محمد عبد الرازق
طوت تونس، في 25 يوليو 2022، صفحة العام الاستثنائي الذي بدأ بإجراءات استثنائية متتابعة اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو 2021 بتفعيل الفصل الـ 80 من دستور 2014، وذلك عبر إجراء الاستفتاء على دستور جديد للبلاد وافق عليه نحو 94.6% من المشاركين الذين بلغت نسبتهم نحو 27.5% حسب النتائج الأولية. وستكون لهذه النتائج انعكاسات واضحة على المستقبل السياسي للبلاد.
ملاحظات ودلالات
يمكن من خلال النتائج الأولية للاستفتاء على الدستور الجديد وسياقات الاستفتاء نفسه الوقوف على بعض الملاحظات والدلالات المحورية في رسم خريطة المستقبل التونسي، وهي كالتالي:
1- نسب التصويت:
تشير النتائج الأولية للاستفتاء إلى أن نحو 27.5% فقط من الكتلة التصويتية التونسية هي التي شاركت في الاستفتاء، وهي نسبة ضعيفة تعد الأقل في كل الاستحقاقات الانتخابية والتصويتية التي شهدتها الجمهورية التونسية منذ عام 2011 وسقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
ويمكن أن يعزى هذا الانخفاض في الإقبال على التصويت إلى عدد من العوامل والأسباب، منها:
1– صاحب طرح مسودة الدستور الذي جرى الاستفتاء عليه انتقادات سياسية وشعبية؛ لكون هذا الدستور يعد تغييرًا جذريًا لبنية النظام السياسي التونسي من جانب، ويحمل تغييرًا في الصلاحيات الممنوحة لكل من السلطتين التنفيذية والتشريعية عما نص عليه دستور 2014 من جانب آخر؛ إذ يعطي جميع الصلاحيات للرئيس ويجعل الحكومة مسئولة أمامه وليس أمام البرلمان. ذلك علاوة على الاعتراضات التي شابت مسألة دين الدولة، فنص على أن تونس جزء من الأمة الإسلامية، بدلًا من الإسلام دين الدولة كما كان دستور 2014. وهي كلها اعتراضات يمكن أن تكون أدت إلى عزوف قطاعات من التونسيين عن المشاركة في التصويت.
2- قادت الأحزاب والتيارات المعارضة خلال الأسابيع الأخيرة حملات واسعة لحث التونسيين على مقاطعة الاستفتاء على الدستور، وهي الحملات التي يمكن أن تكون أحد الأسباب وراء تدني نسب التصويت، خاصة وأن بعض هذه الأحزاب والتيارات ما زالت تمتلك قواعد شعبية.
3– باتت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للتونسيين صعبة للغاية على إثر الأزمات المتلاحقة وآخرها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومن النتائج التقليدية المترتبة على حدة الأزمات المعيشية هي انصراف الاهتمام عن الأوضاع السياسية والاستحقاقات الانتخابية، وهو ما قد يكون أحد أسباب تراجع نسبة التصويت.
2- مواصلة المسار:
يسير الرئيس التونسي منذ أن اتخذ القرارات الاستثنائية في يوليو من العام الماضي في مساره الذي رسمه للدولة منذ قرارات 25 يوليو وجمع بموجبها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وذلك دون أن تلعب القوى السياسية دورًا في رسم هذ المسار، أو يتم الاستجابة لبعض رؤاها، وفي مقدمتها القوة الشعبية الأكبر في البلاد وهي الاتحاد العام للشغل. وقد سار سعيّد في مسألة الدستور الجديد على نفس الشاكلة، وصولًا إلى مشهد الاحتفال بتمرير الدستور وسط عدد من المؤيدين في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس.
وهي كلها ملاحظات تشير إلى أن المرحلة التالية للموافقة على الدستور ستكون على نفس المنحى في قيادة البلاد، وتشير كذلك إلى أن الرئيس التونسي لا يهتم بأي انتقادات توجه لقراراته أو للمسار الذي يسير فيه، سواء كانت هذه الانتقادات داخلية أو خارجية، مما يعني أنه ماضٍ في مساره مهما كانت الاعتراضات والتحديات، مستندًا في ذلك إلى نصوص الدستور الجديد، وإلى التأييد الشعبي، سواء ما تظهره استطلاعات الرأي من أنه الشخصية الأكثر قبولًا لدى التونسيين في أي انتخابات رئاسية مقبلة، وكذلك في النسبة المرتفعة للغاية في الموافقة على الدستور 94.6% والتي تترجم بأنها تأييد واسع له، ووصفها سعيّد بأنها بداية “مرحلة جديدة” للبلاد.
3- تصاعد المعارضة:
فقد الرئيس التونسي طوال العام الذي فصل بين القرارات الاستثنائية والاستفتاء على الدستور الجديد العديد من الحلفاء الذين انضموا إلى لائحة الخصوم السياسيين، وفي مقدمتهم اتحاد الشغل والتيار الديمقراطي والحزب الدستوري الحر. ويلاحظ أن معظم هؤلاء المعارضين، سواء الذين كانوا مؤيدين لمسار 25 يوليو أو المعارضين له منذ البداية، أجمعوا على رفض الدستور التونسي الجديد، وخاصة فيما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية والحقوق والحريات.
ورغم أنه ليست كل هذه القوى قد انضمت إلى دعوات مقاطعة الاستفتاء، مثل اتحاد الشغل الذي ترك الحرية لقواعده في تحديد موقفها من الاستفتاء، فإنها تشترك نظريًا في رفض ما ترتب عليه، وأعلن عدد منها بالفعل مثل التيار الديمقراطي والحزب الدستوري الحر وجبهة الخلاص الوطني –علاوة على حركة النهضة بالطبع- عدم اعترافهم بنتائج الاستفتاء أو ما ترتب عليها، مما يعني استمرار تنامي رفض جزء ليس بالقليل من الوسط السياسي التونسي لمسار الرئيس، وهو ما يمثل تحديًا له.
تحديات قائمة
كان النظام شبه البرلماني في دستور 2014 أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الانسداد السياسي الذي واجهته تونس في فترة ما قبل 25 يوليو 2021، فضلًا عن كونه أحد الدوافع الأساسية لاتخاذ هذه الإجراءات. وبينما من المفترض أن يعكس إرساء قواعد نظام رئاسي كامل في دستور 2022 استقرارًا سياسيًا بعد نحو عشر سنوات من الاضطراب، فإنه يلقي بكامل المسئوليات السياسية على الرئيس، ويجعله المسئول الأول والأوحد عن أي قرارات أو سياسات، مما يرتب عددًا من التحديات التي ستواجهه في الفترة المقبلة، ومنها:
1- تراجع الدعم الدولي:
كانت المواقف الدولية منذ 25 يوليو 2021 مؤيدة لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد، خاصة بعدما أعلن في 13 ديسمبر الماضي خارطة الطريق التي تتضمن الاستفتاء على الدستور ثم إجراء الانتخابات المبكرة في 17 ديسمبر المقبل. إلا أن هذه المواقف المؤيدة بدأت في التراجع تدريجيًا ع\في ضوء بعض قرارات الرئيس، ومنها قراره بحل المجلس الأعلى للقضاء.
وحتى بشأن الدستور الجديد، نجد أن المواقف الدولية مالت إلى الانتقاد، فأعلنت الخارجية الأمريكية خشيتها من أن يقوض الدستور الجديد حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لأنه قلل من المراقبة وقلص من الحريات، مشددة على ضرورة الفصل بين السلطات. وقبل ذلك كان تقرير اللجنة الأوروبية للديمقراطية عن طريق القانون “لجنة البندقية” الذي عارض مرسوم تعديل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الذي أصدره سعيّد في 22 أبريل الماضي ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة قبل الاستفتاء على الدستور.
وهو ما يشير إلى احتمالات أن تكون هناك ردود فعل دولية أخرى منتقدة للدستور الجديد أو لقرارات مستقبلية للرئيس سعيد ومنها قانون الانتخابات. ورغم أن هذه المواقف من المرجح ألا يكون لها تأثيرات جدية في التعامل مع النظام التونسي لكون الهدف الأساسي للقوى الدولية هو الحفاظ على استقرار تونس كدولة مهمة جنوب المتوسط وتلعب دورًا في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية؛ فإنها قد تمثل في حد ذاتها ضغوطًا على النظام التونسي، لا سيّما في علاقته بالمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو في مساعيه إلى الحصول على دعم مالي من الدول المانحة، أو اجتذاب استثمارات أجنبية.
2- تأزم اقتصادي واجتماعي:
أشارت تقارير دولية إلى أن تونس من الدول المرشحة للتعثر عن سداد ديونها على وقع الأزمة الاقتصادية التي تواجهها والتي لها أثر كبير على الجوانب الحياتية والمعيشية للتونسيين. وحتى الآن، لم تتضح معالم خطة إصلاح اقتصادي حقيقي للبلاد، وتجري الحكومة مفاوضات مع صندوق النقد الدولي على قرض يقدر بنحو 4 مليارات دولار. وفي الوقت الذي تزداد حدة الأزمة المعيشية للتونسيين، سيمثل نجاح المفاوضات القائمة بين الحكومة وصندوق النقد الدولي إضافة أعباء معيشية جديدة على التونسيين متمثلة في رفع بعض أوجه الدعم وزيادة أسعار بعض السلع الأساسية.
وبالنظر إلى أن هذه المفاوضات تجري دون غطاء شعبي يضيف قبولًا لها لدى المواطنين، لا سيّما وأن الحكومة دخلت في معارك كثيرة في هذا الإطار مع الاتحاد العام للشغل دفعت الاتحاد إلى إعلان الإضراب العام في أكثر من مرة اعتراضًا على سياسات الحكومة؛ يمكن توقع المزيد من الاحتجاجات والإضرابات خلال الفترة المقبلة اعتراضًا على هذه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
3- مواجهة انتخابية:
أعلن الرئيس قيس سعيد بعد إعلان النتائج الأولية للاستفتاء أن أول قرار بعد الاستفتاء سيكون وضع قانون انتخابي جديد يغير الشكل القديم للانتخابات التي يعبر فيها المنتخب عن إرادة الناخب”. وذلك استعدادًا لإجراء الانتخابات البرلمانية المقرر لها منتصف ديسمبر المقبل. من المرجح أن يرسي القانون الانتخابي الذي سيعلنه سعيّد نظام التصويت الفردي بدلًا من نظام القوائم النسبية أو المطلقة، وهو الأمر الذي يلقى رفضًا من الأحزاب والقوى السياسية، وتراه مظهرًا غير ديمقراطي. ما يشير إلى أنها من المرجح أن تدخل في مواجهة أخرى مع الرئيس التونسي على قانون الانتخابات، ويكون السلاح الأهم في هذه المواجهة هو المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ما ينذر بمزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
إجمالًا، تمثل موافقة الأغلبية الساحقة من المشاركين في الاستفتاء على دستور تونس الجديد نجاحًا تامًا للرئيس قيس سعيّد في تحقيق مسعاه الأساسي من الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021 وهو تغيير بنية النظام السياسي للبلاد. إلا أن الفترة التي تلي هذا النجاح محملة بالعديد من التحديات التي تجعل الدستور الجديد الرئيس هو وحده من يتولى معالجتها ويتحمل مسئولية إخفاقاتها. وتنذر التحديات الاقتصادية التي يتعين على الرئيس معالجتها وتحقيق تقدم ملموس فيها والمعارضة السياسية المتواصلة بالمزيد من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في البلاد.
.
رابط المصدر: