعشرات من وكلاء الجهاز ليعين بدلا منهم عشرات من المخابرات الحربية، قبل أن يقيله بسبب الخلاف حول ملفات “سيناء” و”تيران وصنافير” و”انتخابات 2018″[42].

غير أن تحييد التهديد لا يقتصر على الأجهزة الأمنية والسيادية. ففي سبتمبر 2017، أعلن المستشار محمد جميل رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة عن تراوح تعداد العاملين بأجهزة الدولة في هذا التوقيت ما بين 5.5 و5.7 مليون موظف، وهو ما يعني تراجعا بنحو مليون موظف عن آخر تعداد معلن للموظفين في 2013، حيث استغلت البيروقراطية الصناديق الخاصة لتعيين نحو مليون موظف خلال فترة ما بعد ثورة يناير 2011. وبرغم أن من أحيلوا للتقاعد القانوني خلال السنوات الأربع بين 2013 و2017 لم يتجاوز 300 ألف موظف[43]، فإن الفارق يكشف عن تصفية أكثر من نصف مليون من القيادات البيروقراطية، والتي نظر إليها باعتبارها ذات صلة بفترة حكم مبارك. وخلال فترة 2018، بدأ الاتجاه نحو تصفية المحسوبين على الحزب الوطني المنحل من الموظفين الذين تثبت التحاليل الطبية تعاطيهم للمخدرات (مارس 2019[44])، فضلا عن صدور قرار فصل المعلمين المشتبه بانتمائهم للتيار الإسلامي (أكتوبر 2019[45]).

2. مسار المكافأة:

يمثل هدف المكافأة الوجه الثاني لعملة “تحييد التهديد”، غير أنه يشهد توظيفا بدرجة أعلى فيما يتعلق بنخبتي “التنفيذ” و”التحفيز”. فالمراكز القانونية التي يطاح بشاغليها يعاد تدويرها لصالح المجندون الجدد للنخبة المركزية. ويعد مسار المكافأة أحد أهم آليات النظام لتعزيز تماسك النخبة المؤيدة له؛ وهي الصورة المكيافيللية التقليدية في كسب الحلفاء الجدد، حيث يستخدم المنصب كأحد مصادر مكافأة من يقدم الولاء وأماراته خارج المراكز القانونية. وفي مصر، يمكن النظر لانتخابات مجلس الشورى باعتبارها أحد أبرز تجليات مسار المكافأة، فبرغم صورية العملية الانتخابية في مصر، وبرغم تكلفتها الهائلة، إلا أن سلطة 3 يوليو اهتمت باستحداث هيكل جديد لاحتواء “النخبة التابعة الموالية” في بنيان “النخبة السياسية الموالية”، ومن ثم نصت التعديلات الدستورية لعام 2019 على استحداث هذا المجلس[46]، وكان أحد أبرز مظاهر المكافأة التي انتهى إليها مجلس الشيوخ تعيين المستشار عبد الوهاب عبد الرزاق، رئيسا لمجلس الشيوخ بعد تعيينه رئيسا لحزب “مستقبل وطن” الذي يمثل الأداة الحزبية لسلطة 3 يوليو. وكان “عبد الرزاق قد انحاز لمسلك سلطة 3 يوليو في موقفها من قضية جزيرتي تيران وصنافير، كما أنه سبق له أن أصدر أحكاما ببطلان الانتخابات النيابية لكل من “مجلس الشعب” و”مجلس الشورى” خلال الفترة بين ثورة يناير 2011 وانقلاب يوليو 2013[47].

الأهم من وظيفة المكافأة – في ذاتها – فيما يتعلق بمسار المكافأة المتعلق بتدوير النخبة، أن هذا المسار من شأنه أن يحفز “النخبة التابعة الموالية” لإبداء الولاء والمبالغة فيه، آملين في الأخير أن يجدوا التقدير في تمريرهم للنخبة السياسية الموالية مثلما حدث مع المستشار “عبد الرزاق”. وهي الآلية التي كان يعرفها المصريون وفق الاصطلاح الذي وضعه الثنائي الخلاق المكون من الكاتب المصري الساخر أحمد رجب ورسام الكاريكاتير المصري الراحل مصطفى حسين باسم “عبده مشتاق”، وهي تسمية أيقونية موضوعها ذلكم الشخص المتملق التواق للمنصب والسلطة الذي يستشعر إرهاصات التغييرات في المناصب والمواقع كما تستشعر الحيوانات وقوع الزلازل قبل البشر، ليبدأ بالإحماء والاستعداد لخوض معركة جذب الانتباه[48]. وتعد عملية توسيع قاعدة الراغبين في الاستفادة من علاقتهم بالسلطة السياسية، وتجديدها باستمرار من أهم آليات تدوير النخبة وتوسيع قاعدة الرضا عن السلطة الحاكمة في أوساط النخبة التابعة.

3. مسار امتصاص الغضب:

الهدف الثالث من أهداف عملية تدوير النخبة يتمثل في امتصاص غضب الشارع، ومنعه من الاحتقان، أو تفريغ هذا الاحتقان، حتى وإن لم يترتب على تدوير النخبة أي تغيير حقيقي في التوجهات السياسية. تلعب أجهزة الاستخبارات في الدول الجنوبية دورا بارزا في تسليط الضوء على مجموعة من أعضاء النخبة التحفيزية، وتدفعهم لمربع الأضواء بصورة اصطناعية، سواء عبر اختلاق مشكلات تهم قطاعا واسعا من البسطاء، أو تلك المشكلات التي تثير عواطفهم الاجتماعية والدينية وحتى الطائفية والعرقية، وإن اختلفت هذه الإلهاءات بين دولة وأخرى بحسب ظروفها الاجتماعية والثقافية والدينية. وإن وجدت طرائق متشابهة مثل كرة القدم والنخب الفنية وصراعاتها المفتعلة، ولا مانع من وجود إستراتيجية مزدوجة لتشويه القوة السياسية الأساسية، ورموز النخب المعارضة.

وسبق للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي أن وضع مقالا حول آليات وإستراتيجيات التحكم في الشعوب، تمثلت في الإلهاء بقضايا وافتعال المشاكل وتقديم الحلول لها، وإيهام العامة بالطفولية أو بالذنب، ودفع المواطنين لمربع العاطفية والجهل والرضا بخاصيتي هذا المربع[49].

وفي مصر، يمكننا أن نلحظ استخدام مشكلات كرة القدم المتكررة، وافتعال بعض هذه المشكلات، من قبيل تأجيل المباريات وتحيزات الحكام، أو مشاكل النخب الفنية من قبيل فضائح الزواج العرفي والفساتين العارية وأجور الممثلين والفضائح الأخلاقية و”حمو – بيكا” وتحويل الراقصة فيفي عبده إلى الأم المثالية، ومنح إحدى الممثلات خاتم الرسول، أو مشاكل الطائفية من قبيل التهجم على القرآن والسنة في البرامج التلفزيونية والفتاوى المثيرة للجدل مثل فتاوى إرضاع الكبير أو تحريم تجسيد الأنبياء، هذا فضلا عن المنحى الطائفي الذي يجري دفع الأحداث إليه عبر خلق شعور دائم بالفزع لدى الأقباط من كل ما يمثل الديانة الإسلامية بشكل غير رسمي. ويضاف إلى ذلك في النهاية ضرورة تجميع كل هذه القضايا في قائمة بالأسماء المؤيدة للسلطة، وبلورتها باعتبارها مركز السخط الشعبي، ثم الإطاحة بها. فكما أوهمت الأجهزة الأمنية العامة بارتباط التيار الإسلامي في مصر بالإرهاب والاستبداد “المحتمل” والتوجه بمصر نحو الطائفية؛ ومن ثم التخلص من فاعليتهم تدريجيا، كذلك كان شخوص مثل عمرو الشوبكي مسؤولة عن خيانة “ثورة يناير”، وأي من الأذرع الإعلامية يمكن اعتباره مسؤولا عن الانحطاط الإعلامي، خالد يوسف مسؤولا عن التدني الأخلاقي، ومرتضى منصور مسؤولا عن الإحباط الكروي، وفاطمة ناعوت مسؤولة عن الإساءة للدين.. إلخ، ومن ثم استخدام هذه الإحباطات مدخلا للتخلص منهم، ومكافأة نخب بديلة لهم بالحلول في مركز “النخبة السياسية التحفيزية”، وقد يعاد تدوير بعضهم لاحقا أو لا يعاد، فهذه ليست مناط التركيز، فالمهم أن يجري التخلص من الاحتقان بالتضحية ببعض النخبة ممن لا يمثلون ثقلا حقيقيا للسلطة السياسية.

خاتمة

وفيما حاولت هذه الورقة أن تسلط الضوء على المتغافل عنه من جانب النخبة الموالية، وبنيتها وعوامل قوتها وآليات وأسب بتدويرها، عملية تدوير النخبة من أهم عمليات إنتاج “قادة رأي عام” مؤيدين للسلطة السياسية. ففقدان الأمل في تبوؤ مكانة سياسية واجتماعية بارزة من أهم عوامل إحباط الأفراد الحائزين للمواهب القيادية. كما أن آلية التدوير تلك – بحدودها التي تناولناها في الدراسة مهمة لامتصاص الغضب من خلال العمل على بلورة السخط الاجتماعي حول أشخاص بعينهم أو تنظيمات بعينها أو حتى عبر مشاكل مختلقة، ثم تفريغ الاحتقان بالعصف بهؤلاء الأشخاص والتنظيمات أو بإخراج الحلول المؤجلة للمشكلات المفتعلة.

الهامش

[1] بوروني زكرياء، النخبة السياسية وإشكالية الانتقال الديمقراطي: دراسة حالة الجزائر، جامعة منتوري؛ قسنطينة، كلية الحقوق قسم العلوم السياسية، رسالة ماجستير غير منشورة، ص: 122.

[2] المحرر، برلمانيون مصريون: خالد يوسف لن يعود من فرنسا، صحيفة “العربي الجديد”، 1 مايو 2019. https://bit.ly/3kVub96

[3] كرمة أيمن، علاء زينهم ليس الأول.. فنانون مُنعوا من التمثيل، بوابة “مصر العربية”، 28 يناير 2020. https://bit.ly/3m5PXbx

[4] مراسلون، الأجهزة الأمنية المصرية منعت نشر أخبار عادل إمام في الصحف، موقع “الخليج أونلاين” الإخباري، 7 مايو 2019. https://bit.ly/3l47dN3

[5] إبراهيم قاسم – بهجت أبو ضيف، تفاصيل القبض على صلاح دياب داخل فيلته بمنيل شيحة بأبو النمرس اليوم .. رجل الأعمال صدر ضده أمر بالضبط والإحضار لارتكابه مخالفة بناء فى مصنع مملوك له بالبساتين .. والتحقيق معه وفقا لقانون مخالفات البناء، صحيفة “اليم السابع” المصرية، 1 سبتمبر 2020. https://bit.ly/378YPqu

[6] إيهاب فاروق، فشل مسعى ساويرس لاقتناص بنك الاستثمار المصري سي.آي كابيتال، وكالة “رويترز” للأنباء، 9 يونيو 2016. https://bit.ly/3pTxCkt

[7] محمود مصطفى، ساويرس: أحترم أهل النوبة.. وجزيرة “آمون” ملك شقيقي بعقود مسجلة، موقع “مصراوي”، 12 نوفمبر 2019. الرابط

[8] المحرر، أنباء عن احتجاز «أسامة عسكر» في فندق «الماسة» لاختلاسه 500 مليون جنيه.. ومغردون: تصفية حسابات، شبكة “رصد” الإخبارية، 20 مايو 2018. https://bit.ly/377Bjdp

[9] مراسلون، كواليس خطة السيسي لتهدئة الجيش وتوزيع صلاحيات إدارة المخابرات، صحيفة “العربي الجديد”، 24 ديسمبر 2019. الرابط

[10] محمود جمال، حركة تنقلات الضباط يونيو 2020: الأسباب والتداعيات، المعهد المصري للدراسات، 19 يونيو 2020. https://bit.ly/33cJiVN

[11] مراسلون، ذكرى 20 سبتمبر المصري: عام من استرضاء المؤسسات الأمنية، صحيفة “العربي الجديد”، 20 سبتمبر 2020. https://bit.ly/3pXNylD

[12] محمد نبيل الشيمي، النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر، المركز الديمقراطي العربي، 27 يناير 2016. الرابط

[13] مراسلون، مصر والإمارات: من الدعم المطلق إلى الدفع مقابل المواقف، صحيفة “العربي الجديد”، 3 أكتوبر 2020. https://bit.ly/3pRR010

[14] المحرر، رئيس وزراء مصر ينسحب “غاضبا” من مؤتمر صحفي في تونس بسبب سؤال، موقع “قناة فرانس 24″، 9 سبتمبر 2015. الرابط

[15] المحرر، بالمستندات.. ننشر أخطر تقرير رقابي عن فساد “المجتمعات العمرانية”، صحيفة “البوابة” المصرية، 1 مارس 2016. الرابط

[16] المحرر، سياسيون مصريون يتهمون رئيس الوزراء الجديد بالفساد، بوابة “الشرق” المصرية، 13 سبتمبر 2015. https://bit.ly/2JR0glr

[17] المحرر، كيف استبدل السيسي وزارة “الفساد” برئيس وزراء منها؟، موقع “نون بوست”، 12 سبتمبر 2015. https://bit.ly/3pg9Gaz

[18] علاء الأسواني، هل انتصر السيسي على الثورة…؟!، موقع “قناة دويتشه فيله”، 1 أكتوبر 2019. https://bit.ly/33bZkza

[19] انظر: مجموعة باحثين.. عسكرة السياسة وتجديد السلطوية، تونس، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2018.

[20] أمجد حمدي، عسكرة الوزارات المدنية: وزارة الصحة نموذجا، المعهد المصري للدراسات، 21 مارس 2019. https://bit.ly/3npGg8j

[21] روبرت سبرنغبورغ – أف. سي. “بينك” وليامز، الجيش المصري: العملاق المُستيقظ من سباته، معهد كارنيجي للسلم الدولي، 28 فبراير 2019. الرابط

[22] محمود عبد الراضي، منافذ أمان توفر السلع الغذائية للمواطنين بأسعار مخفضة قبل احتفالات عيد الشرطة.. سيارات محملة بالأغذية تستهدف القرى والنوع.. و”أمان الخير” تتكفل بإجراء عمليات لغير القادرين وترمم دور الأيتام، صحيفة “اليوم السابع” المصرية، 21 يناير 2020. https://bit.ly/36EMDhh

[23] قناة “BBC News عربي”، طفل المرور في مصر: ما قصته ولماذا أثار استياء المصريين؟، موقع “يوتيوب”، 3 نوفمبر 2020. https://bit.ly/2JTySDr

[24] مراسلون، السيسي يخطط لرفع التحصين عن منصب وزير الدفاع، صحيفة “العربي الجديد”، 23 أغسطس 2017 https://bit.ly/3m1CKR3

[25] مراسلون، كواليس خطة السيسي لتهدئة الجيش وتوزيع صلاحيات إدارة المخابرات، صحيفة “العربي الجديد”، 24 ديسمبر 2019. الرابط

[26] وائل فايز، “مناصبهم القديمة والحالية”.. تعرف على خريطة المحافظين في 27 محافظة، صحيفة “الوطن” المصرية، 29 نوفمبر 2019. الرابط

[27] إبراهيم سالم، السيرة الذاتية للواء هشام خشبة السكرتير العام الجديد بالقليوبية، صحيفة “اليوم السابع” المصرية، 29 أغسطس 2020. الرابط

[28] هيثم البدرى وآخرون، قيادات المحليات الجديدة يتحدثون لـ “اليوم السابع” عقب تعيينهم.. سكرتير عام أسيوط: المواطن وخدماته أهم أولوياتي.. وسكرتير البحر الأحمر: نخدم المواطن بأي مكان.. ومساعد الإسكندرية: قرار نقلى تكليف وتشريف، صحيفة “اليوم السابع” المصرية، 5 يونيو 2020. الرابط

[29] هايدي عبد الوهاب، رئيس المجلس المحلى لمحافظة حلوان يحذر من زرائب 15 مايو، صحيفة “اليوم السابع” المصرية، 9 يونيو 2009. الرابط

[30] وائل فايز، السيرة الذاتية لرئيس حي مصر القديمة الجديد: تولى 3 أحياء ورفض رشوة، صحيفة “الوطن” المصرية، 5 سبتمبر 2020. الرابط

[31] يسري البدري، وزير الداخلية يتوعد بإسقاط «عناصر الشر»، صحيفة “المصري اليوم”، 20 سبتمبر 2014. https://bit.ly/2J8qkbT

[32] الشيماء صلاح، تفاصيل عودة إبراهيم عيسى للجمهور ببرنامج جديد، صحيفة “النبأ الوطني” المصرية، 2 يوليو 2020. https://bit.ly/3na5w20

[33] أحمد فاروق، عودة 4 إعلاميين إلى الشاشة عبر بوابة «التوك شو»، صحيفة “الشروق” المصرية، 28 يونيو 2020. https://bit.ly/3eOntAc

[34] بهي الدين حسن، المؤسسة العسكرية المصرية نحو صراع سياسي جديد، معهد كارنيجي للسلم الدولي، 9 مايو 2019. https://bit.ly/3ki8Iqv

[35] المحرر، للمرة الثامنة.. السيسي يطيح بـ 19 مسؤولا من المخابرات العامة، موقع “عربي 21″، 26 يناير 2017. https://bit.ly/3eLFT4L

[36] ابتهال أسامة، 7 حركات محافظين منذ 25 يناير.. الإخوانية الأكثر جدلًا والأخيرة الأضخم عددًا تقرير، صحيفة المصري اليوم، 30 أغسطس 2018. الرابط

[37] المحرر، إعلامي مقرب من السيسي يهرب إلى دبي ويهدد بمستندات تسجن جميع المسؤولين، بوابة “الشرق” الإلكترونية، 27 أكتوبر 2020. الرابط

[38] Joshua Dubrow, Defining and Measuring Political Resources, Political Inequality, 4 JUNE 2008. https://bit.ly/3pzems6

[39] وكالات، احتجاز «عسكر» بفندق السيسي على خطى ابن سلمان، صحيفة “الأمان” اللبنانية، الجزيرة نت، 20 مايو 2019. https://bit.ly/33fjJTG

[40] محمود جمال، حركة تنقلات الضباط يونيو 2020: الأسباب والتداعيات، المعهد المصري للدراسات، 19 يونيو 2020. https://bit.ly/33cJiVN

[41] محمود جمال، عسكر مصر وثورة يناير: السياسات والتحولات، موقع “البوصلة” الإخباري، 11 أبريل 2020. https://bit.ly/3q19ufH

[42] محمود جمال، مصر: ما وراء إقالة رئيس المخابرات، المعهد المصري للدراسات، 27 يناير. 2018. https://bit.ly/3lI8dY9

[43] مصطفى عبد التواب، راجع أعداد موظفي الجهاز الإداري بالدولة.. عدد العاملين ينخفض مليونا ويقترب من الوصول لما قبل “25 يناير”.. “التنظيم والإدارة”: عدد الموظفين الآن 5.7 مليونًا.. والحكومة تطرد الإرهابيين والمدمنين الفترة القادمة، صحيفة “اليوم السابع” المصرية، 15 سبتمبر 2017. الرابط

[44] محمد نصار، فصل فوري وقانون جديد.. كل ما تريد معرفته عن تحليل المخدرات للموظفين، موقع “مصراوي”، 24 مارس 2019. الرابط

[45] عبد الله حامد، بعد فصل معلمي الإخوان.. هل يمهد النظام المصري لتصفية موظفي الحكومة؟، شيكة الجزيرة، 12 أكتوبر 2019. https://bit.ly/3nx06hR

[46] أحمد علي – ميرا إبراهيم، البرلمان يوافق على مواد مجلس الشيوخ ضمن التعديلات الدستورية، موقع “مصراوي”، 16 أبريل 2019. الرابط

[47] عبد الله حامد، قضى بحل برلمان الثورة وسعودية تيران وصنافير.. فكافأه السيسي برئاسة مجلس الشيوخ، الجزيرة نت”، 19 أكتوبر 2020. الرابط

[48] د. مهند العزة، عبده لم يعد مشتاق، 17 أكتوبر 2020. https://bit.ly/3lLrrfD

[49] NOAM CHOMSKY – TOP 10 MEDIA MANIPULATION STRATEGIES, Autocratic for the People. link

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%85%d8%af%d8%ae%d9%84-%d9%84%d9%81%d9%87%d9%85-%d8%b9%d9%85%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%af%d9%88%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ae%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b5%d8%b1/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M