تشهد تونس في التوقيت الحالي جدل سياسي، كشفت عنه احتجاجات المعارضة، وكان أخرها في 22 سبتمبر 2024، رفضاً لتعديل قانون الانتخابات، والمتمثل في نزع صلاحيات المحكمة الإدارية الخاصة بالنزاع الانتخابي، ومنحها للقضاء العدلي من خلال المحاكم الاستئنافية. كما سبقها تظاهرات في 13 سبتمبر شاركت فيها أطياف سياسية متنوعة، وذلك استجابة لدعوات التظاهر التي أطلقتها مجموعة من المنظمات الحقوقية على غرار “الشبكة التونسية للحقوق والحريات” و”الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”. وطالبت الاحتجاجات، بعودة الديمقراطية ووقف استهداف السياسيين والحقوقيين والإعلاميين. يُضاف إلى ذلك، أن هذه الاحتجاجات تأتي في وقت تواجه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة، واستقطاب سياسي حاد. ونددت الاحتجاجات بما اسمته الممارسات الإقصائية للرئيس قيس سعيد ضد خصومه المحليين في الداخل التونسي بالإضافة إلى انتقاد المخالفات التي شهدتها إجراءات العملية الانتخابية المقرر لها أكتوبر 2024.
سياق داخل مضطرب
على الرغم من عدم قدرة التظاهرات في تحشيد الشارع إلا أنها حملت أهمية خاصة، بالنظر إلى الاعتبارات العديدة المحركة لها، يمكن بيانها على النحو التالي:
دلالة التوقيت: جاءت هذه التظاهرات قبل نحو أقل من شهر على الانتخابات الرئاسية التونسية المقرر لها أكتوبر 2024، والتي شهدت حالة غير مسبوقة من الجدل بين الرئيس سعيد وأنصاره من جهة، والتيارات المعارضة من جهة أخرى، خاصة بعد رفض هيئة الانتخابات في 2 سبتمبر 2024 تطبيق قرار المحكمة الإدارية العليا، والذى قضى بعودة ثلاثة مرشحين للسباق الرئاسي التونسي.
تعديل القانون الانتخابي: لا تنفصل احتجاجات المعارضة التونسية عن مخاوفها من محاولات تعديل القانون الانتخابي، بعد تقديم 34 نائباً مشروع قانون يستهدف نزع جانب من صلاحيات المحكمة الإدارية، وبخاصة المواد المتعلقة بالعملية الانتخابية، ومنحها للجنة العليا للانتخابات. وتضمن التعديل المطروح ضمان وحدة الإطار القضائي الذي يتعهد بالنظر والبت في النزاعات الانتخابية، وذلك على خلفية ما تمت معاينته من اختلافات وصراعات في القرارات المتخذة والمواقف المعلنة من طرف كل من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الإدارية. وبينما ترى الأحزاب الداعمة للرئيس قيس سعيد أن التعديل يفك الاشتباك بين الكيانات القانونية، فإن التعديلات في رؤية المعارضة تعتبر تدخل في عمل السلطة القضائية من جهة، وقطع الطريق على المعارضة للطعن في نتائج الانتخابات.
تضييق المجال العام: لا تنفصل التظاهرات التي دعت إليها منظمات المجتمع المدني التونسي عن رفضها عملية التضييق ضد الخصوم والمناهضين لسياسات الرئيس قيس سعيد بالإضافة إلى معارضة استمرار الأوضاع الاستثنائية التي تشهدها البلاد في التوقيت الحالي. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن المعارضة التونسية تعتبر إجراءات سعيد، بأنها تعميق للأزمة السياسية الراهنة ولن تؤدي إلى حلها، خاصة في ظل استمرار عمليات الاعتقال والتوقيف، حيث يوجد نحو 20 معارضاً في السجن بتونس، في مقدمتهم زعيم “حركة النهضة” راشد الغنوشي ورئيسة “الحزب الدستوري الحر” عبير موسي إضافة إلى وزراء ونواب سابقين ورجال أعمال، منذ فبراير2023 بتهم مختلفة بما في ذلك “التآمر على أمن الدولة كما تجدر الإشارة إلى اعتقال السلطات الأمنية في 12 سبتمبر نحو 80 من منتسبي حركة النهضة، على خلفية اجتماع عُقد عن بعد في ندوة نظمتها جمعية الكرامة بالتعاون مع إحدى المنظمات الدولية تتعلق بالعدالة الانتقالية.
إرباك المشهد الانتخابي: تشير بعض التحليلات أن هذه التظاهرات المدعومة من قوى المعارضة التونسية، وبخاصة حركة النهضة تسعى إلى محاولة إرباك المشهد الانتخابي المقبل، وتعزيز الضغوط على الرئيس قيس سعيد لإفشال الاستحقاق الانتخابي أو على الأقل تصدير صورة للإعلام الغربي بأن البلاد تعاني من هيمنة الرجل الواحد. وهنا، يمكن تفسير انطلاق هذه الاحتجاجات قبل يوم واحد من الموعد الرسمي لبدء الحملات الانتخابية. وعلى ضوء ذلك، فإن هذه المسيرات، رغم تركيزها على الحقوق والحريات إلا أنها استهدفت بصورة رئيسية بحسب بعض المراقبين تعطيل العملية الانتخابية أو على الأقل إربكها، وإحراج الرئيس سعيد الذى أكد في 4 سبتمبر 2024 على إن الانتخابات الرئاسية، “شأن داخلي خالص لا دخل لأي جهة أجنبية فيه، كما دعا إلى ” المزيد من “اليقظة والانتباه والاستشراف لإحباط كل محاولات المس بأمن الدولة وأمن المواطنين خاصة في ظل تضافر عديد القرائن التي تشير كلها إلى ارتباط عدد من الدوائر بجهات خارجية”.
التغطية على قصور المعارضة: وفقاً للعديد من المراقبين، فإن المعارضة التونسية تسعى إلى توظيف حالة الجدل الانتخابي، والتوترات القائمة مع السلطة على خلفية العديد من الملفات الداخلية الشائكة لتحقيق انتصار داخلي من جهة، ومن جهة أخرى تشويه الصورة النمطية للرئيس قيس سعيد. ويمثل هذا التوجه أولوية استراتيجية، خاصة أن جانب معتبر من المعارضة التونسية متخندقة خلف أفكارها الايديولوجية فضلاً عن أنها لم تقدم رؤية عملية لمعالجة المشكلات والتحديات الداخلية التي تعانيها تونس في التوقيت الحالي.
مسارات محتملة
على ضوء تصاعد حالة الاحتقان المصاحبة للملية الانتخابية في تونس، فإن ثمة مسارات محتملة للمشهد السياسي المأزوم في البلاد، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
التصعيد والتصعيد المضاد: يرجح أن يتجه الرئيس قيس سعيد نحو مواصلة خطابه الخشن ضد خصومه المحليين، خاصة بعد اتهامه للأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية باستهداف الأمن القومي للبلاد، وتبنى الرئيس سعيد خطاباً سياسياً تصعيدياً حملته الانتخابية ضد المعارضة. وفي المقابل، اتجهت المعارضة التونسية إلى تصعيد انتقادتها للنظام الحاكم، خاصة بعد الحكم بالسجن في 18 سبتمبر 2024 على المرشح الرئاسي عياشي زمال لمدة عام وثمانية أشهر بتهمة “افتعال وثائق، وتدليس تزكيات شعبية”. كما تتهم المعارضة وجماعات حقوقية الرئيس سعيد بتوظيف منصة القضاء لمحاصرتها.
ضبط التوتر: مع وجود العديد من المؤشرات التي تلمح إلى استمرار التوترات القائمة بين الرئيس سعيد والمعارضة التونسة إلا أنهما قد يتجهان نحو تهدئة التوتر وضبط الخلافات لمنع انزلاق إلى حافة الهاوية. فمن جهته يأخذ الرئيس سعيد في الاعتبار الانتقادات الحقوقية التي وجهت للجنة العليا للانتخابات، فبالإضافة إلى إدانة منظمة العفو الدولية لقرار اللجنة بمنع عودة ثلاثة مرشحين للمنافسة الانتخابية، فقد انتقدت 17 منظمة حقوقية محلية من بينها رابطة حقوق الإنسان والنساء الديمقراطيات و6 أحزاب سياسية سيطرة الهيئة المستقلة للانتخابات على وسائل الإعلام العامة والقضاء. كما أن الرئيس سعيد ربما يسعى لتعزيز التهدئة لتحييد انتقادات بعض الفاعلين الخارجين، وعلى رأسهم واشنطن وبعض المنظمات الأوروبية، حيث عبروا عن قلقهم البالغ إزاء حملة الاعتقالات التي طالت العديد من المعارضين قبل العملية الانتخابية المقرر لها 6 أكتوبر 2024.
في المقابل، فإن المعارضة التونسية تعى أن الدخول في صدام مباشر مع الرئيس سعيد وأنصاره، قد يحمل ارتدادات عكسية على البلاد التي تعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ولاتنقصها الخلافات، وبالتالي، تدرك المعارضة أن تسخين المشهد، قد يؤثر على حاضنتها الشعبية.
رفع المعارضة خطاب المظلومية: يرشح أن تلجأ المعارضة التونسية، وبخاصة حركة النهضة والأحزاب الموالية لها نحو توظيف خطاب المظلومية، من خلال التركيز على عملية الاعتقال في صفوفها، ورفع شعارات تعرض قياداتها للظلم من قبل الدولة، وذلك في في محاولة لإقناع أنصارها بمقاطعة الانتخابات الرئاسية المقبلة أو على الأقل حشد أصواتها ضد سعيد، إلا أن استخدام هذا الخطاب في الوقت الراهن، من غير المرجح أن يجد صدى له في ظل تراجع شعبية الحركة، وانحسار القاعدة الشعبية للمعارضة التونسية عموماً.
توظيف الأزمة الاقتصادية: تشير بعض التقديرات إلى أن المعارضة التونسية، ومعها الاتحاد التونسي العام للشغل الذى اتهم اللجنة العليا للانتخابات بتجاوز أحكام القضاء الإداري بعد رفضها عودة ثلاثة مرشحين للرئاسيات المقبلة، إلى توظيف الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد في الوقت الراهن، وذلك في إطار الضغط على الرئيس سعيد للاستجابة لمطالبهم بالإضافة إلى التأثير على حضوره في الشارع التونسي.
ختاماً، يمكن القول أن المعطيات الراهنة التي تشهدها الساحة التونسية تشير إلى احتمال تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، وهو ما يدفع الرئيس سعيد وخصومه إلى مواصلة التصعيد حتى انتهاء العملية الانتخابية. بيد أن ثمة تحليلات تشير إلى احتمال توجه الأطراف التونسية نحو ضبط إيقاع المشهد، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية والتحديات الإقليمية التي تلقي بظلالها على تونس، وتزيدها انغماساً في همها الداخلي.