د. لميس العربي
ساهمت الثورة الصناعية المندلعة منذ أكثر منذ 150 عامًا في استهلاك مليارات الأطنان من الوقود لتوليد الطاقة من خلال حرقها، والتي ساهمت بدورها في حبس الغازات الدفيئة، وبالتالي تغير المناخ في الكرة الأرضية. وعلى الرغم من أهميه هذه القضية وجهود العالم المتفاوتة في مواجهة ظاهرة التغيرات المناخية خلال العقود الماضية، إلا أنه من المتوقع أن تزداد الأمور سوءًا، فتداعيات وانعكاسات تلك الأزمة في تزايد مستمر، الأمر الذي يُهدد استدامة الثروات الطبيعية، لا سيما غير المُتجدد منها، فقد أطلقت اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والتابعة للأمم المتحدة The Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC) في أغسطس 2021 تقريرًا تاريخيًا، وهو يعد التقرير الأكثر شمولًا منذ عام 2013، وقد أشار التقرير إلى أن نطاق التغيرات المناخية الأخيرة غير مسبوقة منذ قرون، وأن أعلى معدلات انبعاثات غازات ثاني أوكسيد الكربون وتركيزاتها كانت الأعلى في عام 2019 مما كانت عليه من مليوني عام على الأقل، الأمر الذي جعل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يدلي بعباره: “أجراس الإنذار تصم الآذان، والأدلة قاطعة”.
وجاء الإعلان لهذا التقرير قبيل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في مدينة جلاكسو بأسكتلندا (كوب 26) نوفمبر الماضي، والذي تبنى “ميثاق جلاكسو” الهادف إلى حتمية تسريع وتيرة مكافحة الاحتباس الحراري، ولكن من دون إبقائه ضمن سقف 1,5 درجة مئوية، ولم يتوصل الميثاق أيضًا إلى اتفاق واضح بشأن تلبية طلبات المساعدة والدعم المالي للدول الفقيرة، وإن كانت هذه الاتفاقية هي الأولى من نوعها التي تنص صراحة على تقليل استخدام الفحم الذي يتسبب في زيادة الانبعاثات الغازية في الغلاف الجوي، ومصر ليست بمنأى عن هذه التداعيات، فهي تعد من أكثر الدول عرضةً لانبعاثات التغير المناخي ولتداعياته السلبية.
ويستعرض هذا التحليل حال مستقبل الدلتا، وأهم السيناريوهات المتوقعة، وكذلك جهود الدولة خلال السنوات الماضية لمواجهة التغيرات المناخية وانعكاساتها السلبية على القطاعات المختلفة.
التغيرات المناخية.. أزمة تسببت فيها القوى الصناعية الكُبرى ويدفع ثمنها الدول النامية
تعد الدول الصناعية والدول المتقدمة هي المسئولة تاريخيًا عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المسبب الرئيسي لظاهرة التغيرات المناخية، وبالرغم من أن الدول النامية لا تساهم بنسبة كبيرة من إجمالي الانبعاثات إلا أنها الأكثر تضررًا من الظاهرة التي تعتبر بالنسبة لها من أهم تحديات التنمية المستدامة، ولعل ذلك يعود إلى هشاشة اقتصاديات هذه الدول، وللضغوط الإضافية التي تقع على عاتقها من سبل وإجراءات لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية، فضلًا عن أن بعض اقتصاديات هذه الدول لا تزال تعتمد بصفة رئيسية على قطاعات رهينة بالظروف المناخية، كالزارعة والصيد البحري واستغلال الموارد الطبيعية والسياحة، ومن المتوقع أيضًا أن يزيد تغير المناخ من حدّة تقلبات الإنتاج الزارعي على امتداد جميع المناطق، في حين سوف تتعرض أفقر المناطق لأعلى درجات عدم الاستقرار في الإنتاج الغذائي، ومن المقدَّر أن تواكِب أسعار المواد الغذائية الارتفاع مع درجات الحرارة حتى عام .2050
آثار التغيرات المناخية على مصر: سيناريوهات بديلة
على الرغم من أن ظاهرة تغير المناخ ظاهرة عالمية، إلا أنه من المتوقع أن تكون مصر إحدى الدول الأكثر تأثرًا وتضررًا بهذه الظاهرة، حيث زادت حدة التحذيرات من إمكانية أن تقود التغييرات المناخية التي بدأت بوادرها في الظهور إلى كوارث بيئية خطيرة، فقد أكد التقرير التجميعي الرابع للهيئة الحكومية الدولية التابعة لتغير المناخ عام 2007، أن مصر تعد من أكثر دول العالم تضررًا، ففضلًا عن تأثيرات هذه الظاهرة المباشرة مثل: زيادة معدلات درجات الحرارة، وتغير أنماط سقوط الأمطار، وارتفاع مستويات مياه البحر والأحداث المناخية المتطرفة؛ إلا أن ارتفاع مستوى سطح البحر المتوسط بمقدار ما بين 20 إلى 80 سم من المتوقع أن يؤدي إلى غمر واختفاء المناطق الساحلية بدلتا نهر النيل بمياه البحر الناتج عن تذويب الجليد بين القطبين.
حيث من المتوقع أن تختفي حوالي 15% من مساحة الدلتا التي تضم نحو 40% من الإنتاج الزراعي، و50% من الإنتاج الصناعي، ومن المتوقع أن يحدث الغرق في خمس مناطق هي: سواحل الدلتا، والساحل الشمالي، وسواحل شبه جزيرة سيناء، والساحل الغربي لخليج السويس والبحر الأحمر، وسواحل البحيرات المرة وبحيرة التمساح. وهو التهديد الذي يحمل بين طياته خطر تهجير نحو 10 ملايين نسمة إلى مناطق جديدة. ولعل أكثر المناطق تأثرًا هي مناطق محافظتي الإسكندرية والبحيرة، وجنوب البرلس وجنوب المنزلة على البحر المتوسط.
ووفقًا لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عام 2002-2017 تم التنبؤ بثلاثة سيناريوهات بديلة لغرق الدلتا:
- السيناريو المتفائل: في حال ارتفاع منسوب البحر 1 متر حتى سنة 2100.
- السيناريو الأوسط: في حال ارتفاع منسوب البحر 2 متر حتى سنة 2100.
- السيناريو المتشائم: في حال ارتفاع منسوب البحر 3 أمتار حتى سنة 2100.
وفي حال ارتفاع منسوب البحر إلى 1 متر وفقًا للسيناريو المتفائل، فمن المتوقع أن يصل إجمالي عدد المحافظات المتضررة إلى 9 محافظات في شمال دلتا مصر هي: (الإسكندرية – الإسماعيلية – البحيرة – الدقهلية – الشرقية – بورسعيد – دمياط – شمال سيناء – كفر الشيخ) بإجمالي عدد 37 مدينة وقرية وعزبة وتجمع عمراني بمساحة تبلغ 35505 فدان تقريبًا، بينما من المتوقع أن تبلغ إجمالى مساحة الأراضي الزراعية المغمورة بالمياه المالحة إلى ما يقرب من 9 ملايين فدان تقريبًا بنسبة إجمالية حوالي 40% من إجمالي مساحة الدلتا.
أما في حالة ارتقاع منسوب البحر إلى 2 متر وفقًا للسيناريو المتوسط، فمن المتوقع أن يصل إجمالي عدد المحافظات المتضررة إلى 9 أيضًا، وهي نفس المحافظات السابق ذكرها في السيناريو الأول، ولكن بإجمالي عدد 44 مدينة وقرية وعزبة وتجمع عمراني بمساحة تبلغ 46453.57 فدان تقريبًا، بينما من المتوقع أن يبلغ إجمالي مساحة الأراضي الزراعية المغمورة بالمياه المالحة إلى ما يقرب من 14 مليون فدان.
وأخيرًا في حال افتراض حدوث السيناريو المتشائم، بارتفاع منسوب البحر إلى 3 أمتار، فمن المتوقع أن يصل إجمالى عدد المحافظات المتضررة إلى 10 محافظات، وهي نفس المحافظات السابق ذكرها في السيناريوهين السابقين، زيادة عليها محافظة الغربية، مع غرق حوالي 108 مدينة وقرية وعزبة بتجمع عمراني تقدر مساحته بحوالي 81148.13 فدان تقريبًا، بينما من المتوقع أن يبلغ إجمالي مساحة الأراضي الزراعية المغمورة بالمياه المالحة ما يقرب من 22 مليون فدان.
وفي يناير 2021، تم نشر دراسة لاستشراف كوارث الضعف الساحلي لشواطئ الدلتا والمناطق الرملية في شمال إفريقيا، وتضمن البحث دلتا نهر النيل بمصر، وقد جاءت المؤشرات الأولية لهذه الدراسة لتجزم بغرق مدينة دمياط ورأس البر وجمصة وما حول بحيرة البرلس وبحيرة المنزلة وبحيرة البردويل خلال الفترة من عام 2040 إلى 2050. وسوف تتحول هذه المناطق إلى مناطق أشبه بالجزر المنفصلة تحيط بها المياه من كل مكان، ومن المتوقع أن يصل إجمالي عدد المهجرين المحتملين في حالة زيادة منسوب سطح البحر 50 سم إلى حوالي 8,3 ملايين نسمة من منطقة شمال الدلتا، بما في ذلك الصيادون في البحيرات الشمالية، إضافة إلى المهجرين من المناطق السياحية وخاصة على البحر الأحمر نتيجة تقلص السياحة بسبب زيادة درجة الحرارة والعواصف الترابية وتلوث الهواء.
وجدير بالذكر أن بعض الدراسات تؤكد أن أجزاء من أراضي الدلتا الواقعة حول البحيرات قد تملحت بالفعل، وأن مياه البحر قد تخللت التربة في الأجزاء الشمالية من الدلتا، مما قلل من كفاءة ونوعية المياه الجوفية.
ومما سبق يتضح أن مصر على مشارف كارثة بيئية مستقبلية حقيقية، لضخامة حجم الخسائر المتوقعة لمنطقة الدلتا بأكملها، ولهذه الكارثة تأثير على كافة قطاعات التنمية التخطيطية على مستوى الدلتا، وعلى شتى المناحي الإنسانية، والاقتصادية، والبيئية، علمًا بأن إزالة المدن الموجودة على السواحل وتغيير مواقعها يُعتبر أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا.
جهود حثيثة للمواجهة
بذلت مصر جهودًا حثيثة على مدار السنوات الماضية لمواجهة آثار التغيرات المناخية، فقد كانت مصر من أوائل الدول التي وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ عام 1994، وكذلك بروتوكول كيوتو الذي صدقت مصر عليه في عام 2005، ومن المزمع أن تنعقد قمة المناخ “COP-27” في مصر خلال العام الحالي، حيث سيكون أول مؤتمر للمناخ ينظم في إفريقيا بعد اتفاق باريس، حيث تعد قارة إفريقيا أكثر القارات تأثرًا بالتغيرات المناخية، على الرغم من أن انبعاثات القارة لا تتجاوز 4% من إجمالي الانبعاثات العالمية. ومن المستهدف أن تناقش هذه القمة قضايا المناخ للدول النامية ومتوسطة الدخل التي لم تحصل على دعم مالي واقتراض كافٍ من مؤسسات التمويل الدولية لدعمها في إجراءات التكيف والتخفيف من حدة التغيرات المناخية، والتحول للأخضر.
وبالإضافة إلى ما سبق، هناك العديد من الجهود التي قامت وتقوم بها مصر في مواجهة آثار التغيرات المناخية والتكيف معها وهي:
- تعظيم استفادة مصر من آليات بروتوكول كيوتو من خلال تنفيذ مشروعات آلية التنمية النظيفة، حيث قامت بإنشاء اللجنة الوطنية لآلية التنمية النظيفة، التي حققت نجاحات ملموسة في عدد من القطاعات.
- الاهتمام بمشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة، فضلاً عن مشروعات تحسين كفاءة الطاقة من خلال وزارة الكهرباء والطاقة لخفض انبعاثات غازات ثاني أكسيد الكربون.
- جهود مركز البحوث الزراعية لاستنباط أنواع جديدة من الإنتاج المحصولي لها القدرة على تحمل الحرارة الناتجة عن الظاهرة.
- عمل مشروعات استرشادية لتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في مشروعات الطاقة النظيفة ومعالجة المخلفات وإنشاء الغابات الشجرية.
- وضع رؤية للتحول للأخضر تستهدف الوصول بنسبة المشروعات الخضراء الممولة حكوميًا إلى نسبة 50% بحلول عام 2025، وإلى 100% بحلول عام 2050.
أما فيما يتعلق بغرق الدلتا بالتحديد فقد قامت الدولة بإعداد إطار عمل يشمل خطة وطنية للتعامل مع تآكل الشواطئ واحتمالات ارتفاع مستوى سطح البحر، وذلك من خلال مبدأ التعايش مع البحر كتقنية جديدة وباستخدام وسائل حماية غير تقليدية وصديقة للبيئة، مثل استخدام ناتج تكريك البواغيز، وقنوات الاقتراب للموانئ البحرية في تغذية الشواطئ التي تتعرض للنحر، مع عمل مشروعات تجريبية مثل الجسور الرملية لحماية الدلتا من النحر، وقد نفذت الدولة أعمال الحماية لنحو 25% من سواحل الدلتا البالغ طولها 220 كم بوسائل متعددة من مصدات الأمواج. هذا بالإضافة إلى استحداث نظم الإنذار المبكر التي تعمل على الحد من تأثير الفيضانات على المناطق الساحلية الشمالية في مصر.
ومما سبق يتضح أن الآثار الناجمة عن التغيرات المناخية على مصر وسيناريوهات غرق الدلتا هو كابوس يهدد مصر، ويمثل خطرًا داهمًا على المدى الطويل، ومن هنا يأتي ضرورة إيقاف النمو العمراني والتنمية العمرانية على مدن السواحل المتضررة في شمال الدلتا، والتوجه نحو تنمية الجنوب، وخلق توعية مجتمعية بمفهوم التغيرات المناخية وإجراءات المواجهة والتكيف، واستمرار التوجه نحو مشروعات آليات التنمية النظيفة والتحول نحو الاقتصاد الأخضر. وأخيرًا زيادة القدرة الوطنية على جذب الدعم والتمويل الدولي في مساندة الدولة في مكافحة التغيرات المناخية، مع التنسيق مع الجهات الدولية لتجنب فرض أي التزامات للدول الإفريقية ومصر لخفض الانبعاثات.
المصادر
- سرحان سليمان، محمد فواز، “دراسة اقتصادية للتغيرات المناخية وآثارها على التنمية المستدامة في مصر”، المجلة المصرية للاقتصاد الزراعي، يونيو 2015.
- محمد عبد الرحمن أبو كحلة وآخرون، “دور التخطيط العمراني في مجابهة مخاطر غرق الدلتا جراء ظاهرة الاحتباس الحراري”، مجلة جامعة الأزهر قسم الهندسة، أكتوبر 2021.
· Joel B Smith, and others, “Egypt’s economic vulnerability to climate change”, journal of Climate Research, 2014.
.
رابط المصدر: