- ظهرت مؤشرات على استعداد سورية لتحريك مسار التطبيع مع أنقرة، وأن دمشق لم تعد تتعامل مع مطلب وضع تركيا جدولاً زمنياً لسحب قواتها من شمال سورية، بوصفه شرطاً مسبقاً لتجديد المفاوضات بين الجانبين.
- قد تتجه سورية إلى إحياء مسار التطبيع مع تركيا، إما من خلال الرباعية أو بشكل مباشر، غير أنها تواجه حالياً تحدياً يتمثَّل في أن الجانب التركي لم يعد يُدرِج التطبيع مع دمشق ضمن أولوياته في هذه المرحلة.
- يُمكن للحكومة السورية إقناع تركيا بفوائد الحوار معها إذا قدّمت عرضاً جدياً بمسار ثنائي سياسي عسكري، شبيه بالتعاون الأمني الذي نسجه الجانبان أواخر العام 2022.
من الملفات التي تأثرت بالحرب في غزة مسار التطبيع بين سورية وتركيا، والذي بدأ في ديسمبر 2022 وتجمّد في يونيو 2023، حيث لوحظ تغيُّر في السياسة السورية التي أصبحت تُبدي مرونةً غير مسبوقة حيال الأتراك. هذه المرونة تبدو مُرحَّباً بها من قبل أنقرة، إلا أنها ما زالت تتحسس طريقها نحو ملاقاة دمشق في المنتصف.
خلفية عن تطورات المسار السوري-التركي
انطلق المسار السوري-التركي في ربيع العام 2022 بعد أن خشي الكرملين من حصول مقايضة تركية-أمريكية تؤدي إلى توسيع سيطرة أنقرة في شمال سورية على حساب “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مقابل موافقة الأتراك على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”. لذلك عارضت روسيا وإيران أي هجوم تركي لوحت به أنقرة أواخر شهر مايو 2022، وتوسطت موسكو للحيلولة دون الهجوم، وساهمت في ولادة مسار أمني عسكري سوري-تركي جديد اعتباراً من زيارة رئيس الاستخبارات التركية السابق هاكان فيدان لدمشق في سبتمبر من العام 2022. سعت روسيا إلى رعاية مسار تطبيع بين أنقرة ودمشق يُمكّنها من ضبط التحركات التركية، وإغراء أنقرة بالبقاء قريبة من روسيا، خوفاً من سير تركيا بعيداً في الخطط الأمريكية لحرب أوكرانيا. كما أن الروس أرادوا من إطلاق مسار تفاوضي بين دمشق وأنقرة إبقاء الملف السوري تحت سيطرتهم، وعلى الأخص بعد تراجع الدور العسكري الروسي في سورية لانشغال الكرملين في الحرب على أوكرانيا.
تُوجت سلسلة من المشاورات العسكرية والأمنية، باجتماع وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي في موسكو، أواخر العام 2022. لاحقاً، تمكّنت إيران من فرض نفسها على المسار، وبذلك نشأت “الرباعية”. استضافت موسكو اجتماعات الرباعية على مستوى نواب وزراء خارجية مطلع أبريل 2023، ثم وزراء الدفاع في 25 أبريل، ثم وزراء الخارجية في 10 مايو. كان يمكن لهذه الاجتماعات أن تحقق خرقاً يمهد للقاء رؤساء دول الرباعية، والذي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُعوِّل عليه، كي يدعم حظوظه في انتخابات الرئاسة التركية (التي جرت في 14 مايو 2023)، بخلاف الرئيس بشار الأسد الذي كان يراهن على هزيمته.
نقل الوزراء العملية إلى نوابهم كي يصيغوا “خريطة طريق” للتطبيع السوري-التركي. جرى مناقشة عناصر الخريطة في اجتماع على مستوى نواب وزراء الخارجية في العاصمة الكازاخستانية، أستانا (20 يونيو) على هامش الجولة العشرين لعملية أستانا. هيمن على المسار مطالبة دمشق المستميتة بتعهد تركيا بسحب قواتها من الأراضي السورية؛ ففي أثناء مناقشة مسودة خريطة الطريق التي صاغتها روسيا على هامش اجتماع أستانا، طالب وفد الحكومة السورية بالانسحاب التركي قبل الشروع في بحث أي تطبيع، ما اضطر موسكو إلى الإعلان في نهاية الاجتماع عن أن الوثيقة لا تزال تخضع لعمل “مكثف ودقيق”، علماً أنها ستحتاج إلى”مصادقة رؤساء الدول الأربع”. رفضت أنقرة مطالب دمشق، داعيةً إلى صياغة دستور جديد لسورية، وضمان أمن حدودها وشعبها قبل أي انسحاب.
تعرَّضت العلاقات التركية-الروسية إلى انتكاسة مع موافقة أنقرة على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 11 يوليو، وسماحها بعودة عدد من قادة كتيبة “آزوف” الأوكرانية من تركيا إلى أوكرانيا في خرق لاتفاق كان يقضي ببقائهم حيث هُم حتى نهاية الحرب. لاحقاً، وتحديداً في 9 أغسطس، أغلق الرئيس السوري بشار الأسد الباب أمام احتمال عقده لقاء مع نظيره التركي. تعثَّر المسار عندئذٍ، وتمترس الطرفان السوري والتركي عند مواقفهما. ولم تتمكن قمة جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره التركي في 4 سبتمبر من تحريك المسار. وانتقد أردوغان الرئيس الأسد لمراقبته من بعيد الخطوات المتخذة ضمن الرباعية. كان هناك محاولة إيرانية، وأخرى روسية في سبتمبر 2023 لإحياء المسار المتعثر، ولكن كلا المسعيان مُنيا بالفشل. ويرجع أهم أسباب تجمُّد المسار إلى:
- تبنّي الرئيس الأسد موقفاً متشدداً حيال مفاوضات الرباعية، والإصرار على مطلب الانسحاب ورفض طلبات نظيره التركي بعقد لقاء للرباعية على مستوى القمة، خوفاً من التوصل إلى اتفاق سوري-تركي من شأنه دعم حظوظ أردوغان في الانتخابات، مُراهناً على فوز مرشح المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو.
- انتظرت الحكومة السورية عودة الأتراك إلى المفاوضات فور انتهاء الانتخابات الرئاسية التركية، بنفس الزخم السابق. إلا أن أردوغان فَقَد حماسته لإحياء المسار بعد فوزه وتراجُع الضغوط المحلية عليه. وتفاجأ المسؤولون السوريون بأن تركيا لم تعد مستعجلة للتوصل إلى صفقة مع دمشق، ورفعت سقف مطالبها إلى قضايا تخص الحل السياسي.
- التفسير الروسي لفشل المسار أوضحه مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتيف، عندما صرّح بأن عملية التطبيع توقفت جراء شعور الحكومة السورية بضرورة “الحصول على ضمان لانسحاب القوات التركية من سورية على المدى الطويل”، على حين لا تقبل تركيا سحب قواتها إلا بعد تحقيق شروط محددة. اشترط وزير الدفاع التركي يشار غولر في 12 ديسمبر 2023، “وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة نزيهة” لتطبيع العلاقات بين الجانبين.
- أثّرت حربا أوكرانيا وغزة في التوازنات داخل مثلث أستانا؛ فقد أدّتا إلى تقارب روسي-إيراني، وتباعُد ما بين روسيا وتركيا، ما ألقى بظلاله على مفاوضات الرباعية. استعانت روسيا بطهران من أجل الحصول على أسلحة وطائرات مسيرة، في حين حصلت أوكرانيا على الطائرات المسيرة من تركيا. وأتى المزيد من التأثير السلبي لحرب أوكرانيا على العلاقات التركية-الروسية بعد انعطافة أردوغان نحو الغرب في الصيف الماضي، والتي تعززت بموافقة الكونغرس في 11 فبراير 2024 على بيع طائرات “إف-16” لتركيا، وتلويح واشنطن بإعادة تركيا إلى برنامج صناعة طائرات “أف 35”.
- تتحمل روسيا وإيران جزءاً من مسؤولية فشل المسار، بحسب الاتهامات التي كالها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 5 فبراير، إليهما؛ إذ اعتبر أنهما تمنعان دمشق من “اتخاذ قراراتها بنفسها”.
أعادت حرب غزة ترتيب الأوراق في المنطقة. ركزت القوى الإقليمية والدولية على مجريات الأوضاع في القطاع، فتراجعت أولوية الشأن السوري. ولكي تتفرغ دول أستانا لإدارة تداعيات حرب غزة على مصالحها ونفوذها الإقليمي، عقدت اجتماعها الثاني والعشرين في 25 يناير 2024، من أجل تثبيت الهدنة في إدلب، والتأكيد على “الدور المهم” لعملية أستانا في الحل الدائم للأزمة السورية. حاولت روسيا وإيران، خلال الاجتماع إقناع الأتراك بإعادة إطلاق مسار التطبيع التركي-السوري برعاية الرباعية، إلا أنهما فشلتا، ما جعل مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية ألكسندر لافرنتييف يتحدث عن “انهيار” المسار.
تحوُّل سياسة سورية والموقف التركي
ثمة مزاعم بأن الحكومة السورية أوصلت رسالة إلى الأتراك في نهاية ديسمبر الماضي مفادها أن مطلبها الذي هيمن على مسار الرباعية، أي وضْع جدول زمني لانسحاب القوات التركية من شمال البلاد، لم يعد بالنسبة له شرطاً مسبقاً في مفاوضات التطبيع (مقابلة هاتفية مع محلل سوري مقيم في أنقرة، 28 ديسمبر 2023). تلا هذه الرسالة لقاءٌ بين وفود عسكرية سورية وتركية قرب بلدة كَسَب في محافظة اللاذقية السورية، للتباحث مباشرةً في قضايا أمنية وعسكرية (مقابلة مع مصدر سوري مطلع، 29 ديسمبر 2023). وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولين السوريين والأتراك أجروا اتصالات مباشرة ثنائية واعدة قبل بروز الرباعية. فقد بدأ المسار السوري-التركي الثنائي على هامش اجتماعات مؤتمر بغداد للتنمية والشراكة في 28 أغسطس 2021، وتكثفت الاجتماعات خلال الشهرين الأخيرين من عام 2021 في عدد من العواصم العربية، مثل بيروت وعمّان. حرص الرئيس الأسد على إبقاء حلفائه بعيداً عن المسار الذي أنتج اتفاقاً على تعاون أمني ضد “قسد” والتنظيمات الإرهابية شمال غربي سورية. وشهد المسار انعطافته الأولى بعد الحرب الأوكرانية-الروسية، عبر دخول موسكو إلى المسار، ثم تحول الثلاثية إلى رباعية مع انضمام إيران.
هناك مجموعة من العوامل والحوادث التي قد تكون قد أدت دوراً في دفع دمشق إلى تبني سياسة جديدة. ظهرت أولى الإشارات على مراجعة دمشق موقفها من مسار التطبيع، بعد مناصرة أنقرة انتفاضة العشائر العربية ضد الأكراد شرقي سورية في أغسطس وسبتمبر الماضيين، بخلاف الروس الذين حرصوا على استمرار الوضع القائم الكردي، والإيرانيين الذين كانت استجابتهم فاترة حيال الانتفاضة. من المحتمل أن فشل قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان في 4 سبتمبر2023، قد ساهم في دفع الجانب السوري إلى تغيير نهج سياساته، وبخاصة أن مسؤوليه فقدوا الأمل في قدرة موسكو على تحريك المسار التركي-السوري. فبعد قمة سوتشي بنحو شهر، استهدفت المعارضة الكلية الحربية في حمص يوم 5 أكتوبر في ضربة موجعة للحكومة السورية. وردت موسكو ودمشق بحملة قصف جوي على مواقع مجموعات المعارضة في إدلب وحلب، ذلك من أجل الضغط على أنقرة كي تعود إلى مسار التطبيع بشروطهما، لكنهما لم ينجحا في مسعاهما.
ومثَّلت حرب غزة فرصة أخرى لإحياء المسار الثنائي، حيث فشلت الرباعية في أستانا، إذ قدمت هذه الحرب حافزاً قوياً للحكومة السورية لإجراء تحولات اضطرارية، واعتقد المسؤولون السوريون أن البقاء ساكنين في ظل الظروف التي تلت عملية “طوفان الأقصى” وما أفرزته من احتمالات تسوية شاملة على صعيد المنطقة، سترسخ الوضعية الراهنة للحكومة السورية. كما أن إعلان الإدارة الذاتية (الكردية) في 13 ديسمبر عن إقامة “إقليم إداري موحد”، جاء بمنزلة فرض وقائع “فيدرالية” جديدة على الأرض مُستغلة الفوضى الإقليمية، وهي خطوة تستفز دمشق وأنقرة معاً، وتفتح الباب أمام المزيد من التعاون.
في المقابل، كانت أنقرة هي مَن اعتبرت أن الرباعية فشلت في مهمتها، بسبب تأثير الروس والإيرانيين السلبي على الحكومة السورية، وظهر أنها تعول على حوار ثنائي مباشر لتطوير الفرص المتاحة بينهما. وقد حدد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في 4 يناير أولويةَ بلاده حيال سورية في “منع نشوب صراع جديد بين الحكومة السورية والمعارضة”، وبخاصة في ظل تصعيد حربها على “قسد” واستهدافها البنية التحتية في المناطق التي تسيطر عليها، واستمرار حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” في فرض الأمر الواقع في شمال شرقي سورية، ومساعي أنقرة لإعادة هيكلة ما يسمى “الجيش الوطني” في مناطق سيطرتها لمواجهة تمدد “هيئة تحرير الشام”. لاحقاً تحدث الوزير التركي عن امتلاك روسيا وإيران والحكومة السورية “أولويات مختلفة للغاية” فيما يتعلق بـ “توازنات المنطقة”، موضحاً في 16 يناير أن روسيا تغض الطرف عن وجود “حزب العمال الكردستاني” في مناطق من غربي الفرات، بينما يمتلك التنظيم معسكرات على طول الحدود الإيرانية، وامتدادات داخل الأراضي الإيرانية. ولقد نبّهت قيادات في المعارضة السورية إلى وجود “تفاهمات كبيرة” بين موسكو وطهران؛ إذ يدفع الروس الإيرانيين لمواجهة الأمريكيين في شمال شرقي سورية. وبموازنة أنقرة بين المحافظة على شراكتها مع إيران وروسيا في رعاية عملية أستانا، وابتعادها عن مسار التطبيع السوري-التركي بسببهما؛ انتقلت الكرة إلى ملعب الحكومة السورية.
السيناريوهات المحتملة للمسار السوري-التركي
يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة فيما يخص مستقبل مسار التطبيع السوري-التركي، وفق ما يأتي:
السيناريو الأول، استعادة سورية المسار الثنائي مع تركيا بعيداً عن رعاية الروس والإيرانيين. سبق أن أثمر حوار مباشر بين المسؤولين السوريين والأتراك أواخر العام 2022، عن تفاهمات أمنية واعدة ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية، والمجموعات المتطرفة في إدلب. وعلى الأرجح أن أنقرة وجدت في وصف الرئيس الأسد “قوات سورية الديمقراطية” بـ “الإرهاب” لأول مرة خلال زيارته إلى الصين سبتمبر 2023، بأنه بمنزلة ضوء أخضر لاستهداف الجيش التركي البنى التحتية التي أقامتها “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سورية.
تدرك دمشق أن تركيا أضعفت “قسد” بشدة، وأدت دور رأس الحربة في تقليص مساحة الأراضي التي تسيطر عليها في الشمال السوري بالرغم من الدعم الأمريكي المباشر، ومحافظة طهران وموسكو على علاقات عمل معها. ويمكن لمسار ثنائي سوري-تركي أن يتوصل إلى الاتفاق على تقويض سيطرتها أكثر، وربط الانسحاب التركي من الأراضي السورية بانسحاب القوات الإيرانية والميلشيات المتحالفة معها، أو على الأقل حصر وجودهم ضمن مواقع وأدوار محددة، علماً أن الإيرانيين أصروا على حجز مقعد لأنفسهم على الطاولة الرباعية كي يضمنوا ألا يحصل اتفاق كهذا.
وعلى رغم ملاءمة هذا السيناريو لتركيا وسورية، فإن احتمال تحققه يظل ضئيلاً. فمن جهة، تستطيع إيران وروسيا تعطيله فور اكتشافه، أو الضغط على دمشق من أجل التراجع عن أي اتفاق تتوصل إليه بموجبه. ومن جهة أخرى، لا تزال الشكوك عميقة بين دمشق وأنقرة. كما لا توجد ضمانات بألا تستخدم الحكومة السورية الأتراك “رافعةَ ضغط” على العرب أو حلفائها الروس والإيرانيين، أو بألا تنكث تركيا وعودها مستغلةً ضعف دمشق من دون الحلفاء. علاوة على ذلك، تُفضل أنقرة التركيز على التهدئة بين الحكومة السورية والمعارضة واستمرار الهدوء في شمال غربي سورية، بينما تتحسن علاقتها بواشنطن التي بدأت التفكير في سحب قواتها من شرق سورية.
السيناريو الثاني، لجوء سورية، بمساندة حلفائها الروس والإيرانيين، إلى مراوغة الأتراك من أجل استدراج تنازلات من أنقرة والقوى الإقليمية الأخرى التي انفتحت على دمشق. خلال الحرب السورية استغلت الحكومة في دمشق بنجاح التنافس بين المحاور الإقليمية من أجل البقاء، وتوسيع هامش مناورتها العسكرية والإقليمية. كما استفادت مما بدا أنه تنافس بين المسار التركي-السوري والمسار السوري-السعودي، لاستدراج تنازلات من الرياض وأنقرة، وبالتحديد تحريك المسار العربي وصولاً إلى إرسال الرياض قائماً بالأعمال إلى دمشق.
لذلك، تحتاج دمشق إلى حركة على المسار التركي تمكّنها من الحصول على تنازلات عربية وإيرانية لصالحها، وإلا أُحبطت استراتيجيتها التي تعمل وفقاً لها منذ أواخر العام 2022. وللتعامل مع تحديات حرب غزة وما بعدها، أحكمت سورية قبضتها العسكرية على الجولان وأقسام من دير الزور، وأبعدت الإيرانيين عن مطار دمشق. كما أطلقت عدة إصلاحات أمنية وعسكرية لإرضاء الدول العربية، التي تشكل النافذة المفتوحة أمام دمشق للخروج من عزلتها الخانقة. وتبادل الإشارات بين سورية وتركيا يسمح للأولى بتمرير تلك الخطوات “الإصلاحية” بسهولة أكبر. ومن جهة أخرى، فإن مواصلة الحكومة إصلاحاتها تطلبت توفير الحد الأدنى من الاستقرار. لذلك، كان لابد من طرق أبواب ثلاثي أستانا، بما فيه تركيا، بهدف تحييد الأراضي السورية عن حرب غزة، وضمان استمرار الهدنة في إدلب.
تتحسب دمشق أيضاً من التحسن المطرد في علاقات تركيا مع دول المنطقة، وبالأخص مصر واليونان. كما تخشى من فوز مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، واحتمال عودة العلاقات الأمريكية-التركية إلى ما كانت عليه إبان عهده (2017 – 2020). فقد غضت إدارة ترمب الطرف عن توسع تركيا في عفرين (مارس 2018)، وتل أبيض ورأس العين (أكتوبر 2019) في شمال سورية، قبل أن توقع معها اتفاق أردوغان-بنس (نائب الرئيس الأمريكي حينها) في أكتوبر من العام 2019. قدّم ترمب لأردوغان الدعم الدبلوماسي الذي مكّنه من عقد اتفاقي سوتشي مع نظيره الروسي، في سبتمبر عام 2018، وأكتوبر 2019، واتفاق موسكو في مارس 2020. وبذلك، ضمنت تركيا حصةً وازنة من الشمال السوري في انتظار التسوية الإقليمية للأزمة السورية. يتركز اهتمام سورية وشركائها في إنعاش الحركة الدبلوماسية مع أنقرة للتأثير في احتمالات التقارب الأمريكي-التركي، سواء الحالي في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، أو المتوقع بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية بغض النظر عن الفائز.
من الصعب أن يتحقق هذا السيناريو، فالأتراك غير متحمسين لإنعاش المسار الرباعي. ومهما قدمت دمشق وحلفاؤها من مغريات للأتراك فعلى الأرجح أنها لن تتمكن من توجيه ضربة للتقارب التركي-الأمريكي، نظراً لأن التقارب مدفوع بعوامل إقليمية ودولية تتعلق بمصالح الطرفين المشتركة في حلف شمال الأطلسي ومصير أوكرانيا.
السيناريو الثالث، بقاء المسار السوري-التركي معطلاً من دون أن يلجأ الجانبان إلى تحريكه، على الرغم من الإشارات التي تقدمها دمشق. يأتي ذلك نظراً للشكوك العميقة المتبادلة أو لانشغالهما باختبار فرص ومسارات أخرى، مثل التطبيع مع السعودية بالنسبة للجانب السوري، وتحسين العلاقات مع مصر والولايات المتحدة بالنسبة لأنقرة.
وفي ظل الصراع الإقليمي قد يكون من الأنسب لسورية وتركيا التركيز على التفاعلات الكبرى في المنطقة، بدلاً من الانخراط في مسار دبلوماسي قد يؤثر على فرصهما. يأتي على رأس هذه التفاعلات، احتمالات الانسحاب الأمريكي من سورية والعراق، والتنافس لملء الفراغ الذي سيولده هذا الانسحاب. وبالنسبة للأتراك، فإن الوضع المحلي لم يعد ضاغطاً عليهم للتعامل مع ملف اللاجئين السوريين كما كان الحال خلال حملات الانتخابات الرئاسية لعام 2023، إذ لم تشهد حملات الأحزاب المشاركة في الانتخابات البلدية المقررة يوم 31 مارس، تصاعداً في الخطاب المناهض للاجئين والأجانب كما جرى سابقاً. ومن جهة أخرى، أدى تثبيت الهدنة في إدلب إلى إعادة تركيز أنقرة نحو إصلاح الشؤون السياسية والعسكرية في مناطق نفوذها داخل سورية.
من جهة أخرى، تحسَّنت العلاقات بين تركيا وكل من الولايات المتحدة ومصر، ما ساهم في تقوية الموقف التركي وتقليص الضغوط الإقليمية والدولية عن كاهل الحكومة التركية. أما بالنسبة لمشروع الأكراد في شرق سورية، فقد بات أقل خطراً لسببين: استهداف تركيا للبنى التحتية التابعة للإدارة الذاتية، وانشغال واشنطن في التعامل مع هجمات المليشيات الإيرانية على قواعدها في سورية والعراق وسط تصاعد مستمر في هجمات العشائر العربية على مواقع “قسد”. وأخيراً، لا يُغري ضعف دمشق الأتراك لعقد اتفاقات سياسية معها، ولا يسع دمشق أن تقدم للأتراك في أي مفاوضات حقيقية سوى انسحاب الإيرانيين من سورية، وهو أمر بات من المشكوك أن يكون لدى الحكومة السورية قدرة عل تنفيذه في المدى القريب، بعد تأكيد مسؤولين إيرانيين أن بلادهم لن تنسحب “أبداً” من سورية. وعلى رغم رجحان كفة هذا السيناريو، فإن تراجع قوة الحكومة السورية وموقفها الإقليمي يفرضان عليها اجتراح خطوات نحو أنقرة.
استنتاجات
لن يكون سهلاً أن تنجح الحكومة السورية في دفع الأتراك إلى إحياء مفاوضاتهم معها، سواء تحت رعاية الرباعية أو مباشرة من غير وسطاء، وبخاصة أن الأتراك يركزون في المرحلة الحالية على التهدئة بين دمشق والمعارضة، وتراجَعت بالنسبة لهم أولوية التطبيع مع الجانب الحكومي السوري، وهو ما يؤكده تصريح وزير الخارجية التركي في 2 مارس، الذي قال فيه إن “الظروف [الإقليمية] غير مناسبة للتطبيع مع دمشق”. ومع ذلك، يمكن لدمشق إقناع الأتراك بفوائد الحوار معها إذا قدّمت عرضاً جدياً بمسار ثنائي سياسي عسكري، شبيه بالتعاون الأمني الذي نسجه الجانبان أواخر العام 2022.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/altatbie-alsuwri-alturki-hal-yatalaqa-altarafan-fi-muntasaf-altariq