بقلم: ديدي كو (DIDI KUO)
ترجمة: ا. م. د. حسين أحمد السرحان
حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، كان هناك توازن نسبي بين الديمقراطية والرأسمالية. فهل يمكن أن يكون رأسماليو اليوم اكثر شبها برأسمالي الأمس؟
هل الديمقراطية والرأسمالية متناغمتان؟ أو لنقل بشكل مختلف، ما الذي جعل الديمقراطية والرأسمالية متناغمتان لعقود، بل وحتى لقرون، وماهي جذور هذه العلاقة اليوم؟
يبدو ان نهاية الحرب العالمية حسمت المناقشات طويلة الامد حول أفضل المؤسسات السياسية والاقتصادية القادرة على تحقيق الحرية والامن. ولكن ومنذ عقود مضت، وإلى الان، ماتزال هذه المؤسسات هشة، كما يجري نفض الغبار عن الانتقادات طويلة الامد للرأسمالية ويعاد تجميعها.
مشاكل الديمقراطية والرأسمالية منتشرة ومعقدة. ونحن نواجه الآن (على الأقل) ثلاث مشاكل واضحة تماما: الرئيس ينتهك المعايير الديمقراطية، المواطنون الذين يشعرون ان المؤسسات التمثيلية معطلة، وموقف الأطراف المعادية والاستقطابية. هناك ايضا سؤال اعمق فيما اذا كان بإمكاننا اصلاح وترسيخ مؤسساتنا الديمقراطية، والتي تبدو غير قادرة لتحكم في عصرنا “رأسمالية القرن الحادي والعشرين”؟.
شهد نصف القرن الماضي انقلابا هادئا لتوازن القوى بين القطاعين الخاص والعام. عقود من رفع القيود، جنبا الى جنب مع المشروع الايديولوجي لليمين السياسي لنزع الشرعية عن نشاط الدولة واحتضان السوق، تركت فراغا يمارس فيه الحكم. ومع انخفاض الثقة بالمؤسسات التمثيلية، تعزز الشركات من ارتباطها السياسي. اذ اعلن ليفي مؤخرا انضمامه الى مبادرة مايكل بلومبرغ للسيطرة على السلاح (Michael Bloomberg’s gun control initiative). واطلقت شركات الأمازون (Amazon)، بيركشاير هاثاواي (Berkshire Hathaway)، وبنك الجي بي مورجن (JP Morgan) مشروعًا لتعزيز نظام الرعاية الصحية الضعيف في الولايات المتحدة. في حين كان للأعمال نشاط طويل الامد في السياسة من خلال الضغط والتأثير وكسب التأييد، وهدف هذه المبادرات الجديدة هو حل مشاكل السياسات العامة التي لم ولن يتمكن المسؤولين المنتخبين من حلها.
لكن في الديمقراطية، ينبغي ان يكون العقد الاجتماعي الاساس بين الافراد ومسؤوليهم المنتخبين، وليس بين المستهلكين والشركات. ونميل الى التفكير في العلاقة بين الاعمال التجارية والحكومة كخصوم، والنظر الى تاريخ التقدم الاجتماعي كسلسلة من الانتصارات الديمقراطية على جشع الرأسمالية. ومع ذلك، هناك ادراك ناشئ بين العلماء بأن قراءة التاريخ “متخلفة” –اي انها تبرز العلاقات التجارية للدولة في الماضي- وتحجب طرق الانتاج التي تملكها الرأسمالية والديمقراطية حتى عصرنا الحالي.
في القرن التاسع عشر، ظهرت الشراكة بين الرأسمالية والديمقراطية لتأخذ مكانتها المتميزة في الحياة الاميركية. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك ثلاث مراحل متميزة في العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية. بدأ العصر الرأسمالي الاداري في أواخر القرن التاسع عشر، اذ دفعت الافكار الجديدة حول ادارة وتنظيم الشركات العائلية لتتطور الى شركات كبيرة. بيد أن المؤسسات الديمقراطية كانت لا تزال خاضعة لنظام الغنائم الذي طبقه أندرو جاكسون بعد انتصاره عام 1828. واعتمدت الأحزاب السياسية على المحسوبية، وليس السياسة، لتحشيد الناخبين وموظفي البيروقراطية الفيدرالية. والطبقة المنبثقة من التجار والصناعيين نَمتْ مهتمة بمشاكل الحكم غير الفعال. هم احتضنوا السياسات الدافعة للأحزاب لخلق هياكل عملية نظامية قابلة للتطبيق وتفكيك المحسوبية.
بعد عقود صاخبة من الكساد العظيم، والصفقة الجديدة، والحربين العالميتين، عندما كانت الاعمال خصم للديمقراطية في بعض الاحيان، وحلفاء في احيان اخرى، ظهر عهد جديد من رأسمالية اصحاب المصالح في عقد الخمسينيات من القرن الماضي. وتكلم المدراء التنفيذيون للشركات الاميركية الكبيرة حول المصالح الذاتية، وتعزيز النمو من خلال سياسات وسعت البنى التحتية، والضرائب، والاسكان، والتعليم. بعد كل ذلك، تتطلب الرأسمالية من الحكومة نتائج تتضمن استقرار الحكم، البيروقراطية الفعالة، حكم القانون، والمساءلة العامة. وخلال عهود رأسمالية اصحاب المصالح والبيروقراطيين، عملت الشركات مع الحكومة لحفظ المتطلبات الاجتماعية وحاجات الرأسمالية.
مع ذلك، دخلت الديمقراطية والرأسمالية مرحلة جديدة بعد الازمات الاقتصادية والسياسية في عقد السبعينيات من القرن الماضي- مرحلة “رأسمالية المساهمين” هي مرحلة تتميز بإلغاء القيود التنظيمية، العولمة، والتمويل. واستلزم هذا العصر الجديد مفهوم جديد للشراكة، ليس لديه إلتزام اخلاقي سوى زيادة ارباح المساهمين، وفقا لما اوضحه ميلتون فريدمان. وفقا لهذا المنطق، فان المخرجات التي تكون جيدة للرأسماليين لا تحتاج ان تكون جيدة للجمهور (العامة). ومشاكل ركود الاجور والانتاجية، وعدم المساواة الاقتصادية، ومخاطر العمل الجودة لاتكون مقلقة للرأسماليين.
الرئيس دونالد ترامب يجسد العديد من المشاكل في هذا العصر الجديد. فهو المدير التنفيذي لمصالح تجارية عالمية والمستفيد من مصبه السياسي. وتتكون كابينته من الرأسماليين الاثرياء مع تاريخ قليل في الخدمات العامة، ويمررون السياسات التي يستفيدون منها ماديا. ولكن ادعاءاته وانقضاضه على المعايير قاد ايضا الى غضب عام من رجال الاعمال، ادى في نهاية المطاف الى حل منتدى ترامب للسياسات والاستراتيجية (Trump’s Strategy & Policy Forum) ومجلس التصنيع التابع له. والشركات التي تتخذ مواقف سياسية مثيرة للجدل تعرف انها تدخل في حقول ألغام محتملة، ولكنها تعكس ادراك بان الشركات لا يمكنها تجاهل القضايا المهمة للجمهور.
هناك طريقان محتملان للخروج من ازمة الرأسمالية والديمقراطية. الاول، هو العلاقة التي تبدو وكأنها “بلوتوقراطية”، (وهي نظام سياسي يدمج بين مصالح الرأسماليين والديمقراطيين ويترك للمواطنين والعمال والمستهلكين سلطة سياسية ضئيلة). الثاني والبديل، هو إعادة الارتباط الرأسمالي مع الحكومة، والاعتراف بأن العملية الديمقراطية يجب أن تقود الى نتائج اجتماعية واقتصادية. والدولة الديمقراطية القوية تحل مشاكل متنوعة لا يستطيع الرأسماليون -الذين يحكمون انفسهم حلها– مثل مشكلات الرقابة والنظيم، فضلا عن انها تخلق أساسًا للنمو المستدام طويل الأجل.
الرأسماليون بحاجة الى اعتناق السياسة، ليس لأنها سهلة او خدمة ذاتية، بل لأن كفاح شومبيتران التنافسي (Schumpeterian competitive struggle) في قلب الديمقراطية يعالج المشاكل بطرق شفافة وشرعية وخاضعة للمساءلة. وفي الساحة السياسية، وليس في القطاع الخاص، يتم الخوض في المناقشات الأساسية حول الدول والأسواق، اذ تتواجه مجموعات الافراد والشركات على حد سواء حول الأجور والفوائد وإعادة التوزيع ورفاهية المستهلك وسلامة مكان العمل وسلطة الشركات. التاريخ القصير نسبيا للرأسمالية والديمقراطية يوضح لنا بأن الشركات يمكن ان تلعب دور في تحسين الديمقراطية والحكم، وربما يكون هو هذا السبيل الوحيد للخروج من ازمة اليوم.
الطور الأول، الرأسمالية الإدارية: الاحتراف ونهاية المحسوبية
في خطاب تنصيبه في عام 1888، حذر الرئيس الاميركي جروفر كليفلاند من أن “الشركات، التي ينبغي أن تكون كيانات مقيدة بموجب القانون راعية وخادمة للناس، سرعان ما أصبحت أسياد الشعب. وفي حين شكلت الصناعة جزءًا صغيرًا من الاقتصاد الأمريكي في عام 1870، الا انه خلال جيل واحد، كانت “الأعمال التجارية الكبرى” تظهر في الحياة اليومية لمعظم الأميركيين.
كانت الثورة التكنولوجية تغذي الابتكارات في مجال التصنيع. وسرعان ما اصبحت السكك الحديدية متصلة بالمناطق البعيدة، وجذبت المصانع العمال الى المدن. ونمت الاعمال العائلية لتصبح شركات حديثة، وتوسعت من خلال موجة من الاندماجات والاستحواذات، ومن خلال عمليات التكامل الرأسي والأفقي التي قلبت الانتاج الصناعي. وتم قيادة التكتلات ومؤسسات الائتمان، مثل شركة كارنيجي ستيل وستاندرد أويل، من قبل الصناعيين ذوي الشهرة الواسعة في الممارسات التجارية البغيضة.
تطورت الشركات مع مرور الوقت، كما هو موثق في كتاب ألفريد تشاندلر الحائز على جائزة بوليتزر، وتحفز ذلك التطور عبر ابتكارات الرأسمالية الادارية. ونمت الشركات على مستوى النطاق والامكانية. وقد فصلوا الملكية عن الإدارة، وطبقوا التسلسل الهرمي الإداري ومعايير الترقية، وشكلوا روابط تجارية لتشارك الممارسات التجارية في اطار ما كان ينمو سريعا وهو الاقتصاد الوطني.
تشكل المجلس الوطني للتجارة في عام 1868، والذي جمع قادة الصناعات، مع المحامين والسياسيين، لمناقشة الدور المناسب للحكومة، بالنظر إلى مقتضيات الاقتصاد الصناعي الجديد. وكانت إحدى المشاكل الاساسية التي واجهتها الشركات هي البيروقراطية الفيدرالية غير المجهزة كليا لتنظيم المسائل التجارية أو حتى لتشريع القوانين لها، والتي تتألف في المقام الاول من الخدمات البريدية والجمارك. واعتمدت الاحزاب على المحسوبية للفوز بأصوات موظفي الخدمة المدنية، ولم يكن لدى الحكومة الفيدرالية سوى القليل من الأجهزة التنظيمية الرسمية.
وكشفت تحقيقات الكونغرس في الفساد المرتبط بالبيروقراطية، على سبيل المثال، أن موظفي الجمارك في مدينة نيويورك كانوا في كثير من الأحيان غير مؤهلين، أو في حالة سكر، أو غائبين، بحيث كان هناك حوالي 36000000 مليون دولار من العائدات المفقودة كل عام. وهذه الطبقة الجديدة من الرأسماليين كانت معادية للمحسوبية ولعدم فعالية الحكومة الفيدرالية. ولاحظوا أن المحسوبية تتعارض مع مبادئ الاعمال نفسها، وهي الشفافية والكفاءة.
واكد هاملتون هيل، وهو تاجر في بوسطن وأمين المجلس الوطني للتجارة، في عام 1885 أن الإدارة الحكومية تحتاج الى “الفصل التام عن السياسة الحزبية”. كذلك دعا قادة الصناعات، التي تتدرج من بناء السفن الى استخراج الفحم، الى وضع لوائح وطنية للحماية من التمييز في الأسعار من قبل السكك الحديدية؛ وأكدوا على تلك اللوائح للوصول الى التنظيم كوسيلة لإقامة مجال عمل متكافئ للشركات. وشهد التجار والمزارعون وأصحاب السكك الحديدية لصالح قانون التجارة بين الولايات لعام 1887، وتشكلت بموجبه هيئة التجارة بين الولايات (Interstate Commerce Commission (ICC))، وهي اول وكالة حكومية فيدرالية تنظيمية مستقلة. ومُنحت الهيئة سلطة مراجعة الاسعار التمييزية لسكك الحديد والممارسات المضادة للمنافسة، وتم تقويتها عبر التشريعات اللاحقة خلال العصر التقدمي[1]. وانشأ قانون التجارة بين الولايات اطارا للتنظيم من خلال الوكالات، وقدم فيما بعد نموذج لهيئة التجارة الفيدرالية وهيئة الاتصالات الفيدرالية.
حتى اليوم، بدأ رجال الاعمال يسعون لعلاقات طويلة الامد مع الاحزاب، وتقديم التبرعات للحملات الانتخابية، والمقترحات التشريعية، وشهادات الخبراء أمام لجان الكونغرس. وقام الناشط الجمهوري مارك هانا (Mark Hanna)، وهو رجل اعمال من ولاية اوهايو، بأنشاء اتحادات لرجال الاعمال لتحشيد قادة الاعمال في الحملات الرئاسية. وضمنت قدرة مارك هانا على جمع التبرعات من الشركات، فوز ويليام ماكينلي (William McKinley) في عام 1896 ضد المرشح الديمقراطي الشعبوي ويليام جينينغز برايان (William Jennings Bryan).
أنتجت التعبئة السياسية للأعمال تغييراً في السياسة الديمقراطية. وقد أدرك الرأسماليون أن المؤسسات الديمقراطية وفرت بنية أساسية لأسواق فعالة لم يستطع الرأسماليون الذين يعملون بمفردهم من توفيرها. وبدلا من العمل ضد الدولة، رأت طبقة ناشئة من التجار والصناعيين في اواخر القرن التاسع عشر، ان الحكومة ضامن للاستقرار والنمو الاقتصاديين. ومن خلال العلاقات المتطورة مع الاحزاب والسياسيين، انشأ مجتمع الاعمال اطارا للسياسات الحزبية التعددية التي كانت تهتم بالوساطة بين المصالح المتنافسة والسياسات المتطورة، بدلا من الاعتماد على المحسوبية فقط.
واستمرت هذه العلاقة بين الرأسماليين الإداريين والمؤسسات الديمقراطية بشكل جيد في القرن العشرين، مما وضع الأساس للقرن الأمريكي. وبينما اعترض بعض قادة الشركات على مبادئ الصفقة الجديدة بقوة، انتظم آخرون في مؤسسات مثل الاتحاد المدني الوطني ونشاطاته في ذلك الوقت لتعزيز السياسات المفيدة للنمو (مثل البنية التحتية والسلع العامة) والتأكيد على التعاون مع العمل.
كانت التعبئة الحربية هدية للأعمال، اذ خلقت ملايين من فرص العمل المدنية، وارتفعت الإنتاجية، وربحت الشركات. وعمل الرئيس روزفلت عن كثب مع قادة الأعمال لدفع المجهود الحربي. وبنهاية الحرب العالمية الثانية، تبنى مديرو الشركات سياسة براغماتية وموجهة اجتماعيا. وكما اشار المؤرخ الشهير جنيفر دلتون (Jennifer Delton)، ان راسل دافنبورت محرر مجلة فورجن التجارية (Fortune)، كتب عام 1951 ما نصه “أن المدراء يتحملون مسؤولية تجاه المجتمع ككل”، ينما اكد فرانك ابرامز (Frank Abrams)، رئيس ستاندرد اويل ” ان المدراء بحاجة الى المحافظة على توازن منصف وعملي بين ادعاءات جماعات المصالح المختلفة (اصحاب الاسهم، الموظفين والعاملين، والعملاء والجماهير بشكل عام).
الطور الثاني: رأسمالية اصحاب المصالح: رأسماليون من اجل الصالح العام
كانت فكرة استجابة المديرين لأصحاب المصلحة مؤثرة للغاية، وارتبط عهد اصحاب المصالح بنخبة من رجال الاعمال رفيعي المستوى يدافعون عن حكومة قوية وسياسات يستفيد منها العاملين الأمريكان. وادت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية الى نمو اقتصادي غير مسبوق، وشركات أمريكية كبيرة موجهة نحو التصدير، ومستويات منخفضة من عدم المساواة الاقتصادية، وازدهار في التعليم العالي، وسياسة يحكمها حزبان نظرا الى أن التسوية بين الحزبين هي هدف، بدلا من ان تكون عدوا للديمقراطية. وعندما عُين الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز تشارلز ويلسون Charles Wilson وزيرا للدفاع في ادارة دوايت أيزنهاور، قال عبارته الشهيرة بأن “ما هو جيد لبلدنا يكون جيد لجنرال موتورز والعكس صحيح. وقبل سنوات قليلة، حصل والتر ريذر Walter Reuther، رئيس شركة United Auto Workers، على عقود مع جنرال موتورز General Motors وشركات السيارات الأخرى التي تضمن الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية والأجور المرتفعة”. في عام 1952، اكد جون غالبريث بأن الرأسمالية في الولايات المتحدة نجحت بسبب القوة التعويضية للشركات والحكومة والعمل.
ومن الادوات المهمة للمصالح التجارية كانت لجنة التنمية الاقتصادية (Committee for Economic Development (CED)) وهي مجموعة التنفيذيين من الشركات الكبيرة التي دافعت عن الرعاية الصحية الشاملة، زيادة الضرائب، البنية التحتية، التعليم، والتشغيل الكامل. واظهر تاريخ مارك مزروشي، حول لجنة التنمية الاقتصادية (CED)، بأن النخبة التجارية كانت مهتمة بمشاكل التقسيم الطبقي، والفقر، والتمييز العنصري، ورأت تلك النخبة أن سياسة الحكومة -وليس القطاع الخاص- هي الوسيلة الأساسية للأنصاف وتدارك المشاكل.
واعلن بول هوفمان Paul Hoffman، احد مؤسسي لجنة التنمية الاقتصادية والمدير التنفيذي لشركة اوتوموبيل، عن رؤية لحوكمة الشركات المحكومة عبر المصالح الذاتية المستنيرة. ولم تكن لرؤيته التي تقدم فيها قادة الاعمال التجارية اهدافا ليبرالية او محافظة محددة. وبدلاً من ذلك، دافعت لجنة التنمية الاقتصادية عن سياسات كانت تعتقد أنها ستفيد البلد وشركاته على حد سواء مثل تعويض العاطلين، والانفاق على الأشغال العامة، وتعزيز البحث والتعليم. ودافعت اللجنة عن هذه السياسات خلال الادارات الديموقراطية والجمهورية، مؤكدين انها (اي السياسات) عادت بالفائدة على كل من الاعمال التجارية والبلاد.
في عام 1946، كتب هوفمان: “يمكن لمصالح الافراد ان تتطور فقط من خلال اطار واسع من الاجراءات الجماعية من قبل الحكومة والقطاع الخاص”. وفضلا عن عملها على السياسة المحلية. وفيما بعد شكلت لجنة التنمية الاقتصادية جماعة ضغط في تشكيل مجلس المستشارين الاقتصاديين، وصندوق النقد الدولي، وخطة مارشال التي ادارها بول هوفمان.
ان مكانة وتأثير لجنة التنمية الاقتصادية CED يتعارضان مع الرابطة الوطنية للمصنعين National Association of Manufacturers (NAM)، وهي رابطة وطنية تجارية يمينية تقليدية تعود جذورها الى القرن التاسع عشر. وبينما كانت لجنة التنمية الاقتصادية تركز على زيادة الضرائب والعناية الصحية، كانت الرابطة الوطنية للمصنعين غارقة في معارك ايديولوجية مع فصيل يميني متطرف داخل قيادتها.
اسس عدد من قادة الرابطة، منهم كولا باركر Cola Parker رئيس كيمبرلي كلارك، وفريد كوخ Fred Koch صناعي ووالد تشارلز وديفيد، في النهاية جمعية جون بيرش 1958، ونددوا بالرئيس أيزنهاور والأمم المتحدة بوصفهم شيوعيين. ومع ذلك، تم تهميشهم من قبل قادة الأعمال والمحافظين على حد سواء. ومع تكثيف جهود لجنة التنمية الاقتصادية لتمرير الرعاية الطبية، كانت هناك معارضة من قبل غالبية اعضاء الرابطة الوطنية للمصنعين. واوضح بيتر سوانسون Peter Swenson انه خلال المدة الممتدة من 1957 ولغاية 1966، انخفضت عضوية الرابطة من 21000 الف الى 14000 الف شركة فقط. وكرس الرئيس جونسون وقته لتنمية الاتصالات الشخصية مع أعضاء مجلس الأعمال ولجنة التنمية الاقتصادية بدلا من الرابطة.
وكان نمو الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب نتيجة للتشاور المستمر مع مجتمع الأعمال الذي دعم عمل الحكومة. في عام 1966، 22 من المدراء التنفيذيين ومن ضمنهم الرؤساء التنفيذين لشركة فورد، وجنرال الكتريك، وبنك مانهاتن، وقعوا خطاب دعم لمشروع جونسون للمدن الحضارية الذي يوفر التمويل والمُنح للتجديد الحضري، والنقل بالعبور، والاسكان. في عقد السبعينيات من القرن الماضي، ضمت لجنة التنمية الاقتصادية تنفيذيين من اي تي تي AT&T، كتربلر Caterpillar، دوبونت DuPont، اكسون Exxon، وجنرال موتورز General Motors، وآي بي ام IBM ودعموا بقوة تفويض صاحب العمل لعمل التأمين الصحي. واصدرت اللجنة خطاب عام 1971 حول “المسؤوليات الاجتماعية للشركات التجارية”، داعين الى الحد من الفقر، وتكافؤ الفرص بغض النظر عن العرق أو الجنس، ومجتمعات صالحة مع توفر سكن جيد والمواصلات. واكدت اللجنة بأن ” مصلحة الشركات مرتبطة بشكل وثيق برفاهية المجتمع والتي تكون الاعمال جزءا لا يتجزأ منها”.
هناك نقاش مستمر اليوم حول كيفية تُصوّر (تُفهم) القوة الرأسمالية في الديمقراطيات. ولطالما كانت الحكمة التقليدية تتمثل في وجود علاقة عدائية بطبيعتها بين الأعمال والحكومة، وهي علاقة صراع مستمر، مع فائزين وخاسرين واضحين، أنتج الكساد العظيم الصفقة الجديدة. وهذه الاحاطة مناسبة اليوم، عندما تخدم الاعمال التجارية كرجل شبح، وعندما تتضاءل القوة السيادية للمواطنين مقارنة بسلطة الرأسماليين العالميين مثل منصات التكنولوجيا، مع كم وفير من المعلومات حول اهتماماتنا وأماكن وجودنا، والمؤسسات المالية التي تتحكم وتتوسط في وصولنا وانجازنا في مجالات الإسكان والتعليم والتقاعد.
ويبدو أن ايفن فريد كوخ حقق تقدما على المدى الطويل: فمجموعة ابناءه المدنية (الأمريكيون من أجل الازدهار) هي حزب حقيقي بحد ذاته، مع ما يقدر بنحو 150 مليون دولار من المال السياسي لصناعات كوخ، و500 موظف مدفوع الأجر، وحوالي 3 ملايين من المؤيدين اُطلق عليهم (نشطاء المواطن) ليصبحوا ناشطين سياسياً نيابة عن المرشحين. ولكن اسقاط علاقتنا الحالية المعادية للماضي، يُحجب المصالح المعقدة وغير المتجانسة الخاصة بالأعمال التجارية في أوقات سابقة من تاريخنا، والدور المهم الذي لعبته الأعمال التجارية في تشكيل الديمقراطية بطريقة إيجابية. وكانت المعرفة بأولوية الاعمال صاخبة خاصة حول غياب المعارضة التجارية الموحدة في العديد من فترات الاصلاح الاجتماعي.
ويدين مؤرخي الرأسمالية السذاجة التحليلية في رفض مشاركة الأعمال في السياسة باعتبارها خبيثة. ويؤكد لويس هايمن (Louis Hyman) في كتابه (لماذا نكتب تاريخ الرأسمالية؟) بأن الرأسماليين، الذين يتم تصويرهم باستمرار بجرة قلم سريعة/ يتطلبون اهتمام وتركيز اكبر: اذ ان قراراتهم اكثر اهمية في تحديد حياتنا اليومية اكثر من اي شخص وخاصة تلك (قراراتهم) الاساسية.
المرحلة المزدهرة من تاريخ الرأسمالية، التي نمت في منتصف العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، كانت جديرة بالملاحظة لأنها تنطوي على تحول في التفكير برأس المال بشروط ثابتة وجامدة. وبالنسبة لهؤلاء المؤرخين، وهم جيل من العلماء الذين ظهروا بعد اليسار الجديد (New Left) وواجهوا الحقائق الملحة لقبضة الرأسمالية على كل قطاعات اميركا بعد عقد الثمانينيات، فأن الرأسمالية انتقلت من كونها “حتمية، ميكانيكية، فعالة ومملة” لتكون ديناميكية، وتضم عدد من الفاعلين والمؤسسات والعمليات. وقد يكون حافز الربح موجودًا دائما، ولكن طرق تحصيل الأرباح متحققة وبشكل مختلف غالباً.
الطور الثالث، الرأسمالية التشاركية (المساهمة) [2] Shareholder Capitalism: تركيز سلطة الشركات
لمن تكون مسؤولية رأس المال؟، وما هي الحوافز التي يمتلكها الرأسماليين للتعامل مع المؤسسات الديمقراطية؟
كما تم مناقشته في اعلاه، تطورت الرأسمالية الإدارية المتجذرة في القرن التاسع عشر الى رأسمالية اصحاب المصالح stakeholder capitalism [3] في فترة ما بعد الحرب، ونخبة من رجال الأعمال تسترشد بالربح والوعي السياسي – وأحيانًا بالترويج – للصالح العام. واوجد حوكمة الشركات، مدراء اقوياء ومجالس ادارة هادئة نسبيا وشؤون مالية منتظمة. واستخدمت الحكومات الديمقراطية الادوات الكينزية، السياسة المالية والرعاية الاجتماعية، لتحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عادلة.
ولكن في السبعينيات، مع تطور المشهد السياسي، تطور دور وسلوكيات الأعمال أيضًا. وأدى التضخم العالي والانكماش الاقتصادي في السبعينيات الى التشكيك في الكينزية، وضغطت المنافسة العالمية على الشركات الأمريكية، خاصة تلك العاملة في الصناعة التحويلية والصناعة. وشوهت فضيحة ووترغيت الثقة بالحكومة. وأخيرًا، أدى إنشاء وكالة حماية البيئة وإدارة السلامة والصحة المهنية الى إحداث رد فعل عنيف من قبل مجتمع الأعمال.
عناصر الليبرالية الجديدة، بما في ذلك أصولية السوق (الالتزام بمبادئ عدم التدخل) والتأكيد على قيمة (مكانة) المساهمين، زادت من كراهية التدخل الديمقراطي في الأسواق. واصبحت دوافع وانشطة الشركات تركز بشكل متزايد على زيادة الأرباح قصيرة المدى إلى الحد الأقصى نتيجة للتغيرات الإيديولوجية والضغوط الخارجية. وسمحت عمليات الاستحواذ غير الودية -لاسيما باستخدام الاستحواذ بالرافعة المالية، وهو ابتكار مالي ظهر في الثمانينيات- بشراء وبيع الشركات كأصول في حد ذاتها. وأدى انتشار الأدوات المالية وفئات الأصول الى تغيير أهداف الشركات، وأصبحت قرارات المديرين خاضعة بشكل متزايد لقرارات المدراء الماليين. كما أدت الى خفض التكاليف بشكل مفرط، وتخفيض الأجور، وتخفيض الإعانات. وتعتمد الشركات بشكل متزايد على الاستعانة بمصادر خارجية وعلى التعاقدات، الامر الذي قطع علاقات والتزامات العاملين. ونما القطاع المالي بشكل كبير – بحلول عام 2001، اذ مثلت أرباح القطاع المالي أكثر من 40 في المائة من إجمالي أرباح الولايات المتحدة – ولكن بشكل غير مفاجئ، كانت مكاسبه متفاوتة او متقطعة. وحتى وقت قريب جدا، كانت الأجور راكدة أو منخفضة للعاملين من الطبقة الدنيا والمتوسطة، في حين ارتفعت تعويضات المديرين بشكل كبير.
الرأسمالية غير المقيدة التي شهدناها منذ عقد الثمانينيات لم تأتي بنتائج جيدة للديمقراطية او للإنتاجية الاقتصادية على المدى الطويل. واليوم، يبذل لوبي الاعمال رأسماله السياسي بانضباط عالي لقطف امتيازات السياسة من الدولة. وهذا اللوبي ذو مهارة في لعب دور حارس البوابة للقضايا المدرجة في جدول أعمال السياسة، وحاصلا على تغييرات القواعد في الوكالات التنفيذية، ومكتسبا المعارك التشريعية ولا سيما في المجالس التشريعية للولايات. وتُترك الأعمال لحل مشاكلها ومتابعة مصالحها الخاصة، بدلاً من استخدام الساحة السياسية للفصل في النزاعات والخلافات بين الشركات والجمهور. والرأسمالية المالية تجعل من الصعوبة على السياسة الاجتماعية وحدها تجسير الفجوة الآخذة بالاتساع بين الثروة الدخل، لان ارباح التمويل تتراكم على حساب مديونية المستهلكين والعمال.
اوجدت الرأسمالية التشاركية (المساهمين) تهكم وعدم رضا تجاه الشركات، لكنها لم تدفع المواطنين أو السياسيين الى التحشد حول مجموعة واضحة من السياسات. حواجز اليمين ضد رأسمالية المحسوبية [4]، وحواجز اليسار ضد وول ستريت (Wall Street)، وفي نهاية اليوم ليس هناك اتفاق حول ماهية عناصر الرأسمالية التشاركية (المساهمين) وهذا يمثل مشكلة، أو كيف يمكن للسياسة معالجتها بالفعل؟. وبعد كل شيء، اصبح هناك اعتماد واسع للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية بدعم من الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء.
الطور الرابع: البلوتقراطية [5] أو اعادة الارتباط؟
بعد عقد من الازمة المالية، لازال مستقبل الرأسمالية الديمقراطية غير مؤكد. تم توثيق اندماج الاولويات الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة على نطاق واسع في العصر الذهبي الجديد.[6] ومن المرجح أن يشارك الأثرياء في السياسة، وسياساتنا الاقتصادية تحمي ثرواتهم وأصولهم. كما يرجح أن تستمر المحكمة العليا المحافظة في الحكم لصالح سلطة الشركات بأي من الطرق، مثل تقويض الحالة الإدارية، وكشف حماية العمال، والسماح لأموال الشركات غير المحدودة للدخول في السياسة من دون حدود.
ونطاق المشكلة هو أيضا عابر للوطنية. والشركات الآن هي تكتلات متعددة الجنسيات توظف العمال وتنتج السلع في جميع البلدان حول العالم. وهي لا تتعامل مع حكومة واحدة. واظهرت اوراق بنما واوراق برادايس (The Panama Papers and Paradise Papers) كيف تخفي النخبة العالمية -رؤساء الدول وبنوك الاستثمار والشركات العالمية- أموالهم من خلال الملاذات الضريبية، والاستثمار في الخارج، والشركات الوهمية. كما تقوم الاوليغارشيات الأجنبية باحتجاز ثروتها في الملاذات المالية والعقارية للديمقراطيات المتقدمة.
فخلال الازمة الاوكرانية عام 2014، على سبيل المثال، تم تصوير نائب مستشار الامن القومي البريطاني وهو يدخل شارع داونج [7] وبيده مذكرة تنصح بمعارضة العقوبات الروسية من اجل حماية المصالح المالية لمدينة لندن. ولكن من المستحيل تجاهل مشاكل الاستقطاب الحاد والمكائد، وصعود الشعبوية المتجذرة في المظالم الاقتصادية والسياسية. وهناك دلائل تشير الى أن قادة الشركات يشعرون بالقلق من التركيز المفرط على الربح بعيدا عن الاعتبارات الأخرى.
واخذ جيمي ديمون ووارن بافيت صفحات من صحيفة وول ستريت جورنال للدعوة الى وضع حد لتقارير الأرباح الفصلية وتلقي تغريدة اشادة بها من قبل الرئيس. وكان لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock، صريحًا بشأن مسؤوليات الشركات، وقد دعا الشركات الى التدخل حين تفشل الحكومة في تنفيذ وعودها. وفي رسالة الى المديرين التنفيذيين العام الماضي، شجع الشركات على تطوير استراتيجيات طويلة الأجل، وتنويع مجالسها، والتخطيط لتغير المناخ، واعادة النظر بالتعويضات.
ومع ذلك، فإن هذه الحلول ليس إلتفاف على أصولية السوق بقدر ما ترسخها. اكد كارل بولاني (Karl Polanyi) بأن الدول والأسواق تتكون بشكل متبادل، لكن الاعتماد على السوق أدى الى تجويف الدولة، وجعل المواطنون يبحثون بشكل متزايد عن حلول خاصة للمشاكل العامة. واستجابة لذلك، تستخدم الشركات وسائل مثل المسؤولية الاجتماعية للشركات (corporate social responsibility (CSR))، والرأسمالية الشاملة [8]، والاعمال الخيرية للإشارة الى التزامها تجاه المجتمع والاهداف الاجتماعية المختلفة.
المسؤولية الاجتماعية للشركات تشير الى التزام غير منظم او متبلور بنمط معين تجاه المجتمع. في عام 1972، أكد استاذ ادارة الاعمال في جامعة كاليفورنيا داو فوتاو (Dow Votaw)، بأن “المسؤولية الاجتماعية للشركات” مبهمة من الناحية النظرية، اذ يمكن للشركة أن تتصرف بمسؤولية بما يرتبط بشؤون عمالها أو بتأثيرها البيئي، أو يمكن أن تكون مدركة لمسؤوليتها الاجتماعية، أو يمكنها التبرع للجمعيات الخيرية، وهذه جميعها تعتبر امثلة على المسؤولية الاجتماعية للشركات. وهذا المفهوم غير متبلور على وجه التحديد لأن الشركة ليس لديها مجموعة واضحة من الجهات الفاعلة التي تكون مسؤولة عنها في مثل هذه الأشياء غير المساهمين.
ويدافع تحالف الشركات والمؤسسات البحثية المتطورة أيضًا عن “الرأسمالية الشاملة”، وهي مزيج من ممارسات الشركات والسياسات الاقتصادية التي تهدف الى خلق قيمة ونمو على المدى الطويل. واخيرا، يستخدم المسؤولون التنفيذيون في الشركات وسائل مثل الأعمال الخيرية والمؤسسات لتعزيز الأهداف الاجتماعية، كما ان العديد منهم يصنفون كمليارديرات تخلو عن ثروتهم خلال حياتهم. ومع ان هذا استخدام للمال الخاص، وربما يعد إيثارًا، الا انه أيضًا غير خاضع للمساءلة وغير ديمقراطي.
السؤال هنا، كيف يمكن للإجراءات الخاصة تحسين العلاقة الشاملة بين الديمقراطية والرأسمالية؟. ففي حين أنها قد تساعد على تحسين النتائج الاجتماعية على الهامش، فإن النتيجة الأكثر ترجيحًا هي أنها تسقط خطايا الشركات وتترك العوامل الهيكلية التي عجلت بالانحدار الديمقراطي.
الرأسمالية هي منطق الإنتاج وليس منطق القيم السياسية. ومن السذاجة وعدم الدقة تاريخياً أن تطلب من الرأسماليين تغيير الرأسمالية من الداخل.
حل ازمة الديمقراطية هذه يجب أن يكمن، كما كان في الماضي، في السياسة، سواء كان ذلك في شكل سياسات اقتصادية جديدة أو مؤسسات سياسية مستقلة ذات سلطة. والابتعاد عن الرأسمالية التشاركية (المساهمة) من قبل الشركات لا يتطلب الاعتراف بأن الوضع الراهن غير مستدام فحسب، بل أيضًا أن الديمقراطية توفر الأدوات اللازمة لتغيير المستقبل. الامر الذي يسمح لنا بصياغة السياسات وفقًا لما يحتاجه المواطنين، والاعتراف بأن الحكومة هي الفاعل الرئيس في تشكيل النتائج المجتمعية. وإن انكار الدور الذي تلعبه المؤسسات الديمقراطية في تنظيم الرأسمالية، لا يخدم المصالح طويلة الأجل للشركات الأمريكية.
عندما قامت الولايات المتحدة بالتصنيع في القرن التاسع عشر، انخرطت العديد من الشركات في سياسات فاسدة، والبحث المفرط عن الريع، وقمع العمال، ولم تفعل الأحزاب التي بنيت على المحسوبية سوى القليل لوقفها. ولكن التغييرات في الرأسمالية قادت الى تغييرات في السياسة، أو على الأقل تغيير في دور الأعمال التجارية في السياسة. كما أنتجت الرأسمالية الإدارية فئة من قادة الأعمال الذين طالبوا بحكم أفضل، واستجابت الأحزاب لذلك بتفكيك المحسوبية وبناء مؤسسات إدارية جديدة.
وأصبحت الولايات المتحدة هي الرائدة اقتصاديا وسياسيا على المستوى العالمي في عصر أصحاب المصلحة بمساعدة نخبة رجال الأعمال، والكثير منهم دفع باتجاه الحماية الاجتماعية والتعليم والبنية التحتية والتنظيم. ونجحت الرأسمالية الديمقراطية لان الرأسماليين كانوا الى جانب –وفي ذات الوقت عملوا على تحسين– ديمقراطيتنا. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع الرأسماليين اليوم، الذين يبدون في أحسن الأحوال ملحدين، وفي أسوأ الأحوال، ساخرون تمامًا بشأن نظام الحكم لدينا. وربما سيقوم الناس بالجهد الكبير اللازم لإعادة تشكيل هذه العلاقة، من خلال الاحتجاج الجماهيري أو من خلال انتخاب قادة جدد. ولكن النتيجة الأكثر رعبا هي أن ديمقراطيتنا تستسلم، بينما الرأسمالية تستمر.
…………………………………
الكاتب: ديدي كو (DIDI KUO) باحث في مركز الديموقراطية والتنمية وحكم القانون في جامعة ستانفورد، وزميل في مؤسسة اميركا الجديدة في واشنطن، ومؤلف كتاب” الزبائنية، الرأسمالية والديموقراطية: صعود السياسات البراغماتية في الولايات المتحدة وبريطانيا”.
الناشر: Democracy: A Journal of Ideas، العدد (51)، 2019، تصدر عن منظمة الديمقراطية المستقلة/ واشنطن.
ترجمة: ا. م. د. حسين احمد السرحان/رئيس قسم الدراسات السياسية في مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء، وباحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية (منظمة غير حكومية).
رابط الدراسة الاصلي:
https://democracyjournal.org/magazine/51/democratic-capitalisms-future/
…………………………………
[1] كان العصر التقدمي مرحلة من النشاط الاجتماعي والإصلاح السياسي على نطاق واسع في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي امتدت من 1890 الى 1920. وكانت الأهداف الرئيسة للحركة التقدمية هي معالجة المشاكل الناجمة عن التصنيع والتحضر والهجرة والفساد السياسي. للمزيد انظر: en.wikipedia.org › wiki › Progressive_Era. المترجم
[2] وهي نظام اقتصادي يكون فيه شكل الشركة المسيطر هو الشركات المستقلة قانونًا والتي يمكنها تجميع رأس المال من العديد من المساهمين من ذوي المسؤولية المحدودة، تكملها سوق الأوراق المالية المفتوحة لتداول هذه الأسهم بحرية.
[3] نظام يتم فيه توجيه الشركات لخدمة مصالح جميع أصحاب المصلحة. ومن بين أصحاب المصلحة الرئيسيين العملاء والموردين والموظفين والمساهمين والمجتمعات المحلية
[4] رأسمالية المحسوبية هي نظام اقتصادي تزدهر فيه الشركات ليس نتيجة للمخاطرة، بل كعائد على الأموال المتراكمة من خلال العلاقة بين طبقة الأعمال والطبقة السياسية. غالبًا ما يتم تحقيق ذلك باستخدام سلطة الدولة بدلاً من المنافسة في إدارة التصاريح أو المنح الحكومية أو الإعفاءات الضريبية أو أشكال أخرى من تدخل الدولة. انظر: https://en.wikipedia.org/wiki/Crony_capitalism (المترجم)
[5] الحكم البلوتوقراطي أو النظام الملكي هو مجتمع يحكمه أو يسيطر عليه أناس ذوي ثروة أو دخل كبير. يرجع أول استخدام معروف للمصطلح باللغة الإنجليزية إلى عام 1631. على عكس الأنظمة مثل الديمقراطية أو الرأسمالية أو الاشتراكية أو الأناركية، فإن البلوتوقراطية ليست متجذرة في فلسفة سياسية راسخة. انظر:
https://en.wikipedia.org/wiki/Plutocracy (المترجم)
[6] العصر الذهبي: حقبة في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية حدثت خلال أواخر القرن التاسع عشر (من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى حوالي عام 1900). كان العصر المذهب عصرًا للنمو الاقتصادي السريع، خاصة في شمال الولايات المتحدة وغربها. انظر: https://en.wikipedia.org/wiki/Gilded_Age
[7] الشارع الذي يضم مقر مكتب رئيس الوزراء البريطاني. (المترجم)
[8] الرأسمالية الشاملة inclusive capitalism، مصطلح يتكون من معنيين متكاملين: (1) الفقر مشكلة نظامية كبيرة في البلدان التي تبنت بالفعل أو تتجه نحو الاقتصادات الرأسمالية، و(2) يمكن للشركات والمنظمات غير الحكومية بيع السلع والخدمات إلى ذوي الدخل المنخفض، مما قد يؤدي إلى استراتيجيات هادفة للحد من الفقر، بما في ذلك تحسين التغذية والرعاية الصحية والتعليم والعمالة والبيئة. للمزيد انظر: https://en.wikipedia.org/wiki/Inclusive_capitalism (المترجم)
رابط المصدر: