ألقى رئيس الحكومة الإثيوبي، آبي أحمد، في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصريحًا أمام البرلمان الإثيوبي، شدَّد فيه على ضرورة الوصول إلى البحر الأحمر وتأمين منفذ بحري للدولة الإثيوبية. خطاب خلط الأوراق السياسية الداخلية والخارجية في منطقة القرن الإفريقي، وعكس تطلعات آبي أحمد لإحداث نقلة اقتصادية لإثيوبيا الجديدة، إلى جانب امتصاص حالة الهشاشة الداخلية التي تعيش فيها إثيوبيا منذ عام 2020، نتيجة الاضطرابات الأمنية وما أعقب ذلك من تداعيات خطيرة في الحرب الطاحنة في إقليم تيغراي، والتمرد العسكري من جبهة فانو الأمهرية، بالإضافة إلى النزاعات الحدودية بين الإثنيات التي تشكِّل المكون الديمغرافي في إثيوبيا(1).
تلقت هذه التصريحات ردود فعل إقليمية ورفضًا صريحًا لتلك التوجهات، من قبل الحكومة الصومالية الفيدرالية وإريتريا، حيث كانت موانئ تلك الدولتين تحت مجهر أديس أبابا لتحقيق مطالبها للوصول إلى منفذي بحري، من خلال إستراتيجية “الأخذ مقابل العطاء”، لكن تلك التصريحات سرعان ما توجت بعد مرور ثلاثة أشهر بمذكرة تفاهم مع رئيس جمهورية ما يسمى بـ”أرض الصومال” الانفصالية، موسى بيحي عبدي، مع آبي أحمد، في أديس أبابا، في 1 يناير/كانون الثاني الجاري(2).
وتبحث هذه الورقة حيثيات مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا، وردود الفعل التي أثارتها في إقليم القرن الإفريقي والمواقف الدولية والإفريقية، وما خيارات حكومة مقديشو إزاء هذا التعاون بين أديس أبابا وهرجيسا، وأبعاد الصراع الجيوأمني في البحر الأحمر ومآلات ومستقبل العلاقات بين مقديشو وأديس أبابا.
حيثيات مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا
على نحو مفاجئ، وقَّع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مع رئيس جمهورية ما يسمى بـ”أرض الصومال”، موسى بيحي عبدي، مذكرة تفاهم لم يخرج فحواها إلى العلن، وغرَّد آبي أحمد في حسابه على موقع “إكس”: “ماذا يمكن أن نقول غير الثناء للخالق”(3)، باعتبار تلك المذكرة التي وُصفت بالتاريخية تمهيدًا لاتفاق مع أرض الصومال لتحقيق حلمه بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأحمر عبر دبلوماسية الموانئ ومن خلال الإستراتيجية الناظمة للسياسة الخارجية الإثيوبية في مسألة تأمين منفذ بحري، المبنية على مبدأ “الأخذ والعطاء”. أما بيحي عبدي، رئيس حكومة أرض الصومال الانفصالية، الذي قال في المؤتمر الصحفي المشترك مع آبي أحمد: “إن صوماليلاند ستمنح إثيوبيا منفذًا بحريًّا طوله 20 كيلومترًا وقاعدة عسكرية للأسطول الإثيوبي لمدة خمسين عامًا. وفي المقابل، تعترف إثيوبيا رسميًّا بأرض الصومال دولة مستقلة، وهي خطوة قال عنها بيحي: إنها ستشكِّل “سابقة كأول دولة تقدم الاعتراف الدولي لبلدنا”، كما ستحصل أرض الصومال أيضًا على حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية المملوكة للدولة(4).
لكن ما أثار شكوك صوماليلاند أن أديس أبابا لم تصرح بعدُ بمسألة الاعتراف بأرض الصومال دولة مستقلة، كما لم يتطرق إليها آبي أحمد في المؤتمر الصحفي مع موسى بيحي عبدي، ولم تتضمنها البيانات الصحفية التي أصدرها مكتب رئيس الحكومة الإثيوبية للتعقيب على ردود الفعل المحلية بخصوص انتهاك سيادة الصومال؛ الأمر الذي دفع خارجية أرض الصومال إلى القول “إنها لن تمنح إثيوبيا منفذًا بحريًّا على البحر الأحمر، ما لم تقدم أولًا أديس أبابا اعترافها لـصوماليلاند دولة مستقلة”، وصرح وزير خارجية ما يسمى أرض الصومال، عيسى كيد، بأن هرجيسا لم تحدد بعد الميناء الذي سيمثل منفذًا بحريًّا لأديس أبابا، وهو ما فُسِّر بأنه مجرد استهلاك للرأي العام المحلي ومحاولة لامتصاص غضب الشارع في أرض الصومال إزاء المخاوف من توسع إثيوبي نحو مناطق وموانئ الإقليم(5).
أما من الجانب الإثيوبي، فإن مسألة الاعتراف بأرض الصومال لم تختمر عجينتها بعد ولا تزال في طي الكتمان؛ حيث ذكر رضوان حسين، مستشار رئيس الوزراء الإثيوبي للأمن القومي أن حكومته ستنظر في مسألة الاعتراف يصوماليلاند دولة مستقلة بعد وصول القوات الإثيوبية إلى القاعدة العسكرية المطلة على البحر الأحمر، وأخبرونا أن بلدة “لوكهي” الساحلية بإقليم أودل في الشمال الغربي من أرض الصومال ستكون المنطقة الممنوحة لنا، وأوضح رضوان أيضًا أن المنطقة البرية المحاذية للمنفذ البحري ستشمل الاتفاقية بين الجانبين؛ الأمر الذي لم تكشف عنه صوماليلاند بعد، ويثير هذا الخطاب الأخير لمستشار الأمن القومي موجة من الغموض في البنود التي حملتها مذكرة التفاهم بين الطرفين، وذلك في الوقت الذي تصر فيه أديس أبابا على أن بنود المذكرة لم تتضمن ما ينتهك سيادة الصومال(6).
ولفهم حيثيات مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وأديس أبابا، لا بد أن نذكر أنها جاءت بعد أيام فقط من توقيع اتفاقية بين حكومة أرض الصومال وحكومة مقديشو في جيبوتي برعاية الرئيس، إسماعيل عمر جيله، من أجل استئناف مسار المفاوضات المتعثر منذ عام 2020 وتشكيل لجنة فنية لدفع جهود المفاوضات بين الإقليمين إلى الأمام، وهي الخطوة المفاجئة من آبي أحمد وموسى بيحي للتشويش على مسار هذه المفاوضات، وخلق أزمة إقليمية جديدة تنذر بنشوب نزاعات عسكرية ودبلوماسية بين دول المنطقة التي تعج بالصراعات والآفات البيئية منذ عقود(7).
حكومة آبي أحمد ودبلوماسية الموانئ: دوافع مركبة
1. دوافع اقتصادية: لا تخفي الحكومة الإثيوبية نواياها في تقليل التكلفة الباهظة والفاتورة الاقتصادية الكبيرة التي تدفعها أديس أبابا لدول المنطقة لتأمين حركة التصدير والاستيراد، خصوصًا مع جارتها جيبوتي، وذلك بكلفة تناهز ملياري دولار أميركي سنويًّا لتحقيق عوائد مالية ضخمة (13 مليار دولار واردات ونحو 3 مليارات من الصادرات). واعتمدت أديس أبابا منذ عام 2015 سياسة تنويع الموانئ التي تستخدمها، ولجأت إلى ميناء مويالي في كينيا وبربرة في أرض الصومال (صوماليلاند) وتاجورة في جيبوتي، وهو ما خفَّض نسبة اعتمادها على ميناء جيبوتي إلى 14.62%، وذلك طبقًا لتصريحات سابقة صدرت عن مدير الاتصالات في وزارة النقل والخدمات اللوجستية الإثيوبية، أتيك نيجاش.
وتدرك إثيوبيا أن السعي نحو تقوية اقتصادها يعزز نفوذها الإقليمي في القرن الإفريقي، كونه يجعلها قادرة على ربط اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي باعتباره الاقتصاد المهيمن هناك، كما يجعلها مقصدًا للاستثمارات الأجنبية، وبوابة مهمة للقوى الكبرى إلى دول المنطقة والعمق الإفريقي(8). وتحاول أديس أبابا دفع رافعتها الاقتصادية والتجارية إلى الأمام؛ حيث بلغ إجمالي تجارتها مع العالم 19.2 مليار دولار أميركي عام 2022، بزيادة بنسبة 4.3% عن العام السابق(9).
2. دوافع أمنية وإستراتيجية: بسبب الاضطرابات التي يشهدها البحر الأحمر منذ عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما أعقبها من تفجر للوضع في الجنوب الغربي للبحر الأحمر إثر تصاعد هجمات الحوثيين على السفن المحملة بالبضائع المتجهة نحو إسرائيل، كانت دول المنطقة تبدي خشيتها من أن تستهدف هذه التطورات اقتصادها وأمنها، وتفاقم هذا القلق مع عودة نشاط القراصنة الصوماليين إلى الواجهة من جديد، وهي تطورات تدفع إثيوبيا إلى البحث عن موطئ قدم في البحر الأحمر، برغم استعدادها لهذه الخطوة منذ عام 2018، وفي يونيو/حزيران 2023، وصل الأسطول البحري الإثيوبي العاشر، “إم سي أباي الثاني” إلى جيبوتي، وغرَّد السفير الإثيوبي بجيبوتي، برهانو تسيجاي، عبر حسابه على “موقع إكس”، قائلًا: “إنه (أي الأسطول) سيغيِّر قواعد اللعبة بالنسبة لقطاع الشحن والخدمات اللوجستية في إثيوبيا”. وأكد برهانو على تفاني بلاده في تقديم خدمات الشحن والخدمات اللوجستية التنافسية كخط شحن إفريقي رائد. وتزامنًا مع ذلك، أعلنت البحرية الإثيوبية عن تخريج أعضائها الذين تدربوا في مجالات مهنية مختلفة، بما في ذلك الملاحة والهندسة والكهرباء والاتصالات وإدارة التسلح لمدة عامين(10).
أما إستراتيجيًّا، فتريد أديس أبابا أن توسع دائرة نفوذها وتعزيز مكانتها لتصبح عضوًا في منتدى البحر الأحمر، وقد يسهم ذلك بدوره في تعزيز دورها الإقليمي والظهور رقمًا مهمًّا في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر، وإبداء الرأي في صياغة الأهداف البحرية الإقليمية إلى جانب تقديم نفسها للقوى الدولية الفاعلة شريكًا وحليفًا كفؤًا في أمن واستقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وذلك من خلال لعب دور في تأمين التجارة الدولية والملاحة البحرية والمضايق البحرية بما في ذلك مضيق باب المندب الإستراتيجي(11).
3. دوافع محلية: يُنظر إلى قرارات آبي أحمد وخطواته غير المتوقعة باعتبارها مدفوعة بهواجس محلية أكثر من كونها أهدافًا مرسومة ومخططة، فيريد الرجل تحقيق مكاسب داخلية أمام خصومه من النخب الأمهرية والتيغراوية، وسحب البساط من تحت أقدامهم ورفع شعبيته بتحقيق حلم الوصول إلى المياه الدافئة بعد أن أصبحت أديس أبابا دولة حبيسة بعد انفصال إريتريا عام 1993، كما أن حكومة آبي أحمد تريد توحيد الإثيوبيين نحو هدف واحد وصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية التي تعيشها إثيوبيا، لاسيما الصراعات مع جبهة فانو الأمهرية، والتوترات القائمة بين الإثنيات في إثيوبيا(12).
موقف الحكومة الصومالية: خيارات الردع والمواجهة
وصفت الحكومة الصومالية الفيدرالية مذكرة التفاهم الموقَّعة بين موسى بيحي عبدي وأبي أحمد بـ”العدوان السافر” الذي ينتهك سيادتها، وجاءت ردود الفعل من أعلى المستويات في السلطتين، التنفيذية والتشريعية، واستنكر الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، هذه المذكرة، ووصفها بأنها اعتداء صارخ على السيادة الصومالية، وشدَّد على أهمية توحيد الصوماليين تجاه الاستفزازات الإثيوبية الجديدة ضد السيادة الصومالية، وحرض آبي أحمد على الالتزام بالمعايير والقوانين الدولية، مشيرًا إلى أن إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر تمر من مقديشو أولًا(13).
كما أصدرت الحكومة الفيدرالية بيانًا لاذعًا، وصفت مذكرة التفاهم بالعمل العدواني، وقال بيان مجلس الوزراء: “إن مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال مخالفة لقواعد القانون الدولية، وتمثِّل تعديًا سافرًا على السيادة الصومالية، وإن أرض الصومال جزء من الصومال بموجب الدستور الصومالي، بحيث إن الصومال تعتبر هذا الإجراء انتهاكًا فاضحًا لسيادتها ووحدتها”؛ وبموجب ذلك استدعت سفيرها في أديس أبابا للتشاور(14).
وصوَّت البرلمان الصومالي بغرفتيه (مجلس الشعب ومجلس الشيوخ) بالإجماع على بطلان وعدم شرعية مذكرة التفاهم الموقعة بين أديس أبابا وهرجيسا، ووصف نواب يمثلون هرجيسا في البرلمان الفيدرالي هذه الخطوة بالفضيحة والعار، وأن إدارة موسى بيحي عبدي تقود المنطقة إلى أزمات عسكرية وأمنية جديدة(15). ووقَّع الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، على القانون الذي أقره البرلمان، وبموجبه صارت مذكرة التفاهم لاغية وغير مشروعة بالنسبة للصومال.
كما استنكر سياسيون صوماليون هذه الخطوة وأبرزهم الرئيس السابق، محمد عبد الله فرماجو، الذي أعرب عن استيائه الشديد في تدوينة له في حسابه على موقع “الفيسبوك” أوضح فيها أن هذه المذكرة تخالف القوانين الدولية ومواثيق الاتحاد الإفريقي، وأنها تهدد الأمن والاستقرار في منطقة القرن الإفريقي، كما علق الرئيس الأسبق، شريف شيخ أحمد، على المذكرة، ودعا حكومة آبي أحمد إلى احترام حسن الجوار وسيادة واستقلال الصومال(16).
الحكومة الصومالية: خيارات الردع بين الدبلوماسية والتصعيد
وفق متابعين، فإن حكومة مقديشو تحظى باختيارات عدة لمواجهة الأطماع الإثيوبية في التوسع في مياهها الإقليمية، من خلال العبور بـصوماليلاند، وتتمثل تلك الخيارات في الآتي:
- دخول معاهدات دفاع أمنية مشتركة مع إحدى الدول الكبرى، سيما الدول ذات الوزن الإقليمي والثقل الجيبولوتيكي في المنطقة، حماية لمصالحها الجيو-أمنية، وهو أمر من شأنه أن يزيد حدة المخاطر والتصعيد ويوسِّع دائرة التوتر في القرن الإفريقي.
- تجييش الشارع والرأي العام الصومالي في الداخل والخارج، والضغط على حكومة صوماليلاند للعدول عن قراراتها وإجبارها على التراجع عن توقيع الاتفاقية النهائية مع أديس أبابا؛ حيث إن الشارع في صوماليلاند بات يرفض هذه المذكرة من الأساس، ويدعو إلى عدم الانجرار وراء المصالح والأهداف الإثيوبية.
- تصعيد الدبلوماسية الصومالية لدرجة إعلان القطيعة وانهيار العلاقات ووقف التعاون الاقتصادي والأمني بما في ذلك خطوط الطيران الإثيوبية والقات الإثيوبي والتبادل التجاري بين البلدين.
- دبلوماسية المحافل؛ إذ من الممكن أن تتجه مقديشو إلى المنظمات الدولية والإقليمية والعربية لإصدار بيانات تستنكر الرغبة الإثيوبية في قضم المياه الصومالية.
قراءة في ردود الفعل الإقليمية والدولية
أثارت مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا ردود فعل إقليمية بدأت من الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” وصولًا إلى الدول الكبرى المهتمة بمنطقة القرن الإفريقي، وأبرزها الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، إلى جانب ردود فعل من بعض الدول العربية، خاصة مصر وجيبوتي، اللتين تبديان قلقًا عميقًا إزاء بروز قوة إثيوبية بحرية على ساحل البحر الأحمر، كلاعب إقليمي جديد ينازع مصر هيمنتها على البحر الأحمر، بعد انهيار مفاوضات سد النهضة بين القاهرة وأديس أبابا، وتواجه راهنًا أزمة مائية أخرى تهدد تفردها بالتحكم بممر مهم وإستراتيجي يؤدي إلى قناة السويس ودورها الحيوي في باب المندب وخليج عدن.
المواقف الإقليمية: دعا الاتحاد الإفريقي من خلال موسى فكي، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، الصومال وإثيوبيا إلى خفض تصعيد التوتر، وتجنب ما يؤدي إلى انهيار العلاقات الطيبة بين مقديشو وأديس أبابا، مشددًا على ضرورة احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها المنضوية في عضوية الاتحاد الإفريقي، والانخراط في مفاوضات لتسوية الخلافات بين الجانبين(17).
أما الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” فأعربت عن قلقها العميق حيال التطورات الأخيرة بين الصومال وإثيوبيا، جاء ذلك على لسان المدير التنفيذي للهيئة، ورقنية جييهو، وأشار إلى أن الهيئة تراقب الوضع عن كثب، ودعا الصومال وإثيوبيا إلى ضبط النفس، والتوصل إلى تسوية لحل الأوضاع، واحترام القيم المشتركة بين دول المطلة(18).
المواقف العربية: عربيًّا، أعربت جامعة الدول العربية على لسان المتحدث الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، جمال رشدي، عن رفض وإدانة أي مذكرات تفاهم تخل أو تنتهك سيادة الدولة الصومالية، أو تحاول الاستفادة من هشاشة الأوضاع الداخلية الصومالية أو من تعثر المفاوضات الصومالية الجارية بين أبناء الشعب الصومالي بشأن علاقة أقاليم الصومال بالحكومة الفيدرالية، في استقطاع جزء من أراضي الصومال بالمخالفة لقواعد ومبادئ القانون الدولي، وبما يهدد وحدة أراضي الدولة الصومالية ككل. وحذَّر المتحدث من خطورة تأثير تلك الخطوة علي نشر الأفكار المتطرفة في وقت تقوم الدولة الصومالية بجهود ضخمة لمواجهتها(19).
لكن ردود الفعل العربية على مستوى الدول الصديقة والمتحالفة مع الصومال، جاءت ما بين التحفظ والمراقبة والتربص، وأعربت مصر وحدها عن رفضها الشديد لمذكرة التفاهم، وقالت وزارة الخارجية المصرية في بيان لها: إن مصر تؤكد على ضرورة الاحترام الكامل لوحدة وسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية الشقيقة على كامل أراضيها، ومعارضتها لأية إجراءات من شأنها الافتئات على السيادة الصومالية، مشددة على حق الصومال وشعبه دون غيره في الانتفاع بموارده(20).
وأجرى الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، اتصالًا هاتفيًّا مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وتناولا العلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل تطوير التعاون المشترك، واستمرار التنسيق وتعميقه في مختلف المجالات، بما يتفق والطبيعة التاريخية للعلاقات بين البلدين، وأكد السيسي لنظيره الصومالي، على موقف مصر الثابت بالوقوف إلى جانب الصومال الشقيق، ودعم أمنه واستقراره(21).
المواقف الدولية: أعربت كل من الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي تأييدهم لاحترام سيادة ووحدة أراض الصومال، وقالت الخارجية التركية عبر الناطق باسمها، أونجو كسيلي، في مؤتمر صحفي بأنقرة: إن تركيا تراقب بقلق مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وصوماليلاند دون علم الحكومة الصومالية، وتؤكد على الالتزام باحترام سيادة ووحدة الصومال، وذلك انطلاقًا من متطلبات القوانين الدولية. وأجرى الرئيس الصومالي اتصالًا هاتفيًّا مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، بحث معه المستجدات بشأن ملف الصومال، وبحسب بيان نشرته دائرة الاتصال في الرئاسة التركية على حسابها في منصة “إكس”، أكد أردوغان “وقوف تركيا إلى جانب مقديشو في مكافحة الإرهاب”، وأن “التعاون بين البلدين سيستمر باطراد”. ومن جانبه، أشاد الرئيس الصومالي بـ”موقف أنقرة الداعم لسيادة الصومال ضد التعدي الصارخ وانتهاكات إثيوبيا على سيادة بلاده”(22).
أما واشنطن، فأكدت على وجوب احترام سيادة الصومال بعد الاتفاق الذي وقَّعته إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال الانفصالي لاستخدام ميناء بربرة على الساحل الجنوبي لخليج عدن. وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، للصحفيين: إن “الولايات المتحدة تعترف بسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية ووحدة أراضيها”، معربًا عن قلق بلاده “العميق إزاء تفاقم التوترات في القرن الإفريقي”. مشيرًا إلى ضرورة حماية الحدود الموروثة التي قامت عليها الدول الإفريقية في الستينات من القرن الماضي(23).
كذلك، أكد الاتحاد الأوروبي أهمية احترام حدود الصومال وسيادتها وسلامة أراضيها، وفقًا لدستورها وميثاق الإتحاد الأوروبي، وعقب مكالمة هاتفية بين الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، ومفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، غرَّد الأخير في حسابه على موقع “إكس”: “نؤكد بالكامل على دعم الاتحاد الأوروبي لوحدة الصومال وسيادتها، وأن القرن الإفريقي ليس بحاجة لمزيد من التوترات”(24).
أما بريطانيا، فأعربت سفارتها في مقديشو عن قلقها العميق إزاء التطورات التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، وأكدت على دعم حكومة بلادها لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه، داعية الأطراف إلى تسوية الخلافات بالتفاهمات والمفاوضات(25).
مذكرة التفاهم: أبعادها وتداعياتها المحلية
ثمة العديد من التبعات والتداعيات التي تخلِّفها مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليها، وهي تبعات ستؤثر سلبًا على استقرار وأمن منطقة القرن الإفريقي وتنذر بنشوب حرب جديدة في المنطقة بعد حرب تيغراي الطاحنة شمالي إثيوبيا.
ويمكن تلخيص تلك التبعات المحتملة في النقاط التالية:
- تهديد للأمن واستقرار الإقليم: صرح الرئيس الصومالي، حسن شيخ، في خطابه أمام البرلمان الفيدرالي بأن لجوء إثيوبيا إلى القنوات غير الرسمية لضمان منفذ بحري سيكلف المنطقة برمتها أعباء أمنية جديدة، ببروز قطب آخر من التيارات الجهادية التي ستجد استقطابًا محليًّا وعالميًّا وتحشيدًا للرأي العام لمواجهة التدخلات الإثيوبية، إذا أصرت أديس أبابا على خيارها لتأمين منفذ بحري بالتنسيق مع أرض الصومال، وتعطي فرصة أيضًا لحركة الشباب الموالية للقاعدة التي تواجه في الفترة الأخيرة تراجعًا عسكريًّا حكوميًّا منذ أغسطس عام 2022(26). كما أن رفض بعض القبائل في صوماليلاند منح منفذ بحري لإثيوبيا يشكل تحديًا عشائريًّا بالنسبة للإقليم وإثيوبيا وربما سيتطور هذا إلى صراعات بين العشائر من جهة وكيان صوماليلاند وإثيوبيا من جهة أخرى، على غرار ما حصل في إقليم سول، وأدى إلى طرد جيش صوماليلاند من مدينة لاسعانود، عام 2023.
- أزمات اجتماعية وديمغرافية: أبدت العشائر القاطنة في مناطق عدة بـ”أرض الصومال” رفضها القاطع لمنح منفذ بحري لإثيوبيا، وعبَّرت عن خشيتها من أن تلك الخطوة ستضرب النسق الاجتماعي والتركيبة الديمغرافية للإقليم الذي يتألف من نحو 12 عشيرة؛ حيث إن المناطق مقسمة وموزعة على القبائل في الإقليم الانفصالي، ورفضت عشيرة “عيسى” القاطنة في مدينتي زيلع ولوكهي مذكرة التفاهم التي وقَّع عليها موسى بيحي مع آبي أحمد، وهو ما يهدد وحدة وتماسك العشائر ويضرب العلاقات البينية بين القبائل القاطنة في صوماليلاند(27).
- نكسة لمسار المفاوضات: من المفاجآت التي حملتها مذكرة التفاهم أنها جاءت بعد أيام قليلة فقط من تطور ملموس في مسار المفاوضات بين الصومال وصوماليلاند، لكن توقيع هذه المذكرة من قبل موسى بيحي، يعوق جهود دفع المفاوضات نحو الأمام، ولم تعد النقاشات تدور حاليًّا حول هذا المسار، بل من أجل ردع الإقليم عن المضي في توقيع اتفاقية مثيرة للجدل مع إثيوبيا تحصل بموجبها على منفذ بحري في المياه الدافئة.
- توترات ومخاوف إقليمية: بعيدًا عن الصومال والتي تواجه أزمة دبلوماسية متفاقمة مع إثيوبيا، فإن جيبوتي ومصر وإريتريا، تستشعر قلقًا عميقًا إزاء التطورات المفاجئة التي أثارت زوبعتها هذه المذكرة، فجيبوتي تحصل على ما يقرب من ملياري دولار أميركي سنويًّا نظير تأجيرها لموانئها لإثيوبيا، بينما مصر التي تحظى بنفوذ واسع في منطقة البحر الأحمر تبدي تخوفها من بروز لاعب إقليمي جديد ينافسها في الزعامة والهيمنة، أما إريتريا، فتشعر أيضًا مخاوف من تجدد الصراعات مع إثيوبيا برًّا وبحرًا هذه المرة، إذا اشتعل فتيل التوتر والصراعات بينهما مرة أخرى(28).
مستقبل مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا
تتمثل عدة سيناريوهات في ضوء ما سبق من أبعاد محتملة وتداعيات تثير قلق الدول الإقليمية المشاطئة على البحر الأحمر، وهي تطورات يمكن أن تُترجم إلى أحد السيناريوهات التالية:
- سيناريو التصعيد والمواجهة: ويبدو هذا السيناريو راجحًا إذا تجاهلت حكومة آبي أحمد التحذيرات والمخاوف التي تبديها دول المنطقة ودفع الإقليم نحو الانزلاق إلى أتون حرب إقليمية جديدة، بالإضافة إلى وجود دول إقليمية لديها مصلحة اقتصادية وإستراتيجية في دفع أديس أبابا نحو الوصول إلى البحر الأحمر، وتشكيل تحالفات جديدة في المنطقة، تكون إثيوبيا لاعبًا أساسيًّا فيها، في مقابل إضعاف مكانة دول إقليمية مثل مصر وجيبوتي. ويتزامن ذلك مع فقدان القوانين والمواثيق الدولية وأعراف حقوق الإنسان قيمتها بعد اشتعال الحرب الأوكرانية-الروسية، وما يجري في غزة من مجازر شبه يومية ترتكبها الآلة الإسرائيلية التي تحصد أرواح الغزيين على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، دون أن تلتزم واشنطن وإسرائيل بالمواثيق والقوانين التي تكفل حقوق الإنسان. كما أن مقديشو تبدي قلقها من أن تتطور الأمور إلى صراع مسلح، يعيد المواجهات العسكرية بين الصوماليين والإثيوبيين إلى المنطقة من جديد(29).
- سيناريو الاحتواء الناعم: ويمكن أن ينطبق هذا السيناريو على أرض الواقع، في حال فرض الشارع المحلي في صوماليلاند رأيه على السلطة الحاكمة في هرجيسا، واستمرت المواقف الرافضة لمذكرة تفاهم من الدول الإقليمية والعربية والغربية، وهو ما من شأنه أن يدفع أديس أبابا إلى اتجاه عدم التصعيد للأزمة وممارسة أعلى قدر ممكن من ضبط النفس، والبحث عن مسارات سلمية أقل كلفة لطموحها لتأمين منفذ بحري، والسعي لممارسة احتواء ناعم للأزمة الراهنة.
- سيناريو التراجع والمراوحة: يبدو هذا السيناريو الأقل توقعًا في الفترة الراهنة التي تعيش فيها حكومة آبي أحمد تحت تأثير نشوة الفرح والابتهاج، غداة توقيع مذكرة التفاهم مع موسى بيحي عبدي، لكن من المتوقع إذا استمرت الضغوط وحالة النفور العام من هذه المذكرة من الجانب الصومالي والمجتمع الدولي، يمكن ألا تذهب الأمور بعيدًا عن منحنى المراوحة والتراجع، وهو ما يتوقعه العديد من المحللين، لأن الوصول إلى البحر الأحمر بالقوة العسكرية لا يضمن لأديس أبابا إمكانات البقاء طويلًا في هذه المنطقة، وربما هي مسألة وقت وينقلب عليها الحال في حال حدثت تغيرات جديدة في الإقليم وفي حكومة أرض الصومال.
خاتمة
من الملاحظ أن التبريرات التي ساقتها إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر والخروج من عزلتها وإحداث تغيير في الجغرافيا السياسية في إقليم متخم بالصراعات والتوترات، إلى جانب تكرار السردية التاريخية والقانونية التي تتمسك بها أديس أبابا بخصوص حقها الطبيعي في الوصول إلى منفذ بحري استجابة لحاجة سكانها البالغ عددهم 120 مليون نسمة، يبدو سياق هذه التبريرات يتعارض مع الواقع، فالصومال لم يكن امتدادًا بحريًّا لإثيوبيا قط، وكان ميناء زيلع تحت حكم الإمارات الصومالية يمثل شريانًا تجاريًّا للمنطقة ويزودها وصولًا إلى “هرر” بالسلع والبضائع القادمة من شبه الجزيرة العربية، لكن هذا الطموح الإثيوبي نحو موانئ الصومال سيغيِّر معادلة ديناميكية التموضع الإقليمي في البحر الأحمر حاليًّا بعد تصاعد هجمات الحوثيين ونشاط القراصنة قبالة خليج عدن وباب المندب، لكن تحقيق هذا المطلب دونه تحديات كثيرة، وربما تدرك أديس أبابا خطورة سعيها الحثيث وما ينطوي من تحديات شائكة تصطدم أولًا بالرفض الدولي والإقليمي، ولهذا فإن مسار الدبلوماسية والتفاوض مع جوارها لتحقيق طموحاتها يبقى الخيار الإستراتيجي، لأن صراعات جديدة في المنطقة ستكلفها أثمانًا باهظة ولا تؤمِّن لها خروجًا سهلًا من أوحال اضطرابات أمنية تثيرها أولًا، ويكرر آبي أحمد مقولته الشهيرة منذ يوليو/تموز 2023، إنه لا يسعى إلى خوض الحرب مع دول الجوار للوصول إلى طموحه، لكنه لا ينفي في الوقت نفسه أن منطق القوة سيكون بديلًا لإيجاد منفذ بحري لإثيوبيا، وهو ما يضع المنطقة تحت طائلة تهديدات أمنية جديدة بعد حرب تيغراي الطاحنة عام 2022.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5828