مسار إجباري: كيف دفعت واشنطن دول الخليج شرقًا نحو بكين؟

 نرمين سعيد

 

اعتادت بكين اقتناص الفرص. وقد فطنت في وقت بدا متأخرًا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية إلى أهمية الشرق الأوسط وعلى وجه التحديد العواصم الخليجية التي يمكن وصفها بـ “درة التاج” في المنطقة إذا شئنا الحديث عن أمن الطاقة الذي يعد أمرًا “حيويًا” بالنسبة لبكين.

وعلى طرف المعادلة الآخر في التقارب الخليجي- الصيني يقف ما يمكن وصفه بالتخاذل الأمريكي في دعم الحلفاء الاستراتيجيين، وهو التخاذل الذي يمكن التقاط إشاراته بسهولة على أي رادار سياسي، ويمكننا التفصيل له على الأقل في الفترة الأخيرة بعدد من الإجراءات الأمريكية التي لا يمكن غض الطرف عنها.

إلا أن المحرك الأساسي في هذا التغير الأمريكي يرجع في الأصل إلى أن الأسس المنطقية لتحالف الولايات المتحدة مع الخليج لم تعد مبنية على نظرية “الأمن مقابل الطاقة” حيث استوردت واشنطن 12% فقط من احتياجاتها البترولية من الخليج في عام 2020.

إرهاصات التخلي 

كانت إرهاصات ما يمكن وصفه بالتخلي الأمريكي عن الخليج بدأت منذ اندلاع الربيع العربي، وموقف الولايات المتحدة مما حدث في ميدان اللؤلؤة في المملكة البحرينية قبل أن تتدخل قوات درع الجزيرة وتحسم الأمر؛ فقد وجدت العواصم الخليجية نفسها ضحية لدبلوماسية القيم الأمريكية التي توظفها كلما أرادت التدخل في شؤون الدول.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Desktop\20180312_1520880487-691264.jpg

أما آخر فصول التخاذل الأمريكي فهو موقفها من “طهران” العدو التقليدي لمنطقة الخليج العربي؛ إذ أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي ” جو بايدن” على قرار يخص الإفراج عن الأصول الإيرانية في الخارج بمعدل سنوي يسمح للإيرانيين على أقل تقدير بتسيير دولتهم حسب التبرير الأمريكي، ولكن حقيقة الأمر أن الأمريكيين أعطوا للتو قبلة الحياة لميليشيات إيران حول المنطقة، لأن طهران ستكون قادرة على تمويل وكلائها بسخاء.

وبهذه الخطوة الأمريكية التي ما زالت حبرًا على ورق، بعثت واشنطن رسالة مؤكدة إلى أصدقائها في الخليج تثبت خلالها أنها شريك غير موثوق به ولا يؤمن جانبه. حتى أن باريس ومن منطلق اقتناص الفرص وشغل الفراغ أكدت عبر وزيرة جيوشها في يناير الماضي أن الإليزيه سيعمل على تعزيز منظومة الدفاع الجوي لدى الإماراتيين، وأن الاتفاقية ستتضمن تنفيذ عمليات من قاعدة الظفرة الجوية تشمل التزود بالوقود وعمليات تتعلق بقدرات إطلاق الصواريخ من الأرض لإسقاط أهداف في الجو.

وأوضحت الدفاع الفرنسية أن “خطط عمليات الطائرات موضوعة بالفعل.. بالتنسيق مع القوات الجوية الإماراتية لكشف وإحباط هجمات الطائرات المسيرة أو صواريخ كروز التي تستهدف الإمارات”. وفي ديسمبر من العام الماضي وقع الإليزيه أيضًا أكبر صفقة لبيع طائرات حربية فرنسية من طراز “رافال” مع العاصمة أبو ظبي لحماية المجال الجوي هناك.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Desktop\macron-uae.jpg

ومما زاد الطين بلة، أن واشنطن أقدمت على اتخاذ هذه الخطوة في وقت تتعرض فيه دولة الإمارات العربية المتحدة لهجمات مكثفة من الحوثي على مناطق “مهمة” كادت أن تصل إلى استهداف المصالح الأمريكية نفسها في قاعدة الظفرة الجوية لولا أن تم التصدي للهجوم.

وكان من الطبيعي أن يكون هذا رد الفعل الحوثي بعد أن استهدف المملكة ووقفت الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي حتى عن دعم حلفائها بتوفير منظومات قتالية أو دفاعية متطورة؛ فمن أمن العقاب أساء الأدب. بل أنها تعمدت عرقلة التعاون العسكري بين دول الخليج والصين، وكانت اعترضت على ما رصدته من تشييد منشأة عسكرية صينية في أحد موانئ دولة الإمارات، بجانب أنها تتدخل علانية في مجال تقنية الجيل الخامس التي تنقلها الصين إلى العواصم الخليجية، وهو التدخل الذي لم تستسلم له دول الخليج مجتمعة.

وإيران التي لم يعجبها التقارب بين الإمارات والعراق دفعت ميليشياتها -وهي مكبلة بالعقوبات- إلى تنفيذ هجوم على الإمارات تبنته ” ألوية الوعد الحق” عن طريق طائرات مسيرة استهدفت العاصمة “أبو ظبي”. وهو تطور يمكن وصفه بالخطير، لأن أبو ظبي لم تكن في يوم من الأيام هدفًا للميليشيات المتمركزة في العراق. ولكن يبدو أن أبو ظبي وظفت الحكمة حتى في تعليقها على الحادثة مدركة أن ميليشيات طهران لها يد طولى، وأن الأمر غير معني بالعراق.

ولكن الأكثر غرابة في رفع القيود عن الأصول الإيرانية، أن واشنطن لم تقدم فقط الجواب لطهران على طبق من ذهب بفصل الملف النووي عن الأمن الإقليمي – ولكنها أعادت لإيران السلاح الذي يهدد مصالحها هي كدولة في منطقة الخليج العربي، ورفعت الحرج عن العواصم الخليجية ودفعتها إلى الإمعان في الإحجام عنها والتقرب من الصين.

إلى جانب ذلك، يمكن وصف إجراء الولايات المتحدة الأخير ناحية إيران بالتناقض السياسي؛ لأنها بعد أن قامت يتزويد الإمارات بطائرات مقاتلة عقب هجمات الحوثي عليها عادت وانقلبت على قرارها عندما اتخذت قرار بالإفراج عن الأصول الإيرانية في نفس الوقت الذي تتم فيه عرقلة حصول العواصم الخليجية على إف 35 بحجة التخوف من استخدامها من اليمن، وإن كانت قد أشارت مؤخرًا إلى أنها وافقت على بيع الإمارات قطع غيار بقيمة 30 مليون دولار لدعم أنظمة الدفاع الصاروخي “هوك”- فماذا عن الأسلحة المتطورة التي سيتمكن الحوثي من الحصول عليها بعد الإفراج عن أصول مموليه.

فالسياسات الأمريكية سمحت للإيرانيين في نفس الوقت الذين يعلنون فيه عن جولة خامسة للمباحثات مع السعودية بالدفع بميليشياتهم لاستهداف الأراضي الإماراتية، وهو ما يثير طرحًا آخر مفاده أن الطائرات التي هاجم بها الحوثي الإمارات ربما تكون رسالة ضمنية للسعودية، بل جزء من المفاوضات لأن التفاوض من منطق القوة مغاير للتفاوض من منطلق الضعف، وحتى السلام يفرضه الأقوى.

دول الخليج تستقبل قبلة الشرق

في يناير من العام الجاري ولعله لم يكن من قبيل الصدفة، توافد على بكين عدد من كبار المسؤولين الخليجيين من ضمنهم وزراء خارجية السعودية والكويت وعمان والبحرين وبرفقتهم الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي. وخرج البيان المشترك لوزارة الخارجية الصينية والأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي ليؤكد على ضرورة التوقيع على خطة العمل المشتركة للحوار السياسي بينهما في الفترة بين عامي 2022-2025.

وهو المؤشر الذي يتوافر لدينا ويؤكد أن العلاقات بين الخليج وبكين وصلت إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية التي ترتبط بداهة بكون الخليج يمثل حجر زاوية في مسألة أمن الطاقة بالنسبة لبكين التي تستورد من العواصم الخليجية 32% من احتياجاتها من النفط، ولذلك فهي تهتم كثيرًا بالأوضاع الأمنية في الخليج العربي، خصوصًا بعد أن غدت مبادرة “الحزام والطريق” -التي أعلن عنها الرئيس الصيني في 2013 والتي تمثل دول الخليج فيها نقطة ارتكاز مهمة للسفن الصينية المتجهة لأوروبا وأفريقيا- مستقبلًا قريبًا.

وفي 2020 وحده، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول الخليج العربي، وقامت الإمارات -التي تعد أكبر شريك تجاري غير نفطي للصين- بتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية لأجل الإنسانية في 2021 والتي تستهدف بشكل أساسي تطوير البحوث البيولوجية خصوصًا في مجال إنتاج اللقاحات. ويعزى جزء مهم من قوة العلاقات بين العواصم الخليجية والصين إلى فترة اجتياح الوباء ومدى تأثيره على الصناعات النفطية مما شكل دافعًا لتلك الدول لتنويع اعتماداتها الاقتصادية، إذ تشكل الاستثمارات الصينية بندًا مهمًا في هذا الإطار.

وساطة نزيهة واستثمارات ضخمة

بالعودة إلى ملف العلاقات بين دول الخليج وإيران والذي يعد محركًا أساسيًا في اتجاه تلك العواصم شرقًا ناحية بكين نتيجة التعامل غير المنصف للحليف الأمريكي مع التهديد الإيراني لشركائه- تظهر الصين هنا بمظهر الوسيط النزيه على الأقل في تهدئة الأوضاع بين السعودية وإيران، خصوصًا أنها تتمتع بعلاقات طيبة مع الجانبين، حتى أن سفير بكين في العراق تحدث عن وجود جولة خامسة للمفاوضات في بين العاصمتين السعودية والإيرانية في بغداد. وإذا نجحت الصين في مسعاها تكون قد سددت هدفًا جديدًا في الشباك الأمريكية.

ولم يعرقل هذا الأمر التقارب بين إيران والصين على مستويات عدة وصلت إلى اتفاق شراكة استراتيجية طويل الأمد تم التوقيع عليه في عام 2021، ولكن حتى هذه الخطوة لم تؤد إلى الإخلال في التوازن بين الصين ودول الخليج التي تقبلت حقيقة التعاون بين طهران وبكين ببراجماتية شديدة، بل أنها طورت من اتجاهها شرقًا، ووصلت بالتعاون مع المارد الصيني إلى طابع مؤسسي ضمن استراتيجية شرق أوسطية للتوجه شرقًا.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Desktop\354ba8a4-e6b2-4e56-8ea3-ea49af7180b5_16x9_1200x676.jpg

أما على مستوى الاستثمارات الصينية في دول الخليج فتخطط أبو ظبي لاستضافة أول اجتماع للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية في الشرق الأوسط. ويمكن تفسير ذلك بأن تعهد الصين بتخفيض الانبعاثات الكربونية جعل هناك الكثير من الآفاق المفتوحة للتعاون مع دول الخليج غير مجال الطاقة.

وكذا، تضمنت الاستثمارات الصينية في الخليج 11 مليار دولار في هيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم في عمان عام 2017؛ واستثمارًا بقيمة 4 مليارات دولار في مصنع للبتروكيماويات في مدينة جازان للصناعات الأولية والتحويلية في السعودية، في عام 2017؛ واستثمارًا بقيمة مليار دولار في منطقة خليفة الصناعية بأبوظبي في عام 2018، مع احتمال استثمار 10 مليارات دولار أخرى من مجموعة East Hope Group.

ولإجمال ما تقدم، يمكننا الإشارة إلى أن كلًا من طرفي المعادلة “دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية” يدركان أن العلاقات طويلة الأمد هي الخيار الوحيد؛ فمن ناحية لن تتجرأ واشنطن على أن تدير ظهرها تمامًا لفواعل أساسية في مجال أمن الطاقة، وعلى الطرف الآخر للمعادلة تدرك العواصم الخليجية أن المارد الصيني لا يستطيع توفير المظلة الأمنية لها لسببين: الأول أن بكين لا تمتلك بداية أي موقف عدائي من طهران التي تعد العدو اللدود لدول الخليج العربي وبالتالي فسوف تمضي قدمًا في شراكات استراتيجية مع طهران، أما الثاني فهو أن دول الخليج وإن كانت تتعاون عسكريًا بشكل متنامٍ مع بكين إلا أنها لا تستطيع الحصول على كل احتياجاتها من السلاح من الصين فقط، ولذلك فهي ما زالت بحاجة إلى علاقات جيدة مع واشنطن لتطوير منظومتيها الدفاعية والقتالية، بالتحديد في هذه الظروف المضطربة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/67216/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M