انتقدت الحكومة الإيطالية في بيان رسمي يوم 2 يونيو الجاري تدخل المفوضية الأوروبية في السياسات الداخلية الإيطالية. وكانت بروكسل قد انتقدت مسبقًا قرارًا لحكومة جورجيا ميلوني يقضي بإلغاء إشراف مختصي ومدققي الحسابات على خطة إيطاليا الاقتصادية للتعافي من الجائحة، الأمر الذي عدّته حكومة “ميلوني” اليمينية ضغطًا وتدخلًا في الشؤون الداخلية لأغراض سياسية؛ كون بروكسل تمول خطة الإنقاذ الاقتصادي لإيطاليا بمبلغ قياسي متوقع أن يصل لـ200 مليار يورو.
وتعد خطة الإنقاذ الاقتصادي لإيطاليا من تداعيات الجائحة هي الآن مربط الفرس في العلاقة بين روما وبروكسل التي صرحت رسميًا “أنها تراقب الوضع الإيطالي بعناية شديدة” بسبب تخلف روما عن الوفاء بعدد من الشروط والالتزامات الاقتصادية المتفق عليها والتي يتوقف تقديم دفعات جديدة من حزم الإنقاذ الأوروبية على الوفاء بها. فقد وافق الاتحاد الأوروبي في 2020 على منح إيطاليا 200 مليار يورو على دفعات في شكل قروض ميسرة، مع ربط وصول الدفعات لإيطاليا بتحقيق تقدم في 527 نقطة متفق عليها بين بروكسل وروما تشمل مشروعات اقتصادية واجتماعية وإصلاحات هيكلية واقتصادية ودعم للقطاعات المتعثرة ودعم التحول الاقتصادي الأخضر من خلال التمويل.
إلا أن ارتفاع التضخم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية صعّب من مهمة روما للوفاء بوعودها، حيث قامت حكومة “دراجي” السابقة بتأجيل تنفيذ عدد من المشروعات، وتأجيل المراجعات مع الاتحاد الأوروبي. والآن، تجد جورجيا ميلوني نفسها في موقف لا تحسد عليه؛ فهي تدرك أهمية حزمة الإنقاذ الأوروبية وحاجة إيطاليا لها للخروج من الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الجائحة وزادت بسبب الحرب في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته لا ترغب في خسارة شعبيتها المستندة إلى الخطاب القومي الشعوبي ورفض الضغوطات الأجنبية فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية للناخب الإيطالي كقضية الهجرة غير الشرعية. من هذا المدخل نحاول فهم مستقبل العلاقة بين روما وبروكسل، وتفنيد دوافع وموانع روما للخروج من الاتحاد الأوروبي وواقعية الطرح في هذا التوقيت.
فوفقًا لوثيقة صدرت حديثًا عن روما، فإنه من المتوقع ألا تحصل البلاد على الحزمة الثانية من حزم الإنقاذ المقدمة من بنك التعافي الأوروبي والتي يحين موعدها بنهية الشهر الجاري؛ نتيجة عدم الالتزام أو تحقيق تقدم ملموس في النقاط المتفق عليها. وكانت إيطاليا بررت موقفها بسبب ما أسمته “التغيرات الجذرية التي يشهدها العالم”، وأشارت في بيان إلى ارتفاع أسعار المواد الخام، والتضخم المتسارع وسلاسل الإمداد المعطلة كعوامل ترى أنها أدت إلى تراجع تنفيذ الخطة المتفق عليها. بدورها، ترى بروكسل أن فشل تنفيذ الخطة أو التهاون فيها مع إيطاليا سيرتد على سمعة الاتحاد المتأثرة أصلًا بسبب المواقف الأوروبية المتباينة في عدد من القضايا على رأسها التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية؛ إذ إن خطة الإنقاذ هذه هي الأكبر في تاريخ الاتحاد، وينظر إليها كمعيار لنجاح وقدرة الاتحاد على الحفاظ على مكوناته وثباته.
سياسات ميلوني مع بروكسل
من المعروف أن حزب (فراتلي إيطاليا – إخوة إيطاليا) هو حزب يميني متعصب ودائمًا ما يغازل الجماهير بالخطابات القومية والنزعة الشعبية الإيطالية الرافضة لدخول واندماج أيديولوجيات أو عرقيات غير أصلية على المجتمع الإيطالي، وهو الطرح الذي يخشى الأوروبيون أن تركز عليه ميلوني؛ كون ملف اللاجئين هو أحد الملفات الشائكة في الاتحاد. وربما كانت العوامل الاقتصادية وخطة الإنقاذ الأوروبية هي العوامل التي أدت إلى تراجع ميلوني عن التصادم مع قيادات بروكسل حول الملف.
إلا أن الحكومة الإيطالية تقوم ببعض التصرفات التي تنتهك المعاير الأوروبية حول عدد من الملفات التي لا تتسق مع التوجه اليميني للحزب الحاكم في إيطاليا؛ إذ ترفض الحكومة تسجيل المواليد للأشخاص ذوي الميول الجنسية المخالفة للطبيعة، وعاد الحديث مرة أخرى عن الزعيم الإيطالي الفاشي “موسيليني” والذي وفقًا لتقارير أوروبية يجري إعادة تشكيل صورته الذهنية الجمعية لدى الإيطاليين، بالإضافة إلى قيام الحكومة باستبدال المسؤولين في المناصب الحساسة بالمؤسسات الوطنية ليحل محلهم آخرون تضمن حكومة ميلوني ولاءهم وانصياعهم لقرارات الحكومة.
يضاف إلى ذلك إصدار قانون يعاقب بالغرامة مستخدمي الكلمات الإنجليزية في المراسلات أو الأوراق الرسمية، فضلًا عن فرض حالة الطوارئ لصد وصول المهاجرين للسواحل الإيطالية. وهي خطوات وقرارات تخالف المعاير الأوروبية؛ فبروكسل ترى أنها يجب أن ترهن حصول إيطاليا على دفعات الدعم بتنفيذها للـ527 نقطة المتفق عليها مسبقًا في 2020 بالمدى الزمني المطلوب من روما، وامتثالها للمعاير الأوروبية بغض النظر عن التوجه الحكومي.
وقد تبنت إيطاليا مؤخرًا عددًا من المواقف الدالة على التزامها بالمجموعة الأوروبية والتوجه الغربي؛ فهي أحد أشد المدافعين عن أوكرانيا والمطالبين بدعمها، ووافقت “ميلوني” على الانسحاب من مشروع طريق الحرير الصيني بإيعاز من مجموعة السبع الكبار، على الرغم من حاجتها للاستثمار الأجنبي وتعاقدها على عدد من المشروعات مع بكين.
يتضح لنا من خلال ما سبق أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وفريقها يعلمون جيدًا ما هي القضايا المحورية والتي إن تبنوا فيها موقفًا مخالفًا للمعسكر الغربي أو التحالف الأوروبي ستكلفهم خسارة الدعم المقدم أو تأجيل الحصول على الحزمة المقرر. ويعلمون كذلك نوعية القرارات التي تحافظ على شعبيتهم المبنية على النزعة القومية والتي لا تمثل ثقلًا حقيقيًا لبروكسل.
وبالإضافة إلى ذلك، تستغل حكومة “ميلوني” التدقيق الأوروبي على خطتها الاقتصادية للترويج لسياسات يمينية وكسب مزيد من الشعبية من خلال الترويج العكسي بأنها لا تنصاع للقرار الأوروبي، والترويج بأن بروكسل متحاملة على إيطاليا التي يتوجب عليها الإيفاء بـ 527 نقطة اتفاقية مع بروكسل مقارنة بدول أخرى في الكتلة تتحصل على حزم الدعم مع التزامات أقل، وأن تلقي حزمة المساعدات الجديدة (نهاية الشهر الجاري) مرهون بـ20 مردودًا نهائيًا لنقاط متفق عليها وليس مجرد الشروع بها. هذا التوجه وإن كان يحافظ على شعبية الحكومة الإيطالية، إلا أنه قد يؤدي بنهاية المطاف إلى زيادة النزعة الانفصالية عن الاتحاد الأوروبي، الأمر غير المقبول في بروكسل؛ لكون إيطاليا هي ثالث أكبر اقتصاديات الاتحاد.
فرضية الخروج
كانت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني طالبت في 2014 بخروج بلدها من الاتحاد الأوروبي، وذلك بالتزامن مع تلويح اليونان بالخروج بسبب الأزمة الاقتصادية وتراكم الديون قبل أن تتراجع بعد الاتفاق على إنقاذ الاقتصاد اليوناني بتمويل من بروكسل بهدف الحفاظ على تماسك الدولة وإبقائها عضوًا بالاتحاد. ذات الأمر يتكرر الآن مع إيطاليا؛ فعلى الرغم من النزعة اليمينية القومية للحكومة الإيطالية والنزعة الانفصالية لدى قيادات حزب “إخوة إيطاليا” الحاكم فإن حاجة إيطاليا إلى دعم وحزم المساعدات الاقتصادية من بروكسل سيثبط أي نزعة انفصالية، وسيتطلب من “ميلوني” وحكومتها اتخاذ مواقف سياسية مرنة أو متوائمة مع سياسات الاتحاد.
وقد يتم التلويح في المستقبل القريب بورقة انفصال إيطاليا عن الاتحاد الأوروبي، لكن الأمر لن يتجاوز حد التلويح به كورقة تفاوضية؛ للضغط على بروكسل كي تحصل إيطاليا على مكتسبات أو تسهيلات في حصولها على الدعم الأوروبي، مع تخفيف التشديد على ضرورة إتمام الـ527 نقطة المتفق عليها في 2020 كشرط لبرنامج الإنقاذ الاقتصادي.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من التوجهات السابقة لـ “ميلوني” وحزبها قبل وصولها إلى مقعد رئاسة الوزراء في الجمهورية الإيطالية، فإن خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي خلال السنوات القادمة يبدو غير واقعي؛ فعلى الرغم من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية في روما، لا يمثل ذلك داعيًا حقيقيًا للخروج، فضلًا عن أن كلا الطرفين يحتاج إلى وجود ودور الأخر. وبالمقارنة بالحالة البريطانية، فالاقتصاد الإيطالي لا يستطيع تحمل تبعات الخروج الآن أو في المدى القريب، على العكس من بريطانيا التي خرجت في وقت كان فيه المسرح الدولي أكثر هدوءًا، وكان اقتصادها قادرًا على تحمل (إلى حد ما) تبعات الخروج القاسية على العكس من الحالة الإيطالية والتي سيكون لخروجها من الاتحاد تكلفة سياسية واقتصادية لن تستطع روما تحملها.
.
رابط المصدر: