د. أحمد عدنان الميالي
يعتبر عام 2022 من أكثر الأعوام اضطرابا وتأثيرا في السياسة الدولية، كان عاماً مضطرباً بسبب بروز العديد من الازمات وبقع التوتر والمواجهة، واهم هذه الازمات غزو روسيا لأوكرانيا، واعتراف الولايات المتحدة بالصين كقوة عظمى في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في تشرين الأول من العام الماضي، اذ لم تحدد إدارة الرئيس بايدن الصين على أنها أهم تحدياتها الأمنية فحسب، بل أعلنت أيضاً بشكل لا لبس فيه أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت، فإذا كان موقع القوة أحادية القطب للولايات المتحدة هو السمة المميزة لحقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن التحول إلى هيكل قوة ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والصين يشكل السمة البارزة في النظام الدولي الجديد.
يعتبر التنافس بين الولايات المتحدة والصين فريدا من عدة نواحي، فهذا التنافس في مسارح متعددة يؤثر بشكل بارز في النظام العالمي الجديد واستقراره، فهو يشبه الحرب الباردة من حيث العداء بين قوتين عظيمتين، واثارة المخاوف بشأن عودة ظهور الكتل والمحاور المتنافسة سواء في اوروبا او بين البلدان النامية، لكن هنالك من يذهب الى الاعتقاد ان نظام القطبية الثنائية في ضوء التنافس الصيني الامريكي سيكون أقل استقرارا من فترة الحرب الباردة.
اذ يتميز هذا التنافس بديناميكية انتقال غير مستقرة تظهر مؤشرات خطر حقيقي من اندلاع حرب كبرى تهدد المجتمع الدولي برمته انطلاقا من هذا التنافس، قد تبدأ من اوكرانيا او اي بقعة توتر محتملة، رغم انه من غير المرجح أن يشكل استخدام القوة العسكرية من قبل القوتين تهديدا ماثلا، ومن غير المرجح أن يخاطر الصينيون بحرب مع الولايات المتحدة والعكس صحيح، اذ اي مواجهة وان كانت محدودة يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي.
تعد تايوان وهونغ كونك واقليم التبت اهم مسارح المواجهة التي تستغلها واشنطن ضد بكين وهي مصدر اساسي لعدم الاستقرار في نظام ثنائي القطبية الجديد، وتمثل تايوان الخطر الأكبر لحرب القوى العظمى في عصر التنافس بين القوتين، مع ديناميكيات تصعيد غير مؤكدة من حيث الانتشار الجغرافي واستخدام الأسلحة، وتشكل تايوان قضية مركزية للحزب الشيوعي الصيني وتمثل آخر مسار جيوسياسي لتوحيد الصين وضم هذه الجزيرة، بالمقابل تستغل واشنطن هذا المسرح للضغط على بكين وتهديده قوميا وجغرافيا بدعم ووحدة استقلال تايوان كأداة صراع وبقعة توتر، قد تتطور ورقة الضغط تلك الى مسارات عملية تؤدي الى احتكاك مباشر بين القوتين.
مسرح المواجهة الاخر هو منطقة الخليج والشرق الاوسط وجنوب شرق اسيا، فدخول الصين بخط الوساطة بين ايران والسعودية مؤخرا يترجم تحويل الخطط المفترضة للشروع بتنفيذ مبادرة الحزام والطريق التي تشكل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة بدءً من هذه المنطقة وصولا الى اوروبا واسيا الوسطى.
نجاح رعاية الاتفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية ضروري جداً للصين فالاستثمارات الصينية المباشرة في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية ستُترجم إلى تأثير سياسي عالمي وشعور بالقوة الكافية لإضافة وساطات دبلوماسية اخرى في هذه المنطقة الملتهبة، وفعلا بعد أيام قليلة من الوساطة أكدت الصين إجراء مناورات (حزام الأمان البحري) في بحر العرب بمشاركة أساطيل إيران والصين وروسيا.
في ضوء ذلك لن تتهاون الولايات المتحدة في تصعيد المواجهة لمنع هذا التهديد، قد يترجم الى تدخل اوسع وعودة اقوى لواشنطن في سياساتها وتواجدها العسكري ونفوذها السياسي الواسع وحلفاءها في دول المنطقة وتحريك عوامل الاضطراب الداخلية والاقليمية لتفكيك اي ممكنات تعطي افضلية لتنفيذ مشروع طريق الحرير، لهذا اتفقت واشنطن مع حليفتيها أستراليا وبريطانيا لتصنيع جيل جديد من الغواصات المتطورة يتعلق بضمان السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ونشر وجود بحري في مواجهة نشاط الصين، فمشروع طريق الحرير الضخم والنمو القوي للجيش الصيني، ينظر إليه من قبل واشنطن على أنه تهديد لتفوقهم العسكري في المنطقة.
كما ان التقارب الايراني- السعودي تفهمه واشنطن بأنه ليس تنويع لشركاء الرياض بل تحرير نفسها من الهيمنة الأمريكية، وايضا خيبة أمل لواشنطن لعدم قدرتها ادارة الصراع في المنطقة، ونجاح يحسب للصين في إعادة تأهيل ايران التي رفضها الغرب كما انها تشكل خطوة فاعلة لإخراجها من عزلتها، وتعزيز مكانة الصين كقوة استقرار في المنطقة.
مسرح المواجهة الاخر بين القوتين هو افريقيا وبالنسبة للصين فأن البلدان الأفريقية تمثل في نظرها مخزون مهم من الشركاء الداعمين لصوت بكين في المؤسسات والمنظمات الدولية، كما انها تشكل مصدر ثمين للموارد الطبيعية واسواق خارجية مهمة، حتى انها بدأت بتعزيز وجودها العسكري في هذه القارة بدأً من جيبوتي، ولهذا سارعت واشنطن الى تعزيز حضورها في افريقيا في ظل زيارات دبلوماسية متواصلة تريد من خلال الحد من النفوذ الصيني واعادة التوزان المفقود لصالح واشنطن.
مسرح آخر للتنافس بين القوتين هو بحر الصين الجنوبي هذه المنطقة من أكثر مناطق الخلاف وضوحا، ويعتبر بحر الصين الجنوبي ممراً لثلث التجارة البحرية العالمية فيها احتياطيات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، حيث تتنافس الصين والولايات المتحدة على النفوذ والسلطة في المنطقة التي ينظر إليها كلاهما من الناحية الجغرافية الاستراتيجية، وذهبت الصين إلى حد التوسع المصطنع للجزر المتنازع عليها في المنطقة لبناء مؤسسات عسكرية، وهي مظهر مباشر للتهديد المتزايد الذي تشكله الصين للهيمنة الأمريكية في هذه المنطقة مما يسبب قلقاً كبيرا لواشنطن.
المسرح الاخر للمواجهة والتنافس بين القوتين يتمثل بتضييق الفجوة في مستويات القوة الاقتصادية والعسكرية بين الدولتين، فضلاً عن المؤسسات الدولية المتنافسة التي أنشأتها الصين لموازنة النفوذ الأمريكي، اذ نمت الصين بسرعة قدراتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية على الصعيدين المحلي والدولي وهي تتجه نحو تكافؤ القوة مع الولايات المتحدة، يرافق هذا التوسع التحدي الذي يواجه النظام والقيادة الأمريكيين الحاليين، والذي أثار مواجهة لم تشهدها الولايات المتحدة منذ ذلك الحين مع الاتحاد السوفيتي.
كما يوفر مجال التنافس في الفضاء وعالم الإنترنت بينهما سبلا إضافية للإكراه والمنافسة، فالهجمات الإلكترونية والامن السيبراني والتجسس الالكتروني يشكل بيئة ملتهبة لنشوب تنافس اقتصادي وعسكري خطر قد يؤدي الى حدوث تصعيد غير محسوب العواقب.
لكن هنالك وسائل ردع وضبط للتنافس المذكور بين القوتين تفرضها مسألة الاعتماد المتبادل والترابط الاقتصادي والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين الذي يقلل من مخاطر الحرب، فالاعتماد المتبادل بين القوتين يعد عامل مهم لتعزيز استقرار التنافس، ليتحول الاخير الى تعايش تنافسي أو التعايش في النزاعات، لكن مستوى الاعتماد المتبادل في التنافس بين الولايات المتحدة والصين يترك مساحة أكبر للحرب الاقتصادية التي سيكون لها اثر كبير في النظام الدولي.
هذا الترابط الاقتصادي قد لا يستمر لان كلا الطرفين ينظران اليه بمثابة ضعف ولهذا سيسعيان للحد منه وبالتالي سيخلق احتكاكاً بين القوتين وحلفائهما، وداخل النظام الاقتصادي العالمي، فالاعتقاد بأن التنافس بين القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين مستقر نسبيا ويمكن إدارته بسهولة غير واقعي فمسارح التنافس المذكورة: تايوان كنقطة ساخنة والتنافس البحري غير المستقر في بحر الصين الجنوبي وسباق تكنولوجيا الفضاء والامن السيبراني الجديدة، وتداعيات تشكيل المحاور في منطقة الخليج والشرق الاوسط وجنوب شرق اسيا وافريقيا وحتى امريكا الوسطى، والمخاطر المرتبطة بالاعتماد الاقتصادي المتبادل بين القوتين، تشير إلى أن هيكل التنافس بين الولايات المتحدة والصين قد يكون في الواقع أكثر هشاشة من التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.
اذ تشكل ظاهرة صعود الصين بتوسعها الاقتصادي السريع ونمو جيشها وصعود نفوذها الدولي ومحاولتها تغيير قواعد النظام العالمي وتوازناته تحدي أساسي للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه وتطبيعه واستيعابه دوليا، فالصين أظهرت عدم رضاها عن النظام العالمي الحالي، لأنها تمتلك الموارد الهائلة لمقاربة تكافؤ القوة مع الولايات المتحدة، وأثبتت استعدادها لاستخدام قوتها الاقتصادية الصاعدة حديثا لتحدي الوضع الراهن الذي لا تشعر بالرضا عنه.
عند النظر إلى مستويات القوة وسلوك الدول المتنافسة يتضح ان التكافؤ ليس بعيدا، والتوسع العسكري والتحديث يحفز الردع مما يؤدي في النهاية إلى خلق بيئة متنازع عليها بشدة، وإذا استمرت القوة الاقتصادية الصينية في التوسع، فيمكن أن نتوقع استمرار الأعمال العدائية والمنافسة الحالية، مع اقتراب التكافؤ، وهذا الوضع لن يؤكد ما إذا كانت الصين والولايات المتحدة ستستمران في التعايش، بل سيفكر القطبان ان أحدهما سينتصر على الآخر، وهذا يعطي لنا تصور لفهم المسار المستقبلي للتنافس والنزاع بين الصين والولايات المتحدة يتمخض بحصول انتقال وتحول في النظام الدولي.
.
رابط المصدر: