الدكتورة: مديحة صوفي
يقول خبراء (مائيون) ان حروب القرن الواحد والعشرين، ستكون حروباً من اجل المياه، مثلما كان القرن العشرون مسرحا لحروب كونية واقليمية من اجل السيطرة على مصادر الطاقة وفي مقدمتها النفط، فهل تفتح تركيا الجارة الأبواب والشبابيك لصراعات القرن الحالي باقامتها مشروع (GAP) العملاق الذي سيؤثر في مختلف جوانب الحياة في العراق وسوريا؟ بل انه سيؤثر حتى في البنية الاجتماعية في البلدين فضلا عن التغييرات البيئية الهائلة التي ستنتج عن الانخفاض المرعب لمناسيب المياه. المدى تفتح هذا الملف لما له من اهمية استراتيجية على مستقبل العراق ومستقبل اجياله القادمة.
يكرر الخبراء والاستراتيجيون والمحللون السياسيون والاقتصاديون مقولة صارت تثير فزع الناس في كل مكان، تنص على ان الحروب القادمة وبخاصة في منطقة الشرق الاوسط ستكون حروب مياه، فالذي يسيطر على مصاد المياه ومنابعها ويحتجزها هو الذي يفرض ارادته السياسية والاقتصادية على الاقليم ودوله أو على المنطقة باكملها، وستصبح الصراعات الايديولوجية في الموقع الثاني أو الثانوي ولعل قيام تركيا ومن دون مراعاة مصالح جيرانها بانشاء مشروع (GAP) الضخم (مشروع احياء منطقة جنوب شرق الاناضول) كما تسميه سيكون احد اهم اسباب النزاعات المستقبلية في المنطقة، و(المدى) في هذا التقرير تتابع وتتقصى تأثيرات هذا المشروع في حجم وكمية المياه الواصلة إلى نهري دجلة والفرات والداخلة إلى الاراضي العراقية وعلى مساحة الاراضي الزراعية والتاثيرات السلبية في نوعيتها، وكذلك التاثيرات المرضية على بيئة العراق.
وبدءاً نقول ان وزارة الموارد المائية تراقب بدقة ما يجري على الاراضي التركية وترفع تقاريرها بهذا الشأن إلى ديوان رئاسة الحكومة التي نعرف انها غير قادرة على التعامل مع مستجدات مشروع (GAP) التركي بطريقة ايجابية بسبب تعنت الحكومة التركية واصرارها على المضي في تنفيذ هذا المشروع برغم معرفتها بالاضرار التي يلحقها بالحياة والأرض في كل من سوريا والعراق، ولم تخف الوزارة خطورة الوضع على الرأي العام العراقي، فقد علق ناطق رسمي باسمها على الاجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية لانشاء سد اليسو على نهر دجلة الذي سيحرم (696) الف هكتار من الاراضي الزراعية العراقية من المياه، ويخفض الوارد المائي بمقدار (11) مليار متر مكعب.
وكان قد اعلن في اواخر شهر آب الماضي عن قيام رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان بوضع حجر الاساس لسد اليسو على نهر دجلة قرب منطقة دراغيتجين على بعد (45) كلم من الحدود السورية، وهذا السد هو نوع املائي ركامي ويبلغ منسوب قمته (530م) اما منسوب الخزن الفيضاني الاعلى فهو (528م) فيما يبلغ منسوب الخزن الاعتيادي للسد (525م) وحجم الخزن الكلي هو (11.40) مليار متر مكعب والمساحة السطحية لبحيرة خزان السد هي (300) كلم مربع، وسيولد السد طاقة كهربائية تصل إلى 1200 ميگا واط وطاقة سنوية تبلغ 3830 كيلو واط، ويعد سد اليسو اكبر سد سينشأ على دجلة وتبلغ تكاليف انشائه (1.2) مليار دولار وهو محط جدل كبير ومناقشات من دول الجوار منذ فكرته الاولى في نهاية السبعينيات بسبب تأثيراته السلبية العديدة والكبيرة في عدد من المدن الكردية في تركيا وازالته مواقع آثارية وتاريخية مهمة آشورية ورومانية وعثمانية، وتأثيراته الشديدة السلبية في العراق، اما تعليق الناطق الرسمي في وزارة الموارد المائية بهذا الخصوص فقد اكد ان كميات المياه الواردة إلى العراق في نهر دجلة ستتاثر بشكل كبير عند اكمال تنفيذ مشروع سد اليسو حيث سيتحكم السد في تحديد كميات المياه المطلقة إلى العراق، وان الوارد المائي الطبيعي لنهر دجلة عند الحدود العراقية–التركية هو (20.93) مليار متر مكعب/سنة وفي حالة تنفيذ المشاريع التركية، فان من المتوقع ان ينخفض هذا الوارد إلى (9.7) مليار متر مكعب/سنة وهو يشكل نسبة 47% من الايراد السنوي لنهر دجلة وان مثل هذا النقص له انعكاسات خطرة على العراق في مجالات (الزراعة ، الشرب، توليد الطاقة، الصناعة وبدرجة كبيرة انعاش الاهوار والبيئة). واكد الناطق الرسمي ان نسبة كبيرة من سكان العراق تعتمد في تأمين احتياجاتها على نهر دجلة وتظهر الحسابات الفنية انه في حالة نقص (1) مليار متر مكعب/سنة من واردات النهر فان ذلك سيؤدي إلى تجميد مساحات زراعية تقدر بحوالي 62.500 الف هكتار، فكيف اذا انخفض الوارد المائي إلى (9.7) مليار متر مكعب/سنة؟
عند انشاء سد اليسو، ستكون مجمل المساحات الزراعية التي ستحرم من تجهيزات المياه (696.000) هكتار من الاراضي المزروعة، وهذا سيؤدي إلى انخفاض كبير بمساهمة هذا القطاع في الانتاج المحلي وانعكاسات ذلك على مدخولات الفلاحين والمزارعين مما سيدفع بهم إلى ترك مهنة الزراعة والهجرة إلى المدن، كما ستزيد من اتساع وزحف مساحات التصحر في العراق وانتشار الكثبان الرملية وحصول تغير في طقس العراق من خلال تكرار العواصف الرملية اضافة إلى تدهور المراعي الطبيعية وانخفاض انتاجها في المناطق المتاخمة للاراضي الزراعية التي ستقطع عنها المياه اضافة إلى جفاف الاهوار طبيعياً، واضاف الناطق عند قيام تركيا بتنفيذ سد اليسو، فانه سيؤدي في السنوات الجافة إلى تقليص المياه المتدفقة بشكل حاد وخاصة بعد اكمال منظومة (اليسو جزره)، وهذا الاخير هو سد ستتم المباشرة ببنائه بعد انجاز سد اليسو)؛ حيث سيتم تحويل جميع المياه إلى اراضي هذا المشروع قبل عبورها الحدود الدولية (التركية- العراقية) وسيؤدي إلى انعكاسات سلبية خطرة على بيئة العراق وحرمان الكثير من السكان القاطنين على ضفاف النهر حتى من امدادات مياه الشرب، كما ان انشاء سد اليسو لا يقلل من ذروات الفيضانات العالية وهذا سيؤثر في سلامة وامن المنشآت المدنية والسكان المنتشرين على طول اسفل مجرى النهر كما سيؤثر كثيراً في هيدرولوجية نهر دجلة وتغيير النمط الطبيعي لتدفق مياهه وانعكاسات ذلك على خطط التجهيزات المائية للزراعة وتوليد الطاقة وتشغيل السدود في العراق وانعاش منطقة الاهوار، كما ان النقص المتوقع مع واردات نهر دجلة سينعكس ايضا على توليد الطاقة الكهربائية من المنشآت الهيدروليكية القائمة على نهر دجلة في العراق وهي منظومة (سد الموصل: السد الرئيسي والسد التنظيمي) و(سدة سامراء)، حيث سيؤثر في امدادات المصانع ومحطات ضخ المياه للشرب والاستخدامات المنزلية والمؤسسات الصحية والاحتياجات المدنية من الكهرباء، وأكد الناطق الرسمي أن العراق لم يتسلم من الجانب التركي اية معلومات تخص قيامه بانشاء سد اليسو أو مواصفاته الفنية أو اية دراسات عن هذا المشروع وانما علمنا بها عن طريق وسائل الاعلام المختلفة وذلك يخالف المعاهدات المعقودة بين الجانبين ومبادئ واحكام القانون الدولي التي تقضي بقيام دول أعالي مجرى النهر باشعار دول اسفل المجرى باي نشاطات تقوم بها يمكن ان يكون لها اثر ضار ذو شان على دول اخرى من دول المجرى المائي، وان موقفنا القانوني بخصوص استغلال مياه نهري دجلة والفرات هو ان العراق لا يعترض على مسألة التنمية في منطقة جنوب شرق الاناضول ولكن ذلك ينبغي ان لا يكون على حساب حقوقه التاريخية واستعمالاته القائمة، وبما ينعكس سلباً على حياة المواطنين العراقيين، وان على الحكومة التركية ان تعلم الدول المتشاطئة قبل انشاء السد استناداً إلى احكام القانون الدولي والاتفاقات الثنائية بين العراق وتركيا، واضاف الناطق ان العراق سبق ان اعترض على بناء سد اليسو المذكور لتأثيراته السلبية في كمية المياه الواردة اليه وفق اجراءات رسمية عبر وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية والجامعة العربية وتوضيح وجهة نظرنا التي تدعم تمويل بناء السد مؤكدين ضرورة ان يكون هناك اتصال مباشر بين تركيا والعراق فيما يتعلق بقسمة المياه الدولية وكل ما يتعلق بانشاء السدود الخازنة في كلا البلدين لكي لا تتأثر احتياجاتهما المادية.
والملاحظ ان تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الموارد المائية تحدث عن سد واحد هو اليسو المزمع اقامته على نهر دجلة واغفل الحديث عن الخطط التركية بشأن الفرات، ويعترف الناطق الرسمي ان المعلومات التي يوردها مستقاة من وسائل الاعلام وليس من الحكومة التركية، وهذا يعني ان وزارة الموارد المائية اخفقت في تحقيق اتصال مباشر مع الحكومة التركية لسبب ما لم يرض ان يحدثنا عنه احد من وزارة الموارد المائية، اما في وزارة الزراعة وكان لنا سؤال قصدنا به الوزارة حول تأثيرات مشروع (GAP) التركي على الزراعة في العراق فقد رفض مدير قسم المتابعة الحديث الينا بحجة انه سبق ان تحدث إلى الصحافة فتلقى لوما من الوزارة وهمش على تصريحاته من اعلى منصب وظيفي في الوزارة. السؤال نصه: من خول ابو العيس التصريح للصحافة؟ وهو على هذا لن يتعامل مع الصحافة، ولم تنفع محاولاتنا بالحديث عن خطورة الموضوع واهميته وطنيا لاقناعه بالعدول عن موقفه، اما خبراء الوزارة فهم اما موفد إلى خارج العراق أو مشغول باجتماعات خارج الوزارة اما الاستاذ قتيبة فقد احالنا إلى تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الموارد المائية وقال انه يفي بالغرض في حديثه عن المشاكل التي ستواجه الزراعة في العراق بسبب المشاريع التركية، وهكذا نلاحظ ان الدوائر ذات العلاقة والوزارات المتخصصة بالشأن موضوع البحث غير مهتمة اهتماماً كافياً بمتابعة الاحداث بشكل كاف وتفصيلي، بينما اهتم الاختصاصيون والخبراء من خارج هذه الوزارات والدوائر بتفاصيل المشروع التركي وتأثيراته اعتماداً على متابعات شخصية ودراسات معمقة علمية.
المهندسة الزراعية المتقاعدة ساجدة احمد المشاط (اختصاص مشاريع الري) تقول: «منذ اواخر السبعينيات ونحن نتابع مشاريع وافكار الحكومات التركية حول انشاء سدود ضخمة على نهري دجلة والفرات كانت تؤجل دائماً لاسباب محلية فالحكومة التركية اوجدت مصطلحاً للالتفاف على احكام القانون الدولي الخاص بالدول المتشاطئة الذي يفرض على دول اعالي المجرى النهري التشاور مع الدول اسفله وعدم الاضرار بها، ومشروع جنوب شرق الاناضول المعروف اختصاراً ب (GAP) هو اشهر هذه المشاريع واضخمها وترجع جذوره إلى سنة 1930 حين ظهرت مؤسسة الكهرباء التركية حيث بدأت في عام 1936 التحريات الاولية للمشروع بالمسح الهيدرولوجي على نهر الفرات ووضعت دراسة خاصة بانشاء سد كيبان في منطقة يلتقي فرات صو ومراد صو.»
وينقل الاستاذ باسل طاقة عن الدكتور ابراهيم خليل العلاف مدير مركز الدراسات بجامعة الموصل قوله: «ان مشروع الكاب في الحقيقة يتضمن انشاء 22 سداً اضافة إلى مجموعة من المشاريع الاروائية والخزانات والأنفاق والقنوات والمحطات الكهرومائية وتقدر الكلفة الاجمالية للمشروع ب 35 مليار دولار ويعد سد أتاتورك على نهر الفرات احد اكبر السدود في العالم وقد انجز عام 1990، وهناك مشاريع اخرى على نهر الفرات منها سدود قره قايا وقرقميش واديمان وغازي عينتاب. اما المشاريع على نهر دجلة فابرزها سدود قرال قزي وباطمان واليسو.» ويضيف الدكتور العلاف: «ان اغراض تركيا من هذا المشروع لا تقتصر على المجال الاقتصادي وانما هو مرتبط بتوجهات سياسية ايضاً فعلى الرغم من قول الاتراك ان اهداف المشروع انمائية بحتة، إلا ان الدوافع السياسية واضحة للعيان فكثيراً ما تلجأ تركيا إلى تسويغ سياستها المائية باستغلال الازمات مع الدول المتشاركة وعلى سبيل المثال في عام 1987م ربط الرئيس التركي انذاك (توركوت اوزال) منح سوريا (12) مليار متر مكعب من المياه اذا ما اوقفت دعمها لحزب العمال، كما بات معروفاً ان اسرائيل تدعم جهود تركيا لتنفيذ مشاريعها المائي وذلك لتهديد الأمن المائية والغذائي العربي.»
ومع ذلك يصر الاتراك على انهم انما يريدون احياء منطقة جنوب شرق الأناضول وحسب وجعلها سلة غذاء لتركيا والاقليم وتطوير مناطق ديار بكر وغازي عينتاب وسعرت وشانلي وماردين الاكثر فقراً في تركيا وهي مناطق يسكنها قرابة 12 مليون نسمة، ولا تفكر تركيا بالتشاور مع العراق وسوريا الدولتين المتشاطئتين معها بذريعة انه لا يوجد اتفاق بشأن تقاسم المياه بين هذه الدول واتت بمصطلح جديد للالتفاف على احكام القانون الدولي بقولها ان دجلة والفرات هما نهران عابران للحدود ولا يوجد في القوانين الدولية مصطلح (انهار عابرة للحدود) ولكنها حذلقة تركية كما هو واضح.
وتؤكد المهندسة ساجدة المشاط ان المشروع سيحجز 43% من مياه دجلة الداخلة إلى العراق و40% من مياه الفرات وان العراق الذي يعاني الآن نقصاً مقداره (10) مليارات متر مكعب/سنة سيواجه وضعاً خطراً جداً في السنوات القادمة مع انجاز المشروع التركي، وفي مجال البيئة، فان تلوث المياه جراء استخدام المواد الكيمياوية في تسميد الاراضي الزراعية في تركيا والتي سترويها مياه المشروع التركي سيحدث مشاكل بيئية شديدة الخطورة عندما يجري تصريف هذه المياه ثانية إلى النهر.
تفاصيل عن مشروع GAP التركي
يمتد هذا المشروع على مساحة جنوب شرق الاناضول المجاورة للعراق وسوريا وتضم محافظات (اجي يمان) ديار بكر، غازي عينتاب، لكس، سيرت، شانلي، ادرنة) ويتحدث مرتضى جمعة حسن السوداني بكالوريوس علوم سياسية من جامعة بغداد وعضو الجمعية العراقية للعلوم السياسية عن هذا المشروع (GAP) بالتفصيل فيقول: «إن هذه المحافظات الواقعة جنوب شرق الاناضول هي الافقر في تركيا وتشكل ما يقارب 9.7% من مجمل مساحة تركيا، وتبلغ مساحتها بالكيلومترات 75385كم2 وتشكل نسبة 20% من الاراضي الزراعية التركية، وترجع بدايات هذا المشروع إلى بداية تأسيس الجمهورية التركية من خلال اقامة محطات انتاج الطاقة الكهربائية واقامة السدود على نهر الفرات عام 1936، وقد بدأت الحكومات التركية المتعاقبة في اجراء العديد من الدراسات والابحاث لايجاد صيغة مثالية للاستفادة من مياه الفرات في عملية تطوير المناطق المتخلفة في تركيا، واستمرت الدراسات التي قامت بها مؤسسة شؤون المياه التركية حتى عام 1986، حيث قدمت دراسة إلى هيئة تخطيط الدولة في انشاء مشروع اقتصادي وتنموي ضخم يهدف إلى تنمية مناطق جنوب شرق الأناضول وعلى اثر ذلك اقرت الحكومة التركية المشروع وأنشأت ادارة خاصة للقيام بتنفيذه وسميت (ادارة تنمية جنوب شرق الاناضول) وعينت الحكومة التركية وزيراً لرئاسة هذه الهيئة باسم وزير شؤون جنوب شرق الاناضول.
ويتكون مشروع (GAP) من 22 سداً ضخماً اهمها سد (اتاتورك، كيبان، قارقيا، براجيل، قوم قايام) ومشروع تخزيني ومحطات طاقة كهربائية وشبكة اروائية كبيرة حيث تقدر مساحة الأرض التي يرويها المشروع بنحو (1.7) مليون هكتار من الاراضي الزراعية التي تشتهر بزراعة الفواكه والمحاصيل الاستراتيجية، وتولد المحطات الهيدروكهربائية نحو (23) مليار ميگاواط/ساعة، وتقدر القدرة التخزينية للمشروع بنحو 100 مليار متر مكعب، وهذه القدرة تمثل ثلاثة اضعاف القدرة التخزينية للسدود العراقية والسورية مجتمعة وتبلغ كلفة بناء المشروع اكثر من 35 مليار دولار استطاعت تركيا توفير جزء من هذا المبلغ عن طريق الميزانية التركية والباقي عن طريق الاستثمار الأجنبي وعن طريق بيع الأراضي في مشروع (GAP)، وعند اكتمال جميع المشاريع والأعمال والسدود ستتمكن تركيا من التحكيم ب80% من مياه نهر الفرات، ويعد سد اتاتورك رابع أضخم سد في العالم بدئ العمل به في عام 1990 واكتمل بناؤه عام 1992 ويصل ارتفاعه إلى 180 متراً وعرضه قرابة 1820 متراً، أما كمية المياه في بحيرة السد فتقدر ب70 مليار متر مكعب، وهو أكبر خزان في مشروع (GAP) وتقدر مساحة الأرض التي ترويها مياه خزان السد ب 740.000 هكتار من الأراضي الزراعية يتم توصيل المياه لها عبر قنوات مائية تعد الأولى عالمياً، حيث تم حفر هذه القنوات في الجبال ويبلغ طولها 27 كيلومتراً وعرضها نحو 7.5 متر وتستطيع المحطات الهيدروكهربائية الملحقة بالسد إنتاج نحو 9 ملايين كيلو واط سنوياً من الكهرباء.
ويتوقع الخبراء أن تتراجع الواردات المائية لسوريا والعراق جراء انخفاض منسوب نهر الفرات، ويخمنون تراجع حصة سوريا من 21 مليار متر مكعب عام 1990 إلى 12 مليار عام 2000 أي بنسبة 40% وحصة العراق من 29 مليار متر مكعب إلى 4.4 مليار متر مكعب أي بنسبة 90%، لقد سبب هذا الانخفاض أضراراً لسوريا والعراق، حيث أدى إلى تقليص الرقعة الزراعية إذ أن كمية المياه الواردة تكفي فقط لإرواء مساحة تقدر ب240.000 هكتار في حين تبلغ مساحة المنطقة الزراعية نحو 650.000 هكتار، وأدت زيادة نسبة الملوحة في المياه الواردة إلى إصابة المحاصيل الزراعية في المنطقة بمرض التقزم، وأدى انخفاض منسوب بحيرة الأسد التي تتغذى من نهر الفرات إلى توقف محطات إنتاج الطاقة الكهربائية، أما في العراق فالمشكلة تكمن أيضاً في نوعية المياه الواردة، إذ وجد العراق نفسه ومنذ زمن بعيد يجابه مشكلة عويصة تتمثل في وجود نسبة عالية من الأملاح في مياه نهري دجلة والفرات، وهي المشكلة التي حولت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة إلى مناطق غير صالحة للزراعة بسبب ارتفاع نسبة الأملاح فيها ولا سيما في المواسم التي تقل فيها مناسيب الأنهار، كما ان انخفاض واردات المياه من نهر الفرات تقلل من مساحات الأرض الخضراء ويساعد هذا على زحف التصحر إلى مناطق كانت بمنأى عن هذا الخطر. وتصل الآثار السلبية للمشروع إلى مديات بعيدة وصولاً إلى شط العرب والخليج العربي، حيث ان انخفاض منسوب شط العرب سيؤدي إلى تغيرات سلبية في جودة هذه المياه وانتاجيتها ومن ثم على السلة الغذائية البحرية والثروة السمكية، ويؤدي ازدياد الملوحة في شط العرب إلى هلاك سلالات كثيرة من الأسماك التي تتكاثر في مياه منخفضة الملوحة قبل هجرتها نحو مياه الخليج العربي الأكثر ملوحة، وتؤدي نسبة الملوحة العالية إلى تدمير مناطق تكاثر الروبيان وأنواع عديدة من الكائنات البحرية وبالتالي انخفاض كبير في إنتاج الثروة السمكية التي تشكل نمطاً معيشياً تعتاش عليه أعداد كبيرة من السكان في جنوب العراق ومناطق الخليج المجاورة.
ومنذ بداية المشكلة مع تركيا في عشرينيات القرن الماضي والمباحثات مستمرة بين العراق وسوريا من جهة وتركيا من جهة أخرى وذلك لبلورة رؤية مشتركة لاستغلال مياه الأنهار بصيغة لا تضر بمصالح جميع الدول، فقد كانت هناك لجنة ثلاثية للمفاوضات لأجل إيجاد أرضية لإقامة معاهدة للتقاسم العادل، إلا أن تركيا ترفض إبرام أي اتفاق لتقاسم المياه متجاهلة القانون الدولي الذي ينص على اعتبار النهر دولياً إذا كان حوضه يمر بأقاليم دول مختلفة وفي هذه الحالة فإن كل دولة تباشر سيادتها على ما يمر في أقاليمها من النهر مع ضرورة مراعاة مصالح الدول الأخرى التي يمر بها النهر أيضاً، ومن ثم لا يجوز لأية دولة أن تقوم بأي مشروع على حوض النهر يؤدي إلى الإضرار أو المساس بحقوق الدول الأخرى، وهو أحد المبادئ التي أقرتها محكمة العدل الدولي في لاهاي عام 1974 لحل النزاعات الدولي على المياه حيث أكد النص القانوني على «منع أي أعمال تؤدي إلى حصول أضرار بيئية في الدول المتشاطئة» وتتذرع تركيا لتسويغ مشاريعها بعدم وجود اتفاقية لتقاسم المياه من خلال تقديم تفسيرات خاصة للقانون الدولي حول اقتسام مياه الأنهار مع الدول التي تتشاطأ معها، حيث ترفض تركيا إدخال حوضي دجلة والفرات ضمن مفهوم الأنهار الدولية، بل تعدها أنهاراً عابرة للحدود وهو مفهوم غريب، إذ لا يوجد شيء في القانون الدولي اسمه أنهار عابرة الحدود، وبموجب هذا المفهوم فقد اعتبرت تركيا أن نهري دجلة والفرات مياهاً مملوكة للدولة التركية لها كل الحق في التصرف بها منكرة بذلك الحق التاريخي المكتسب منذ آلاف السنين لكل من العراق وسوريا، وعليه فقد بدأت تركيا بتخطيط وتنفيذ العديد من المشاريع المائية على هذه الأنهار متجاهلة حقوق دول الجوار.
إن مماطلة تركيا في موضوع عقد المعاهدة مع العراق وسوريا تعود إلى عدة أسباب منها:
1- أن تركيا إذا ما فكرت في عقد معاهدة لتقاسم المياه فستعقدها بشروطها هي، أي أن تكون هي الطرف الأول والأقوى، وهذا ما اكده الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل عندما قال: «لا نقبل أن نوقع أية معاهدة إلا بإرادتنا ولا يستطيع أحد أن يفرض علينا توقيعها»، وبذلك تستعيد تركيا السيطرة على هذه المنطقة التي فقدتها في أعقاب انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
2- أسباب سياسية، فهي تستخدم المياه للضغط على سوريا يبرز موضوع دعم سوريا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ومشكلة لواء الاسكندرونة، أما في العراق فالأمر يتعلق بإقليم كردستان وخشية تركيا من استقلال الإقليم الأمر الذي يفجر الموقف في منطقة جنوب شرق الأناضول ذات الغالبية الكردية.
3- أهداف اقتصادية، حيث تريد تركيا من خلال استغلال مياه دجلة والفرات أن تخلق تنمية بشرية وصناعية وزراعية لإحياء المنطقة الفقيرة تاريخياً في جنوب شرق الأناضول وتحويلها إلى سلة للغذاء في الشرق الأوسط للتغلب على المشكلة الناجمة عن فقرها من ناحية موارد الطاقة الطبيعية، النفط، الغاز، وبقية المعادن، واستثمار هذا التفوق الاقتصادي لمقايضته بالنفط ومصادر الطاقة الأخرى مع جيرانها العرب.
هكذا نجد أن تأثيرات مشروع (GAP) التركي لا تقف عند حد في تأثيراتها على الحياة، جميع مناحي الحياة البشرية والحيوانية والنباتية، بقي أن نستخرج رأي وزارة البيئة في تأثيرات المشروع على البيئة في العراق، وقد تحدث لنا أحد الخبراء المختصين في قسم نوعية المياه في الوزارة مجيباً على سؤال لنا بهذا الخصوص فقال: هذا المشروع سيجعل تركيا تتحكم بأكثر من 80% من مياه دجلة والفرات، وذلك يعني أن نقصاً خطراً ومهلكاً بإمدادات المياه الواصلة إلى العراق سيحدث في غضون سنوات قلائل وبمجرد إكمال هذا المشروع الضخم، وهذا النقص له تاثيراته السلبية على البيئة العراقية منها:
1- زيادة نسبة التصحر.
2- التأثير في امدادات المياه للأهوار كماً ونوعاً وربما أدى إلى تجفيفها طبيعياً.
3- سيزيد من نسبة الملوثات في مياه الأنهر.
4- سيؤثر بشدة في موجود المياه الجوفية ويخفضه.
5- يزيد من نسبة ملوحة الأرض لعدم اشتغال المبازل بصورة كفوءة إضافة إلى نوعية المياه الواصلة إلى سطح التربة عن طريق الخاصية الشعرية.
6- تقليص المناطق الخضر والمراعي والمساحات المزروعة وما يعنيه ذلك من تأثير على المناخ ورفع درجات الحرارة وتغيير طبيعة المنطقة بيئياً.
إن خفض كمية المياه الواردة إلى العراق يؤثر أيضاً في كيفية وطبيعة استغلال المياه كماً ونوعاً، وبكل تأكيد فإن التأثيرات السلبية في بيئة العراق ستنعكس سلباً على جميع مناحي الحياة البشرية والحيوانية والنباتية، ويجب السعي منذ الآن لإيجاد مخرج مناسب للحفاظ على البيئة العراقية سليمة من تأثيرات هذا المشروع، وهذا هو واجب الحكومة العراقية.
ونحن نعتقد أن الحكومة العراقية تستطيع من خلال الحوار البناء بالاتفاق مع سوريا وتوسيط أطراف دولية متنفذة أن تبني مع السلطات التركية قاعدة يمكن أن يبنى عليها موقف يخفف من التأثيرات السلبية لمشروع (GAP) في البلدين ويضمن لهما بعض حقوقهما المكتسبة تاريخياً، وحتى ذلك الحين فكل الاحتمالات واردة.
.
رابط المصدر: