أُجريت الانتخابات التشريعية في تونس في 17 ديسمبر 2022، وهي الخطوة الأخيرة في خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس قيس سعيد في 13 ديسمبر 2021 والتي تضمنت مجموعة من الإجراءات منها استمرار تعليق المجلس النيابي (البرلمان السابق) إلى تاريخ تنظيم انتخابات جديدة، بالإضافة إلى تنظيم استفتاء على التعديلات الدستورية في 25 يوليو2022 في ذكرى إعلان الجمهورية، وإجراء انتخابات تشريعية وفقًا لقانون انتخابي جديد لعام 2022 بمرسوم رقم 55 لعام 2022، بالإضافة إلى الاستشارة الشعبية أو الاستفتاء الإلكتروني الذي تم إجراؤه في مارس 2022، ثم بعد ذلك اعتماد التعديلات الدستورية التي تم إجراء الاستفتاء عليها في يوليو الماضي بنسبة موافقة بلغت نحو 94%.
مشاركة محدودة
انعقدت الانتخابات في سياق مضطرب سياسيًا، في ظل مقاطعة المعارضة وقوى تيار الإسلام السياسي لها، وسبق وأن حاولت النهضة عرقلة إجرائها من خلال التأثير سلبًا على توجهات الناخبين إزاء عملية التصويت، لكن تمت في موعدها المحدد؛ ولمدة ثلاثة أيام في الخارج في الفترة من 15-17 ديسمبر 2022، وبلغ عدد المرشحين نحو 1055 مرشحًا بحوالي 936 رجلًا و122 سيدة، ولمدة يوم واحد في الداخل في 17 ديسمبر.
تنافس المرشحون على 161 مقعدًا بعد تخفيض عدد المقاعد من 217 مقعدًا، ودُعي أكثر من 9 ملايين ناخب في الانتخابات بإجمالي 151 دائرة بالداخل و10 دوائر بالخارج منها ثلاث دوائر هي فرنسا 2، فرنسا 3، إيطاليا وقد سجلت مرشح واحد عن كل دائرة، بينما لم تسجل السبع دوائر الأخرى أي مرشح وهي دوائر (فرنسا1، وألمانيا، والأمريكتين، والدول العربية، وآسيا، وأستراليا، وإفريقيا).
بحسب القانون الانتخابي، يجب أن يحظى المرشح بأغلبية مطلقة في الدائرة أي (50%+1)، وفى حال عدم فوزه في الدورة الأولى بهذه النسبة تجرى دورة تالية في شهر يناير، لكن في حال وجود مرشح واحد فقط في الدائرة الانتخابية يفوز في الدورة الأولى أيًا كان عدد الأصوات التي حصل عليها. وبناء على ما تم إعلانه من نتائج أولية، فقد كانت نسبة المشاركة محدودة حيث بلغت 11.22%، وهي تختلف عن الانتخابات السابقة في 2019 والتي بلغت نسبة المشاركة بها نحو 41.3%. وسوف تعلن النتائج النهائية في مارس القادم، ثم يبدأ البرلمان الجديد بممارسة أعماله.
وترجع نسب الإقبال المحدودة إلى عدة عوامل:
• مقاطعة القوى السياسية: قاطعت أغلب القوى السياسية الانتخابات التشريعية، منتقدة القانون الانتخابي الجديد الذي زاد من عدد الدوائر الانتخابية، واعتمد طريقة الانتخاب الفردي للمرشحين بما يقلل فرص مشاركة الأحزاب، حيث يختار المواطنون النواب بشكل فردى وليس بالقائمة، واقتصار شروط الترشح على تونسيي الجنسية وغير الحاملين لأي جنسية أخرى، بالإضافة إلى ضرورة حصول المرشح على قائمة تضم أربعمائة تزكية من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية، وأن تكون القائمة موثقة من البلدية.
رفضت التيارات المعارضة الصلاحيات المحدودة للبرلمان القادم، وفكرة تكريس أغلب الصلاحيات في يد رئيس الدولة بما يعزز نظام الحكم الفردي، وتضم هذه القوى كلًا من (حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، وحراك مواطنون ضد الانقلاب، قلب تونس، حركة النهضة) بالإضافة إلى مقاطعة (الحزب الدستوري الحر، والتيار الديمقراطى، والحزب الجمهوري، والتكتل الديمقراطى، وحزب العمال، وحزب القطب، وحزب آفاق تونس)، وكذا رفض الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية الأولى في تونس، المسار الفردي الذي ينتهجه الرئيس دون إجراء حوار بين أغلب القوى السياسية، موجهًا انتقادات إلى الانتخابات قائلًا ” تونس مقبلة على انتخابات لا لون ولا طعم لها”.
• حملات التشويش: قامت حركة النهضة بتنظيم حملات إعلامية للتشويش على الحملات الانتخابية للمرشحين باستخدامها لوسائل التواصل الاجتماعي مثل “تويتر” و”فيسبوك” لتضليل الناخبين بنشر صور لمرشحين آخرين غير الفعليين الذين خاضوا السباق، بما عمل على إرباك المشهد الانتخابي، وهو ما أكده رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات “فاروق بوعسكر” في 6 ديسمبر.
ومن جهة أخرى، حاولت النهضة تأجيج الرأي العام وسط ظروف اقتصادية صعبة تمر بها تونس، وتشويه صورة الرئيس وتسليط الضوء على رغبته في التعاون مع إسرائيل في ظل توقيع تونس بروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في المتوسط، والذى تم تأجيله لعدة مرات من قبل البرلمانات السابقة منذ طرحه في 2008. ترجع هذه الممارسات التي تقوم بها النهضة وحلفاؤها إلى تراجع نفوذها منذ القرارات الاستثنائية التي اتخذها قيس سعيد في يوليو الماضي، وانتهاجه مسار مواجهة الفاسدين ضمن إجراءات شملت حظر السفر، وتجميد الأصول بسبب قضايا الفساد وغسيل الأموال ودعم الأنشطة الإرهابية وكان من بينهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة.
• الرأي العام: ربما أسهم غياب إعلام الناخبين ببرامج المرشحين في انخفاض نسبة المشاركة، كذلك أسهمت تجربة البرلمان السابق في ترسيخ حالة اللا مبالاة لدى الرأي العام التونسي خاصة أنه كان برلمانًا متشرذمًا، ولم يتمخض عنه أي تغيير في الوضع التونسي، بالإضافة إلى معاناة الشعب من أزمة اقتصادية تشغله بشكل أكبر من المشاركة في العملية الانتخابية، في ظل تضخم بلغ نحو 10%، ووجود أزمة في توفير السلع الأساسية مثل الدقيق والأرز، فضلًا عن أن قرض الصندوق الذى تحصل تونس بموجبه على 1.9 مليار دولار يتطلب وضع برنامج للإصلاح من خلال خفض الدعم، وفرض ضرائب على الاقتصاد غير الرسمي بما يمثل ضغوطًا على حياة المواطن.
مستقبل البرلمان
وفقًا لمخرجات الانتخابات والنص الدستوري الخاص بصلاحيات البرلمان، يمكن الإشارة إلى مسارين لشكل ومستقبل البرلمان القادم على النحو التالي:
الأول: في حال استقرار الأوضاع السياسية؛ من المرجح أن يضم البرلمان القادم أغلب المستقلين والقوى الداعمة لمسار 25 يوليو الذي انتهجه الرئيس قيس سعيد، ومن ثم سيطرة التيارات المؤيدة للرئيس على البرلمان مثل: حركة الشعب، والتيار الشعبي، وحراك تونس إلى الأمام، وحراك 25 يوليو، بالإضافة إلى بعض المستقلين ذوي الخبرة المحدودة في العمل السياسى. وعليه، سوف يتيح هذا المسار للرئيس سلطات ومساحات نفوذ أكبر، بما يعزز من شرعية النظام السياسى أمام المجتمع الدولي. لكن يتوقف ذلك على نجاح هذا البرلمان في ممارسة الدور التشريعي بما يسهم في مواجهة الأزمات التي تعاني منها الدولة التونسية، وتحقيق الاستقرار بها.
وبحسب التعديلات الدستورية الأخيرة، لن يكون الدور الرقابي كبيرًا في اختصاصات البرلمان القادم؛ إذ إن الحكومة ستكون مسؤولة أمام الرئيس وليس البرلمان، وأصبح النظام رئاسيًا بشكل كبير في ضوء الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، حيث يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يقوم هو بتعيينه، كذلك يعين الرئيس أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي يحدد سياسة الدولة ويصادق على القوانين، وله حق اقتراح مشروعات القوانين، ولمشاريع رئيس الجمهورية أولوية النظر.
ينقسم البرلمان إلى غرفتين (مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم) ولهما مجتمعان أن يعارضا الحكومة في مواصلة تحمل مسؤولياتها بتوجيه لائحة لوم إذا تبين لهما أنها تخالف السياسة العامة للدولة وفقا للمادة 115 من الدستور. وهناك إمكانية لسحب الوكالة من أعضاء البرلمان، ولا يتمتع النائب بالحصانة البرلمانية بالنسبة لجرائم القذف، ولا يتمتع بها في حال تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس.
وعليه فإن صمود البرلمان القادم ومضى الرئيس قيس سعيد في المسار الذي ينتهجه يرتب مزيدًا من الصلاحيات الرئاسية في التحرك في ملفات وقضايا الدولة بشكل أكبر، خاصة في ظل برلمان يغلب عليه التيار المؤيد للرئيس.
الثاني: في حال عدم استقرار الأوضاع السياسية نتيجة عوامل كثيرة على رأسها الخلاف بين الرئيس من ناحية والقوى السياسية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى معارضة الاتحاد العام التونسي للشغل للسياسات المتبعة، فإن ذلك يقود إلى تعميق الأزمة والانقسام السياسي، خاصة إذا توجهت الكتل المعارضة إلى تشكيل جبهة واحدة ضد الرئيس، في ظل عدم نجاح الحكومة في معالجة وحل الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الدولة.
وهو ما يرتب الاتجاه نحو مسار عدم استمرار هذا البرلمان من خلال عرقلة القوى السياسية المقاطعة للمشهد السياسى، ومحاولة تعطيله بالدعوة إلى احتجاجات وشل العمل في الدولة، ومن ثم الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
ختامًا؛ تمثل الانتخابات التشريعية التونسية 2022 مؤشرًا على انخفاض شعبية النظام، وحالة من فقدان الثقة السياسية تشعر بها أغلب القوى نتيجة تكريس الصلاحيات في يد الرئيس، لكن تظل تطورات الأوضاع ومدى نجاح البرلمان القادم في التعبير عن مصالح الشعب بشكل فعلى المؤشر الأوضح لقراءة مسار الأوضاع في البلاد.
.
رابط المصدر: