جميل عودة ابراهيم
يمكن أن يتفهم المواطنون وقوع جرائم القتل والاختطاف في ظل سيطرة تنظيمات إرهابية، تريد إشاعة الخوف والرعب بين أفراد المجتمع، فسياسة الجماعات الإرهابية تعتمد أساسا على إخافة الناس وإرعابهم، كمنهج للسيطرة على الشعب والأرض. ولكن لا يمكن لأحد أن يتفهم وقوع هذه الجرائم وتكرارها في مناطق تسيطر عليها أجهزة الدولة المدنية والأمنية والعسكرية!
فسواء قلنا إن وقوع جرائم القتل والاختطاف في مناطق سيطرة الدولة كانت من فعل عناصر إرهابية أو جرمية، نتيجة خروقات أمنية، أو قلنا إن بعض الأجهزة الأمنية والعسكرية هي التي تقوم بهذه الأفعال مدفوعة بدوافع شخصية أو سياسية أو طائفية؛ فان الدولة ممثلة في رئيس حكومتها وقادتها الأمنيين يتحملون المسؤولية القانونية والأخلاقية عن وقوع تلك الجرائم البشعة بحق العديد من المواطنين. ويتحملون مسؤولية التصدي لها، ومحاسبة الجناة، وإنصاف المجني عليهم، مهما كانت مبررات ارتكابها، لأن الدماء عندما تهدر بصورة غير شرعية وغير قانونية لا تجد مبررا منطقيا يبرر بشاعة هذه الجرائم، وأثرها على الأفراد والمجتمع معا.
ماذا يعني أن يٌخطف مواطن من عقر داره في مناطق مستقرة أمنيا؟ وماذا يعني أن يٌخطف مواطن من ساحات التظاهرات؛ ويعذب ويٌقتل على أيدي مجهولين، ربما يكونون إرهابيين أو خارجين على القانون، وربما يكونون جماعة محسوبة على أجهزة الدولة الأمنية أو الأجهزة التابعة لها؟
وماذا يعني أن يُعذب ويُقتل العديد من الشباب؛ والصحافيين؛ والمحللين السياسيين؛ وأصحاب الرأي بسبب موقف معين أو إبداء رأي آخر، أو المطالبة بحقوق يضمنها الدستور والقانون، مثل المطالبة بإجراء الانتخابات، أو تغيير الدستور، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، أو المطالبة بتوفير فرص عمل، أو الكشف عن مصير مختطفين أو سجناء وغيرها.
وسواء كانت تلك الآراء والمواقف تنطلق من مواطنين ينتمون إلى أحزاب سياسية أم غير متحزبين، وسواء كانت تلك الآراء والمواقف تنطلق من هذه الجماعة أو تلك، وسواء كانت تلك الآراء والمواقف تصدر عن هذه الطائفة أو تلك، فالجميع له حق التعبير عن رأيه، وله حق إبداء المواقف المعارضة في إطار احترام القانون والنظام العام.
نعم؛ يمكن مجابهة الأشخاص الذين يزعزعون النظام العام، ويؤثرون على استقرار المجتمع والتعامل معهم في إطار القانون أيضا، فلا يكاد مجتمع من المجتمعات يخلو من أناس يخرقون القانون، ويشيعون الفوضى بقصد أو بغير قصد، فهؤلاء يُتعامل معهم في إطار القوانين المدنية والجنائية التي يخضع لها المجتمع.
أما أن يجري التعامل مع مجموعات كبيرة من الشباب بطريقة العصابات التي تدخل البيوت وتخطف الأبناء والبنات، وتنكل بأفراد الأسرة، وتختطف وتعذب وتقتل من دون الرجوع إلى الأليات القانونية، ومن دون أن تكشف عن نفسها وقادتها فذاك يعني بلا شك؛ إما أن العصابات الإجرامية والإرهابية قد توغلت إلى صفوف القوات الأمنية والعسكرية، وأخذت ترتكب الفظائع باسم الدولة والقانون، وإما بالفعل أن أجهزة الدولة هي التي تقوم بهذه الأعمال الوحشية بقصد إخافة الناس وإرعابهم! وكلاهما خيار مر لا يمكن القبول به إطلاقا.
في الواقع؛ استبعد أن تقع أعمال الخطف والقتل في مناطق عديدة من العراق، وتتكرر يوميا بناء على توجيه يصدر عن الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، فليس هناك مصلحة للدولة أن تقوم بمثل هذه الأعمال الإرهابية، ويمكن تصور وقوعها في ظل وجود أنظمة مستبدة، تريد فرض إرادتها على مواطنيها، أما عندنا فالدولة هي أضعف ما يكون بالقياس إلى الكيانات الأخرى المستفحلة.
أي نعم، ربما يقوم بهذه الأعمال جماعة إرهابية ترتدي الزي الرسمي، فتختطف وتقتل وتعذب تحت غطاء الدولة، لاسيما في المناطق التي تتمكن فيها هذه الجماعات من القيام بمثل هذه الأعمال نتيجة فراغ أمني واضح، أو نتيجة خروقات أمنية، بقصد تأليب المجتمع ضد الدولة وأجهزتها الأمنية، كما هو يحصل الآن في صلاح الدين، والموصل، والأنبار. ولكن في الأغلب أن الجماعات أو الكيانات التي تقوم بعمليات الخطف والتعذيب والقتل في مناطق مثل بغداد أو البصرة وكركوك هي جماعات بالفعل تنتمي إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية، وهي جزء من تلك القوى المكلفة بحفظ الأمن والنظام.
ولكن هي تقوم بمثل هذه الأعمال الإرهابية والخارجة عن القانون لا بتوجيه رسمي، إنما تتلقى التوجيهات الشفوية من قيادات محددة، تملك زمام الأمور، ولها سطوة على تلك القوى المنفذة، إما تحت غطاء حزبي عندما يكون الطرف الأخر الضحية من حزب آخر، وإما تحت غطاء مذهبي عندما يكون الطرف الأخر الضحية من مذهب آخر، وإما تحت غطاء عنصري وقومي عندما يكون الطرف الأخر الضحية من قومية أخرى. واما هناك منتسبون للقوات الأمنية يمارسون الأعمال الإجرامية مستغلين وجودهم في هذه الأجهزة.
وفي كل الأحوال؛ فان الدولة مسؤولة مباشرة عن حفظ النظام العام، وعن أمن المواطنين، وعن حياتهم، وعن ممتلكاتهم، وعن حريتهم، وعن آراءهم، سواء كانت بالفعل هي موجودة وتفرض هيبتها، أو كانت هي غائبة، فمادامت الأراضي أرضها، والشعب شعبها فهي تتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن حياة السكان وتوفير أمنهم. ولا ينبغي أن تتنصل من هذه المسؤولية تحت أي مبرر كان.
إن تكرر جرائم الخطف والتعذيب والقتل على أيادي مجهولة من دون أن تتوصل الجهات الأمنية إلى تلك العصابات وتقدمها للعدالة، يضع قادة الدولة ورموزها في حرج شديد، ويزعزع الثقة بأجهزة الدولة، ويدفع المواطنين إلى البحث عن وسائل حماية أكثر فعالية من الدولة وأجهزتها مثل الانتماء إلى جماعات مسلحة خارج القانون يتقون بها، أو شراء الأسلحة وتجميعها كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، أو تأسيس تكتلات حزبية أو طائفية أو عنصرية مسلحة تجتمع من أجل حماية أفرادها، وفي المحصلة فان الدولة والمواطن السلمي هما الغائبان عن المشهد الذي ينبغي أن يكونا هما الحاضرين الفعليين فيه.
في الواقع؛ لا تشكل جريمة الاختطاف جريمة وطنية بحسب القانون الجنائي العراقي، ولكن هي أيضا جريمة دولية بحسب المواثيق الدولية، حيث نصت (الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري) في المادة (1) أنه (1. لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري. 2. لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري)
ونصت المادة (2) أنه لأغراض هذه الاتفاقية، يقصد ب (الاختفاء القسري الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون).
وحددت المادة (6) مسؤوليات كل دولة طرف في الاتفاقية، وهي: –
1. تتخذ كل دولة طرف التدابير اللازمة لتحميل المسؤولية الجنائية على أقل تقدير:
أ. لكل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئا أو يشترك في ارتكابها؛
ب. الرئيس الذي:
• كان على علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته الفعليتين قد ارتكب أو كان على وشك ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح؛
• كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التي ترتبط بها جريمة الاختفاء القسري؛
• لم يتخذ كافة التدابير اللازمة والمعقولة التي كان بوسعه اتخاذها للحيلولة دون ارتكاب جريمة الاختفاء القسري أو قمع ارتكابها أو عرض الأمر على السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة؛
ج. ليس في الفقرة الفرعية (ب) أعلاه إخلال بالقواعد ذات الصلة التي تنطوي على درجة أعلى من المسؤولية والواجبة التطبيق بموجب القانون الدولي على قائد عسكري أو على أي شخص يقوم فعلا مقام القائد العسكري.
2. لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات صادرة من سلطة عامة أو مدنية أو عسكرية أو غيرها لتبرير جريمة الاختفاء القسري.
رابط المصدر: