يَشهدُ مسار الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا مؤخرًا تطورات جديدة تمثلت بإعلان البحرية الفنزويلية عن دخول سفينة أمريكية من طراز USCG James)) إلى المياه الإقليمية للبلاد، حيث اقتربت 14 ميلًا من ميناء غويرا _ ولاية فارغاس الواقعة شمالي البلاد_ واعترضها قارب دورية للبحرية الفنزويلية وأقنعها بتغيير مسارها([1]). سبق هذه الحادثة بأيام عرض تلفزيون فنزويلا الحكومي مقطع فيديو لشخص أمريكي من المجندين السابقين ألقيَ القبض عليه مع شخص آخر، بتهمة محاولة تدبير انقلاب ضد نيكولاس مادورو([2]).
بدورها الولايات المتحدة، نفى مجلس أمنها القومي صحة هذه المزاعم، موضحًا ” ليس للحكومة الأمريكية علاقة بالأحداث المزعومة التي وقعت في الآونة الأخيرة في فنزويلا، والادعاءات بعكس ذلك غير صحيحة. لو كانت تلك عملية خططتها الولايات المتحدة مثلما زعم مادورو، الذي يواجه اتهامات لها صلة بالمخدرات والإرهاب، لكانت صريحة ومباشرة وفعالة”([3]).
هذه التطورات أعادت النقاش في الأوساط السياسية حول إمكانية تصعيد الأزمة بشكل أكبر في وقت تشهد فيه البلاد انقسامًا بين مؤيدي نيكولاس مادورو بصفته رئيس الدولة، وبين مؤيدي رئيس المرحلة الانتقالية المعلن من جانب المعارضة فقط – من طرف واحد- خوان غوايدو، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية التي ازدادت سوءًا بسبب أزمة كورونا التي تضرب المنطقة([4])، لذلك فإن أي تصعيد جديد للأزمة مع الولايات المتحدة قد يُحدث تطورات خطيرة في البلاد ضمن وقت حساس يشهده العالم، وعليه فإن التساؤل يثار حول مسارات العلاقة المتوترة بين القيادة الأمريكية وكراكاس.
سِمات العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا
يمكن تقسيم بداية توتر العلاقات بين الدولتين إلى ثلاث مراحل رئيسية وفق ما يأتي:
المرحلة الأولى: وصول تشافيز إلى السلطة
العلاقات الفنزويلية الأمريكية بدأت بالتوتر منذ وصول الرئيس السابق الراحل هوغو تشافيز إلى السلطة عام 1999 الذي تبنى خطابًا شيوعيًا اشتراكيًا مناهضًا للرأسمالية ورموزها وأبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية، واتّجه نحو تعزيز العلاقة مع الدول الاشتراكية كروسيا والصين وأبرم معها اتفاقيات تعاون عسكري([5])، ومهام مناورات عسكرية مشتركة خصوصًا بين القوات الفنزويلية والقوات الروسية في بحر الكاريبي، ما جعل الولايات المتحدة تعتبر فنزويلا إحدى المهددات الخامدة لأمنها إذا ما تمكن حلفاؤها خصوصًا الصين من بناء قاعدة مصالح صلبة تشكل خطرًا على نفوذ واشنطن في القارة اللاتينية. في حين بلغ أوج التصعيد بين البلدين في هذه المرحلة عام 2010 عند قيامهما بطردٍ متبادل لعدد من الدبلوماسيين في سفارتي الدولتين بتهمة التجسس، وصولًا لقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما وسحب كل منهما لسفيره لدى الدولة الأخرى([6]).
المرحلة الثانية: رحيل تشافيز وتولي مادورو
دخلت العلاقات بين البلدين في منحى آخر بعد موت تشافيز عام 2013، وتولي نيكولاس مادورو السلطة في البلاد، والذي انتهج خطَّ سلفه بموقف كراكاس من الولايات المتحدة بل اتجه نحو لغة تصعيدية أقوى، _فعلى سبيل المثال_ وأثناء إجراء الانتخابات الرئاسية ادعى تدخل الولايات المتحدة في بلاده من خلال دعمها ومساندتها لمرشح المعارضة، وأكد أنه سيقدم أدلة جديدة على هذا التدخل بعد انتهاء عملية التصويت، وهو الأمر الذي لم يتم بعد إعلان فوزه بهذه الانتخابات.
وبعد فوزه بأسابيع قليلة طالبته الولايات المتحدة له بالاستماع للمعارضة وتحقيق الاستقرار الداخلي ورفضت تهنئته بالمنصب الجديد، على إثر ذلك شن الرئيس الجديد هجومًا حادًا على الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما معتبرًا إياه كبير الشياطين حسب وصفه.
ووصلت العلاقات إلى مرحلة حرجة عندما أعلنت فنزويلا تموز/يوليو 2013 -أي بعد تولي مادورو الحكم بشهرين- عرض حق اللجوء لإدوارد سنودين الموظف السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكية بعد قيام واشنطن بإحالته للمحاكمة لقيامه بتسريب تفاصيل برامج سرية أمريكية للمراقبة، ورفض روسيا منحه حق اللجوء السياسي، حرصًا منها على مصالحها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة([7]).
المرحلة الثالثة إعادة انتخاب مادورو
لم يحقق مادورو إنجازات حقيقية تلبي احتياجات المواطنين، وساء اقتصاد البلاد إلى درجة كبيرة وتهاوى سعر صرف العملة، ومارست السلطات حملات قمع لإخماد احتجاجات كبيرة ضد سياسات مادورو في العاصمة كراكاس، واستمر الحال بالتدهور حتى عام 2018 موعد الانتخابات الرئاسية([8])، وحينها أُعلن فوز نيكولاس مادورو بالانتخابات الرئاسية، والتي رفضتها المعارضة وجزء كبير من نواب البرلمان ولم يعترفوا بنتائجها وشككت في صحتها، فبادر الرئيس مادورو إلى إنشاء جمعية تأسيسية وطنية موالية له، بدلا عن البرلمان مما سهل له إجراء تعديلات على بعض فقرات الدستور، وقيامه بأداء اليمين القانوني أمام المحكمة العليا.
أثار _ما سبق_ غضب واستياء البرلمان معلنًا أن تنصيب مادورو غير شرعي، لأن الدستور ينص على أن أداء اليمين يكون أمام البرلمان وليس في المحكمة، وأن البرلمان يمثل السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد، مما دفع رئيسه خوان غوايدو إعلان نفسه رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا في كانون الثاني/ يناير 2019، وبشكل سريع أعلنت أمريكا اعترافها وتأييدها له، ثم اعترفت به بعدها أكثر من 50 دولة منها: كندا والاتحاد الأوربي والبرازيل والأرجنتين. بينما دعمت كل من روسيا والصين وتركيا وإيران وسورية وكوبا والمكسيك، نظام مادورو([9]).
وعلى إثر ذلك بدأت الولايات المتحدة بتطبيق عقوبات على فنزويلا، كان أهمها تلك المطبقة على شركة النفط الوطنية الفنزويلية PDVSA، معتبرة أن عائدات بيع النفط الفنزويلي ستساهم في الضغط على نيكولاس مادورو للتنازل عن الحكم. واشترطت لرفع العقوبات اعتراف شركة النفط الفنزويلية بغوايدو رئيسًا انتقاليًا للبلاد.
وتأتي أهمية استهداف هذه الشركة بالعقوبات لأنها تساهم بشكل أساسي في عائدات حكومة كراكاس، كما أنها تصدّر ما يقارب 41% من إنتاجها لواشنطن التي تعد أكبر مستورد للنفط الفنزويلي، وقد تم تأميم شركة النفط الوطنية الفنزويلية عام 2007 على يد الرئيس السابق هوغو تشافيز، حيث قام بإبعاد مدراء تنفيذيين في الشركة ومسؤولين كبار فيها، وقام بتعيين جنرالات من الجيش موالين للنظام الفنزويلي بدلًا منهم؛ بهدف إحكام السيطرة على حجر الزاوية الرئيسي في اقتصاد البلاد([10]). ومن الجدير بالذكر ما تشير إليه تقديرات إلى أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي من النفط في العالم والذي يُقدر بـحوالي 300 مليون برميل، ويساهم القطاع النفطي بحوالي 90% من عائدات البلاد الاقتصادية([11]).
تقييم سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه فنزويلا
أبدى البيت الأبيض بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب صرامة غير مسبوقة ولهجة دبلوماسية مرتفعة في التعامل مع كراكاس، حيث أشار مسؤولون أمريكيون مرارًا بأن واشنطن قد تلجأ إلى استخدام القوة للإطاحة بمادورو إذا “أقدم على فض المظاهرات الشعبية المعارضة له بالقوة والقمع، وقد زادت التكهنات باحتمال تنفيذ عمل عسكري أمريكي ضد مادورو، بعدما ظهر مستشار الأمن القومي، جون بولتون في مؤتمر صحفي في أواخر كانون الثاني/ يناير 2019، وفي يده ملف ملاحظات مكتوب عليه (5000 جندي إلى كولومبيا)”([12]). أيضًا واشنطن طالبت روسيا بإنهاء نفوذها في فنزويلا والذي يشكل للأخيرة قاعدة صلبة عسكرية في مياه الكاريبي إلى جانب الحليف الآخر الصين([13])، من جهتها موسكو حذرت الولايات المتحدة مؤخرًا من عواقب سلبية جراء القرار الأمريكي إرسال سفن حربية إلى مياه البحر الكاريبي القريبة من سواحل فنزويلا في إطار مهمة أمريكية لمكافحة تهريب المخدرات([14]).
ولذلك لم يعد من الممكن حصر أزمة العلاقات بين واشنطن وفنزويلا فقط بل اتسعت لتأخذ منحىً دوليًا وإقليميًا أكبر، ما يعقّد من الأزمة ويقلل فرص إيجاد حلول لها خصوصًا بعد اعتراف عدة دول بشرعية خوان غوايدو([15]).
لكن بالرغم من ذلك لا يبدو أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى القوة الخشنة لتحقيق إرادتها في فنزويلا، بل لا تزال تتبع استراتيجية الضغط والعقوبات الاقتصادية كان أحدثها فرض عقوبات جديدة على 34 سفينة تابعة لمجموعة النفط الفنزويلية الحكومية في نيسان/أبريل 2020. وسبقها في شباط/فبراير عقوبات أخرى على شركة الطيران الفنزويلية المملوكة للدولة. ومع استمرار استراتيجية الضغط فتحت واشنطن مسارًا آخر دبلوماسي لحل القضية الفنزويلية حيث اقترحت الأولى في نيسان/أبريل 2020 تشكيل حكومة انتقالية مشتركة بين السلطة والمعارضة في فنزويلا، مقابل رفع العقوبات عنها، مع دعوة كل من الرئيس نيكولاس مادورو وزعيم المعارضة خوان غوايدو إلى التنحي، وتشكيل حكومة تتألف من أعضاء يمثلون الطرفين تعمل على تنظيم انتخابات في غضون ستة أشهر إلى 12 شهرًا، وذلك في إطار انتقالي ديمقراطي، وفي حال تطبيق هذا الانتقال بالكامل سترفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على فنزويلا، بما فيها الحظر الأميركي المفروض على الصادرات النفطية الفنزويلية وعلى مادورو وحلفائه. بالتالي فإنه لا يوجد رغبة لدى الولايات المتحدة الأمريكية في المدى المنظور الاتجاه نحو إحداث تصعيد عسكري أو تهديد أمني على فنزويلا، لكن قد تحدث هناك بعض الأعمال الاستفزازية ضمن إطار سياسة الضغط التي تتبعها واشنطن ولا تستهدف فيها كاراكاس فحسب بل حلفائها وبشكل خاص الصين وروسيا.
([1]) “دخول سفينة أمريكية المياه الإقليمية الفنزويلية”. سبوتنيك، 10-5-2020. https://bit.ly/2Wtflh3
([2]) “فنزويلا تعرض فيديو لثان أمريكي قبضت عليه.. وتتهمه بتدبير محاولة انقلاب ضد مادورو”. سي إن إن، 8-5-2020. https://cnn.it/3brMrC7
([3]) “أمريكا تنفي ضلوعها في توغل فاشل في فنزويلا”. رويترز، 9-5-2020. https://bit.ly/2Ln1z9l
“ترامب عن “غزو” فنزويلا: لن أعتمد على مجموعة صغيرة”. عربي 21، 8-5-2020. https://bit.ly/2T2cwBp
([4]) “فنزويلا: فيروس كورونا يعزز سلطة مادورو”. مونتي كارلو الدولية”. 20-4-2020. https://bit.ly/3fOrfd6
([5]) “مترجم: قوتها تتمدد في أمريكا اللاتينية.. هكذا تسعى الصين إلى نهب ثروات فنزويلا”. ساسة بوست، 10-4-2019. https://bit.ly/2zB17lc
([6]) “التقرير السياسي لأمريكا اللاتينية لعام 2019”. مرصد أمريكا اللاتينية، 19-2-2020. https://bit.ly/3bvQpK6
([7]) “فنزويلا وأمريكا . . “عداوة” سياسية وصداقة تجارية”. الخليج، 8-8-2013. https://bit.ly/3dGqEIu
“فنزويلا توافق على استضافة سنودن”. الجزيرة نت، 9-3-2013. https://bit.ly/2WWic0O
([8]) “فشل نموذج الدولة الريعية: قراءة في الأزمة الفنزويلية”. المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسيات، 27-5-2019. https://bit.ly/2y4RN8W
([9]) انظر المرجع رقم 4.
“ما الذي يحدث في فنزويلا؟”. بي بي سي، 1-2-2019. https://bbc.in/2Wudzwd
“من الذي يحكم فنزويلا خوان غوايدو أم نيكولاس مادورو؟”. بي بي سي، 25-2-2019. https://bbc.in/2WvjBwp
([10]) “سياسي/ فنزويلا / تأميم النفط”. وكالة الأنباء السعودية واس، 27-2-2007. https://bit.ly/35XXFx7
“شركة النفط الفنزويلية”. الجزيرة نت، تاريخ المشاهدة 14-5-2020. https://bit.ly/2ArCoAl
([11]) “فنزويلا.. أضخم احتياطي نفطي عالميا وتنزف اقتصاديا (إطار)”. وكالة الأناضول، 30-1-2019. https://bit.ly/2AryjMw
“فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي عالمي للنفط”. العربي الجديد، 24-1-2019. https://bit.ly/2WrO26G
([12]) “الأزمة الفنزويلية: صراع داخلي بأبعاد دولية”. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 5-2-2019. https://bit.ly/2WUPo95
([13]) “أمريكا تطالب روسيا وحلفاءها بمغادرة فنزويلا وموسكو ترد بحزم”. DW، 5-5-2019. https://bit.ly/2T0Fthi
“ماذا حملت الطائرات الروسية التي هبطت في فنزويلا؟ القصة الكاملة للدعم الروسي لعدو أمريكا”. عربي بوست، 30-3-2019. https://bit.ly/2yVEQOX
“فنزويلا والصين: لا تضع النفط بجانب المال”. إضاءات، 13-2-2019. https://bit.ly/2WSpNxD
([14]) “موسكو تحذر من عواقب سلبية للتحركات الأمريكية اتجاه فنزويلا”. روسيا اليوم، 9-4-2020. https://bit.ly/3cHB7De
([15]) “أزمة فنزويلا الأبعاد والاحتمالات”. برق للسياسات، 9-2-2019. https://bit.ly/368ZPu9
رابط المصدر: