في 29 أكتوبر 2023 تُتِم الجمهورية التركية الحديثة مئويتها الأولى، بعد الاستقلال وقيام الجمهورية الجديدة على أنقاض الدولة العثمانية عام 1923 بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وبما أن صيف العام الحالي سيشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية، فإن السباق يحتدم بين المعارضة والحكومة في تركيا على مَن سيكون في سدة الحكم خلال الاحتفال بهذه المئوية، لذا في عيد الجمهورية التاسع والتسعين في نهاية أكتوبر الماضي قدّم كلٌّ من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض رؤيته لمشروع “القرن المُقبِل” لتركيا، وكل طرف منهما يبني على رؤيته التي قدمها من أجل الفوز في الانتخابات المقبلة.
يرى الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي استمر في الحكم 20 عاماً حتى الآن، أن حكومته استكملت كل ما كان ينقص الجمهورية التركية خلال المئة عام الماضية، وأنه سينطلق مع حزبه من أجل وضع مشاريع طموحة للمئوية المقبلة، واعداً بأن تكون تركيا الدولة الأهم والرائدة عالمياً خلال القرن الحادي والعشرين. وقدّم الرئيس أردوغان مشروع “قرن تركيا” لحزبه في احتفالات الجمهورية في 28 أكتوبر 2022، وبدأ في زيارة الولايات التركية واحدة تلو الأخرى ليشرح مشروعه ضمن حملته للانتخابات المقبلة.
وبمناسبة الإعلان عن مشروع “قرن تركيا”، أعد مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الذي يُعرف اختصاراً باسم “سيتا” (SETA)، المقرَّب من الحكومة، إصداراً خاصاً يشرح بعض عناصر المشروع ويروج له، ووضع مستشار الرئيس أردوغان ومسؤول الدعاية الانتخابية لحزبه وأحد القيادات التي عملت على وضع هذا المشروع، البروفسور إرتان أيضن، المشروع تحت شعار “فرد سعيد، وشعب مُرفَّه، ودولة قوية”، مُعتبراً أن المشروع يرتكز على هذه الأهداف الثلاثة الكبرى.
على أن المطّلع على هذا المشروع، الذي أنشئ موقعٌ إلكتروني خاص به، يجد أنه لا يتسم بكونه مشروعاً استراتيجياً متكاملاً ذا رؤية واضحة، وإنما هو مجموعة من المشاريع التي نُفِّذ جزءٌ كبير منها في الماضي، مع توجه قومي أيديولوجي واضح يطغى على أهداف تلك المشاريع.
مشروع قرن تركيا: التركيز على البُعد الوطني/المحلي
تطغى على أدبيات مشروع “قرن تركيا” الذي قدمته الحكومة مصطلحات “قومي، ووطني، ومحلي” في توصيف معظم المشاريع المطروحة فيه، إذ يركز المشروع على أهداف أهمها تقليل الواردات وتعظيم الصادرات، وتطوير الصناعات المحلية في المجالات كافة. ونجد أن المسار العام لهذه الأهداف هو نفسه، ويكمن في الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتطوير هذه القطاعات بشكل يقلل من الاعتماد على الخارج والاستيراد، وزيادة الإنتاج المحلي الوطني، والاهتمام بإظهار الثقافة الوطنية القومية المحلية الخاصة بالمجتمع التركي. وهنا يمكن استشفاف الصبغة الإسلامية التي يُراد أن تطغى على مشاريع هذه المئوية، والتي اُستُعيض عن ذكرها بوضوح من خلال تكرار مصطلح “قومي ومحلي” والتأكيد على “الثقافة التركية المحلية” وعادات المجتمع التركي المسلم. إذ تشير ديباجة المشروع إلى أن أحد أهم أسباب انهيار الدولة العثمانية كان اعتمادها على الغرب، واستيرادها التكنولوجيا والتقدم الصناعي من دوله، دون أي مراعاة لتقاليد المجتمع التركي أو تطويع هذه الصناعات والتكنولوجيا الغربية مع ثقافة المجتمع التركي وتقاليده. وتشير الديباجة أيضاً إلى أن الاعتماد على الغرب في تطوير الصناعة والتجارة محلياً، أدى إلى “استسهال قبول السياسات الاستعمارية الغربية”، وظهور تيارات سياسية تركية متعاطفة معها وقابلة لها، وعليه فإن على الشعب التركي المسلم -وفق الديباجة– أن يتخلى عن اعتماده على الغرب، وأن يصنع تطوره ذاتياً من أجل منع أي محاولات غربية للهيمنة على تركيا.
ولا تتحدث الديباجة عن توطين الصناعات والتكنولوجيا فقط، فهي تتحدث أيضاً عن ضرورة وضع سياسة قومية وطنية مستقلة تُعتَمَد في سياسات تركيا الخارجية، من أجل “منع التبعية السياسية للغرب”. ومحور السياسة الخارجية الوارد ضمن ديباجة مشروع القرن للحكومة هو أكثر محور يُركَّز فيه على مصطلح “الوطني والمحلي” في صناعة القرار، ووضع السياسات الاستراتيجية المستقلة. وفي هذا الصدد يُلاحظ أن هذا المحور تجاهل تماماً الحديث عن مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو تطبيق معاييره السياسية التي كان حزب العدالة والتنمية قد وصل إلى الحكم عام 2002 وهو ينادي بتطبيقها وترويجه وقتها أن أهم أهدافه الاستراتيجية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ وهذا الأمر يمثل تغيراً جذرياً مهماً في استراتيجية الحزب ورؤيته لمستقبل تركيا.
ولفهم الرؤية المؤطِّرة لدور تركيا الخارجي ضمن مشروع القرن، يمكن الرجوع إلى ما يطرحه البروفسور مراد يشيل طاش، أحد قيادات الحزب الحاكم وأحد واضعي المشروع، الذي يشير إلى تراجع قوة المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، وتراجُع الهيمنة الغربية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وفي المقابل بروز آسيا مركزاً للقوة العالمية. وبعد أن يشير إلى خطورة الصراعات الحاصلة حالياً بالقرب من الحدود التركية، وعلى رأسها الحرب الروسية-الأوكرانية، والخلافات القومية والعرقية والدينية والسياسية في القوقاز والبلقان والشرق الأوسط، وبعد أن يُؤكد أيضاً فشل النظام العالمي في إرساء السلام في هذه المناطق المشتعلة، يوضح أن هدف تركيا يجب أن يتركز في تعزيز دورها في هذه المناطق، مُعتمدةً على تعزيز قوتها العسكرية الرادعة من أجل لعب دور أساسي في محيطها بهدف إرساء السلام والاستقرار. وهنا لا يشير البروفسور يشيل طاش إلى أي نوع من التعاون الإقليمي لتركيا مع دول الجوار، وإنما يتحدث عن صعود الدور التركي متفرداً في هذه المناطق.
أهم سمات المشروع
تهيمن على صياغة مشروع “قرن تركيا” المطروح من الحكومة أهدافٌ وتوجهات أيديولوجية وحزبية واضحة، يمكن استشفافها من خلال النقاط الآتية:
- يربط مشروع القرن تقدُّم تركيا ببقاء حزب العدالة والتنمية الحاكم في السلطة من خلال القول بأن هذا الحزب هو الذي استطاع نقل تركيا إلى وضع أفضل خلال العشرين عاماً الماضية وتحويلها إلى قوة إقليمية وعالمية حقيقية، وأن هذا الأمر يؤكد أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب الوحيد القادر على وضع مشروع مئوية لتركيا وتنفيذه.
- تحويل مشروع القرن إلى نوع من الحملة الدعائية الانتخابية في شكل مباشر وواضح، إذ يُصرِّح البروفسور برهان الدين دومان، أحد المشاركين في وضع المشروع، بأن “المعارضة ليس لديها أي أمل تُعطيه للناخبين، بينما الرئيس أردوغان يحاول الوصول إلى جميع أطياف المجتمع التركي من خلال مشروع القرن”.
- جزء كبير من مشروع القرن الحالي قدمه حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال حملاته الانتخابية في عامي 2018 و2019، وحينها كان المشروع يحمل اسم “الألفية التركية” الذي يرمز إلى مرور ألف عام على وصول الأتراك السلاجقة إلى الأناضول، والذي سيُصادف عام 2071، لكنْ يتم دائماً تأجيل تحقيق هذه الوعود، ومنها ما كان يُفترض تحقيقها عام 2023.
- يتحدث مشروع القرن للحكومة عن “قوة وصاية عالمية” لا يشرح مَن هي أو ممَّ تتكون، ولكنه يؤكد أن هذه القوة تُدرك إمكانات تركيا وقدرة الرئيس أردوغان على تسخير هذه القوة من أجل تحويل تركيا إلى لاعب عالمي قوي، لذا فإن هذه القوى تسعى دائماً إلى إطاحة الرئيس أردوغان ومنع تنفيذه مشاريعه المحلية والوطنية، ويؤكد ضرورة دعم الرئيس أردوغان في “مقاومته” لغطرسة هذه القوى الخارجية، ويَعتبر – مثلاً – أن إعادة فتح متحف آيا صوفيا للعبادة من جديد وتحويله إلى مسجد هو أحد أهم خطوات “المقاومة والتحدي” لهذه القوى العالمية الساعية لفرض وصايتها على تركيا، وأن آيا صوفيا هو أحد ركائز مشروع القرن التركي.
- لا يشتمل مشروع القرن على جرد لمشاكل تركيا الأساسية، وبدلاً من ذلك يُطرح عدد من المشاريع التي لا يربط بعضها البعض أي رابط، وإنما يُقال إن هذه المشاريع ضرورية من أجل تحويل تركيا إلى قوة عالمية خلال القرن المقبل.
- لا يتحدث مشروع القرن عن حقوق الإنسان أو استقلال القضاء والعدالة، وإنما في المقابل يتحدث عن مبادئ ومعايير أخرى هي “العادات والتقاليد، والعيش المشترك، وتقاسم الثروة بشكل أكثر عدالة”.
المجالات التي يشملها مشروع القرن المقدم من الحكومة
يحتوي مشروع القرن التركي على ستة عشر بنداً أساسياً نستعرضها بشكل عام على النحو الآتي:
1. الاستدامة: وهنا يتم الحديث عن العديد من الأهداف والمشاريع باقتضاب، مثل حماية البيئة، وتطوير الزراعة، والتشجير، وبناء المحطات الطاقة على السدود المائية، وتدوير النفايات للوصول إلى صفر نفايات، وبناء المباني التي لا ينبعث منها الكربون، وبناء المفاعلات النووية، وتحويل مطار أتاتورك القديم في إسطنبول إلى حديقة عامة. لكن المشروع لا يتطرق إلى أي تفاصيل عملية حول تحقيق هذه الأهداف أو مصادر تمويلها، فمثلاً لا يوجد أي تفصيل أو توضيح لكيفية الوصول إلى هدف صفر نفايات أو مَبانٍ لا ينبعث منها الكربون، ولا يوضح المشروع مصادر تمويلها ولا يضع تاريخاً محدداً للتحول في هذه المشاريع.
2. الأمن: في هذا البند يتحدث مشروع القرن عن عدد آخر من المشاريع، بعضها يتكرر تحت بنود أخرى، مثل مشاريع الحفاظ على البيئة التي يتكرر ذكرها تحت بند الاستدامة والتنمية والعلم وغيرها. ويتم الحديث في هذا البند عن “نجاحات” الحكومة في محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة، ومن أهم المشاريع في هذا البند تقديم الدعم المالي للعائلات المحتاجة والقروض الميسرة لشراء البيوت والسكن.
3. التنمية: وهو أكبر بنود المشروع وأكثرها تشعباً، لاحتوائه على العديد من المشاريع المكررة في فصول أخرى. ويَعتبر المشروع أن السياسات الاقتصادية الحالية للحكومة التركية المبنية على دعم التصدير وإهمال التضخم وخفض نسب الفائدة البنكية، ساعدت تركيا على تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، ويؤكد استمرار هذه السياسات الاقتصادية من أجل دفع تركيا لتصبح إحدى أكبر الدول المصدّرة في العالم. ويسرد المشروع هنا العشرات من مشاريع التصنيع العسكري المحلية، ومشاريع بناء السدود والطرق والجسور، بالإضافة إلى مشاريع التنقيب عن النفط والغاز ومد خطوط الغاز، ويركز أيضاً على هدف -وهو وعد حكومي انتخابي أيضاً- توظيف مليون مواطن تركي في الوظائف الحكومية. ومن الملاحظ هنا أن معظم ما يتم الحديث عنه تحت بند التنمية هي مشاريع قائمة فعلياً أو تم الانتهاء منها، ولا توجد مشاريع مستقبلية أو حتى حديث عن أهداف التنمية في العقود المقبلة.
4. المعايير والتقاليد: وهو بند يشير إلى أن نظام الحكم الرئاسي الحالي، جعل من تركيا دولة ذات معايير وقيم خاصة وناجحة، ويؤكد ضرورة استمرار هذا النظام من أجل نجاح تركيا وتطورها. ومن بين المعايير التي يقدمها هذا البند دون توضيح “حب الوطن والرفاهية وتقاسم الثروة”، ويَعتبر أن النظام الرئاسي الحالي هو الضامن لاستمرار هذه “المعايير”. وفي الحقيقة يمكن توصيف هذا البند ضمن الهدف الأيديولوجي لمشروع القرن الذي تقدمه الحكومة، من خلال التركيز على تقديم “توجهات دينية وقومية” تحت غطاء ما يسميه المشروع “المعايير الأخلاقية والوطنية” للأسرة التركية والمجتمع التركي، وذلك من خلال الحديث عن فتح متحف آيا صوفيا أمام المصلين المسلمين وتحويله إلى مسجد مجدداً، ومشروع “Hello Türkiye” الذي رفعته الحكومة التركية لتغيير الاسم الرسمي للدولة بالإنجليزية منTurkey إلى اللفظ التركي Türkiye، واعتماده في وسائل الإعلام والسياحة.
5. القوة: وهنا يتحدث المشروع عن القوة العسكرية، والتصنيع العسكري بشكل أساسي، التي تعتمد على الإنتاج المحلي والتصنيع المحلي بعد التخلي عن استيراد التكنولوجيا والصناعات من الخارج. ومن الواضح هنا التركيز على القوة العسكرية، وليس القوة الدبلوماسية أو الاقتصادية، وذلك عبر زيادة الدعم للتصنيع العسكري المحلي، وآليات التنقيب عن النفط والغاز المحلية.
6. النجاح: يذكر هذا البند أن تركيا تُحقق نجاحات على مستوى عالمي في قطاعات السياحة والطب والرياضة. ويَعتبر أن نجاح التعايش بين مكونات المجتمع التركي في الأناضول بات نموذجاً ملهماً لجميع دول العالم. ويبدو واضحاً أن هذا القسم جرى ضمّه لأسباب سياسية ودعائية صرف، إذ لا يحتوي على أي مشروع حقيقي، ويُبالغ فيما حققته تركيا في الأعوام الأخيرة.
7. السلام: هنا يفصّل المشروع في دور تركيا “الرائد” في إحلال السلام العالمي، من خلال سياساتها الخارجية المعتدلة القائمة على أسس “الاستقلال السياسي”، ودعم “القيم الأخلاقية والعدالة”، ويورد أمثلة على ذلك من سياسات تركيا الخارجية تجاه الأزمة الأوكرانية، وأزمة شرق المتوسط وأزمات ليبيا وسوريا وإقليم قره باغ. ويعدد القسم مشاريع تركيا الإغاثية في العديد من دول العالم.
8. العلم: يقدم المشروع هنا وعوداً بزيادة رفاهية الفرد في المجتمع التركي من خلال دعم التقدم العلمي والاختراعات العلمية محلياً. ويتحدث عن مشروع الجينوم التركي لكنْ دون تقديم معلومات تفصيلية عن هذا المشروع وأهدافه. ويتحدث أيضاً عن إنشاء مركز لأبحاث الفضاء، ويُضيف جزءاً مخصصاً للذكاء الاصطناعي، لكن هذا الجزء يأخذ القارئ إلى روابط لمراكز أبحاث تابعة للاتحاد الأوروبي، وليست مراكز تركية.
9. دعم الشعوب: وهو جزء آخر من الأجزاء الأيديولوجية في هذا المشروع، حيث يتحدث عن مطالبة الرئيس أردوغان بنظام عالمي أكثر عدالة تحت شعار “العالم أكبر من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن”. ويسرد أيضاً المشاريع التي تقدمها تركيا لإغاثة الدول المنكوبة، وهو يُعيد بذلك من جديد الحديث عن “الدور الأيديولوجي” الذي يروج له الرئيس أردوغان لتركيا للتدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة “الوقوف إلى جانب المظلوم ودعمه”. كما يتحدث هنا عن مشاريع الدعم التي تقدمها الحكومة للعائلات التركية الفقيرة وذوي الاحتياجات الخاصة.
10. الإنتاجية: يكتفي هذا البند بتقديم وعد بأن تتقدم تركيا دولَ العالم في الإنتاجية، سواء الفكرية أو الفنية أو الرياضية أو العلمية أو الصناعية. ولا يقدم أي مشاريع مستقبلية، وإنما يتحدث عن مشاريع موجودة حالياً في تركيا “ذات إنتاجية عالية” في الزراعة والصناعة.
11. الاستقرار: وهو بند دعائي بالكامل لا يحمل أي جديد، إذ يتحدث عن توظيف الحكومة للملايين من المواطنين منذ العام 2002، والزيادة الأخيرة الكبيرة التي أقرتها الحكومة في الأجور، بالإضافة إلى مشاريع التصنيع العسكري المحلية، ومشروع إنشاء الليرة الرقمية ومركز إسطنبول المالي.
12. الرحمة: وهو بند غريب يتحدث عن اعتماد الدولة التركية على “الرحمة” في تعاملها مع المواطنين وبقية شعوب العالم من أجل تحقيق العدالة المجتمعية. ولا يحمل هذا القسم أي مشاريع أو أفكار مستقبلية، وإنما يكتفي بتعداد مشاريع الحكومة لدعم العائلات الفقيرة والمحتاجة، وهو جزء من الدعاية الأيديولوجية لمشروع القرن الذي يُحيي في أذهان المواطنين والناخبين نجاحات بلديات الحزب الحاكم في تقديم الدعم الغذائي للعائلات، وربطه بالحكومة.
13. المواصلات: كان يفترض أن يحوي هذا البند مشاريع وأهدافاً كبيرة يمكن أن تعزز وتُغني مشروع القرن عموماً، لكن على العكس من ذلك يتحدث هذا الفصل عن مشروع “إصدار جواز السفر التركي المحلي” بوصفه أحد أهم مشاريع القرن في هذا الخصوص، ويتحدث عن مشاريع الفضاء التي وعد بها الرئيس أردوغان، مع تراجع في ذكر تواريخ تنفيذها، إذ يتجاهل تماماً التواريخ المعلنة سابقاً التي فات أوان بعضها دون تحقيق تلك الأهداف. ويسرد القسم هنا في تكرار وتفصيل العديد من مشاريع المواصلات التي حققتها الحكومة التركية، من جسور وطرق وأنفاق.
14. الرقمنة: يتحدث هذا البند عن تحويل تركيا إلى دولة رقمية من أجل سهولة الوصول إلى المعلومات وزيادة الشفافية بهدف دعم الديمقراطية. ولعل هذا البند يكون الأفضل بين سائر البنود بسبب ما حققته الحكومة في مجال الرقمنة في المعاملات الحكومية للأفراد وفي السفارات والقنصليات، وفي المحاكم وقطاع الطب. لكن أيضاً يتحدث المشروع هنا عن أمور ناجزة، وليس عن المستقبل أو عن استراتيجية جديدة أُضيفَت إلى ما هو قائم فعلياً.
15. الاستثمار في الإنسان والمواطن: وهنا يتحدث المشروع عن أهمية الاستثمار في العقول التركية وجذب العقول المهاجرة من أجل دعم المشاريع المحلية التركية وزيادة رفاه المجتمع، والتحول إلى الإنتاج المحلي، ويتحدث عن الصناعات العسكرية باعتبارها قصة نجاح لهذا التحول. لكن المشروع لا يشرح كيف ستستطيع الحكومة استقطاب العقول المهاجرة مع زيادة طلبات اللجوء والعمل في الخارج، وسفر الأطباء والمهندسين الأتراك للعمل في الخارج بأعداد كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية.
16. الشباب: يختتم المشروع بنوده بالحديث عن مشاريع الحكومة الموجهة للشباب، وهنا يسرد عدداً من المشاريع الثقافية والتعليمية الموجودة حالياً. وإن كان هذا القسم لا يحمل للشباب التركي أي جديد أو مشاريع مستقبلية، فإنه يتحدث عن نقطة أيديولوجية مهمة، من خلال ذكره لمشروع “نادي الشباب التشاركي” الذي يتحدث عن دعوة العديد من شباب العالم لمشاركة الشباب التركي في عدد من المشاريع التعليمية والثقافية. ومن الملاحظ تركيز الحكومة التركية الحالية على استقطاب عدد كبير من شباب الدول الإسلامية في مثل هذه المشاريع والتعليم الجامعي، عبر منح آلاف المنح التعليمية للشباب من الدول الإسلامية، وخصوصاً الأفريقية. وهنا يمكن القول بأن هذا البند هو أحد أهم بنود مشروع القرن لكن ليس في مضمونه المحلي، وإنما في مجال تعزيز القوة الناعمة لتركيا.
استعراض بعض المشاريع المقدمة في مشروع قرن تركيا
أولاً، الصناعات العسكرية المحلية
يمكن القول بأن هذا القسم من مشروع القرن هو القسم الأوضح في تفصيله ومشاريعه نظراً للنجاحات التي حققها هذا القطاع مؤخراً، ونورد هنا بعض أهم هذه المشاريع:
الطائرة المقاتلة محلية الصنع MMU: بدأ العمل فعلياً في تصنيع هذه الطائرة عام 2019 من قبل شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش” TUSAŞ، بقدرات عالية جداً تفوق قدرات طائرة “إف16” الأمريكية -وفق زعم الحكومة- من خلال قدرتها على المناورة والطيران المرتفع ونظام تبادل المعلومات الآني المتكامل مع بقية الوحدات العسكرية البرية والبحرية، بالإضافة إلى خاصية “الشبح” أي قدرتها على الهروب من الرادارات الأرضية. وبدأ التفكير في تصنيع هذه الطائرة عام 2011، وحصل مشروعها على الموافقات الهندسية عام 2016، لكنْ بقي احتياجها إلى محرك نفاث لا تملكه تركيا، وفي هذا الإطار تتعاون الشركة التركية مع الشركة البريطانية BAE من أجل الحصول على هذا المحرك، ووُقِّعَت اتفاقية بهذا الشأن عام 2017، ورغم بعض الصعوبات والعراقيل السياسية إلا أن الشركة التركية تمكنت من تجاوز كل تلك العراقيل، ووعدت بطرح أول طائرة من هذا الطراز في مارس عام 2023 ضمن الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، على أن تكون جاهزة للانضمام إلى الجيش التركي بشكل رسمي عام 2025.
لكن رغم كل هذه الوعود فإن المشروع بأكمله ما زال منوطاً بتأمين محركات هذه الطائرة من الشركة البريطانية، وعليه فإنه على الرغم من القول بأن الطائرة محلية الصنع، فإنّه من الواضح أنها نتاج تجميع وتركيب عدد من الأجهزة المُشتراة من الخارج بدعم من محرك نفاث بريطاني الصنع. وثمة مسألة أخرى تتعلق بتشكيك المعارضة في هذا المشروع، إذ تساءلت عن سبب سعي أنقرة لشراء طائرات جديدة من طراز “إف16” الأمريكية مادامت طائرة MMU التركية أفضل منها من ناحية الإمكانات وستكون جاهزة خلال عامين وفق زعم الحكومة.
مشروع الطائرة المسيرة “التفاحة الحمراء” (بالتركية “قزل إلما”): هو المشروع الأهم بالنسبة للرئيس أردوغان كونه صُمِّمَ وصُنِّعَ محلياً بالكامل دون تعاون مع شركاء أجانب أو تمويل خارجي -وفق ما يتم إعلانه– وهو من تصنيع شركة “بايكار” التي يملكها صهر الرئيس أردوغان، سلجوق بيرقدار. وطائرة “قزل إلما” هي مقاتلة من دون طيار لها إمكانية التحليق السريع والإقلاع من مدرجات قصيرة وحمل قذائف جو-أرض وجو-جو، ويمكن التحكم بها من الأرض، ولها القدرة على الهروب من الرادارات وقدرة على المناورة الجوية. وجرى أول اختبار لطيران هذه الطائرة في ديسمبر 2022، لكن المشروع بعيد تماماً عن الشفافية، إذ لا يُعرف حتى الآن ميزانية المشروع أو تكلفة إنتاج هذه الطائرة ومتى سيتم الانتهاء من تجاربها لتدخل مجال الاستخدام في الجيش التركي. وتعتبر هذه الطائرة أيضاً من أهم عناصر الدعاية الانتخابية للرئيس أردوغان في الانتخابات المقبلة.
ثانياً، البنية التحتية للتكنولوجيا والاتصالات والمواصلات
الإنترنت: تُعد تركيا من الدول التي نجحت في إنجاز البنية التحتية الأساسية للاتصالات عبر شركاتها المحلية الخاصة، ولكن ذلك تسبب في تأخر مواكبة تركيا للتقدم السريع الحاصل عالمياً في سرعة الإنترنت وتوفيرها على نطاق واسع. فمشروع القرن يتحدث عن هدف الانتقال إلى تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) للاتصالات خلال عام 2023، لكن الواقع يقول باستحالة تحقيق ذلك، إذ عارض الرئيس أردوغان استيراد تكنولوجيا غربية من أجل الانتقال من الجيل الثالث إلى الجيل الرابع عام 2015، وأصر على تطبيق ما أسماه بتكنولوجيا 4.5G في ذلك الحين، على أمل الانتقال مباشرة إلى الجيل الخامس بأسرع وقت ممكن من خلال تقنيات محلية، لكن الكلفة المالية لذلك على تركيا بلغت حتى الآن نحو 120 مليار ليرة سنوياً، فيما لا تزال سرعات الإنترنت في تركيا بطيئة بالنسبة لنظرائها حول العالم التي تستخدم الجيل الرابع. وفي هذا الإطار يقول مدير عام شركة تركسال TURKCELL الرائدة في تركيا في مجال الاتصالات مراد أركان، إن “تركيا ليست مستعدة للانتقال إلى تكنولوجيا الجيل الخامس محلياً، لأن البنية التحتية في تركيا بحاجة إلى مدّ خطوط الاتصال الضوئية بطول مليون كيلومتر، وهذا الأمر سيكلف تركياً الكثير من المال غير المتوافر حالياً، كما سيستغرق وقتاً طويلاً”، وعليه فإن شركات الاتصالات في تركيا تفضل الحصول على الربح أكثر من الاستثمار في تطوير شبكة الإنترنت.
الأقمار الصناعية: ضمن مشروع القرن تتحدث الحكومة التركية عن مشروع إطلاق القمر الصناعي الأحدث “تركسات 6 أيه” TURKSAT6A، وهناك اتفاق موقع مع شركة SpaceX الأمريكية من أجل وضع هذا القمر في مداره خلال عام 2023. وهو قمر صناعي للاتصالات يغطي تركيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا. وبُني القمر وصُنِّع محلياً، لكن المفاوضات ما زالت جارية مع الشركة الأمريكية من أجل تخفيض كلفة حمل القمر ووضعه في مدار المفترض، حيث عرض الرئيس أردوغان على إيلون ماسك، صاحب شركة SpaceX، الدعم في استثمارات للشركة في تركيا مقابل تخفيض سعر نقل القمر الصناعي إلى الفضاء، وهي مفاوضات لم تثمر حتى الآن.
محطة الفضاء: أسست الحكومة التركية الوكالة الوطنية لأبحاث الفضاء عام 2018، وأُعلِن عن انتهاء وضع برنامج وطني لأبحاث الفضاء في فبراير 2021. وجاء ضمن أهداف هذا البرنامج الطموح: تدريب رواد فضاء أتراك (ما زال قبول طلبات التقدم لوظيفة رائد فضاء مفتوحاً دون تحديد أسماء المرشحين لهذا البرنامج حتى الآن، ناهيك عن البدء في تدريبهم)، وإرسال مركبة فضائية غير مأهولة إلى القمر عام 2023 (حتى الآن لم يُعلَن عن أي تقدم في هذا المشروع)، وإرسال رواد فضاء إلى القمر عام 2028 (حتى الآن لم يُعلَن عن أي تقدم في هذا المشروع). ومما يجعل تحقيق هذه الأهداف بعيداً عن الواقع، تخصيص ميزانية متواضعة جداً لمركز أبحاث الفضاء ضمن موازنة العام 2023 لا تتجاوز مليار و618 مليون ليرة تركية فقط (نحو 90 مليون دولار فقط).
سيارة TOGG الكهربائية محلية الصنع: وهي من أهم المشاريع التي تعول عليها الحكومة التركية من أجل تصنيع سيارات محلية الصنع تعمل بالبطارية الكهربائية. وقد بدأ العمل في المشروع عام 2018، وأُجِّلَ التصنيع فيه أكثر من مرة، بسبب تعثر عمليات التصنيع وتعقيدها. ومن أجل حرق المراحل والإنتاج بسرعة عمدت الشركة المصنعة إلى تجميع قطع السيارة بدلاً من إنتاجها محلياً، فاستعانت بشركة صينية للبطاريات، وكورية جنوبية للمحرك، وإيطالية للتصميم الخارجي، وشركات أوروبية من أجل أنظمة التحكم والتوجيه، وبالتالي تحول المشروع -لأسباب انتخابية بحت- من مشروع تصنيع سيارة محلية الصنع إلى مشروع تجميع سيارة بالتعاون مع عدد من الشركات الأجنبية. وأدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة التصنيع، واستيراد معظم قطع السيارة من الخارج، بحيث لا يسهم المشروع في خفض العجز في ميزان التجارة، ومن المتوقع أن يبلغ سعر السيارة الواحدة أكثر من 50 ألف دولار، وهو رقم غير تنافسي في السوق التركية. لكن الحكومة تعول على إنشاء خط إنتاج للتصدير وآخر لتصنيع سيارات أقل كلفة من أجل البيع محلياً، وتَعتبر أن هذا المشروع سينقل تركيا إلى مَصاف الدول المصنِّعة للسيارات والمصدِّرة لها.
ثالثاً، قطاع الطاقة
لعل قطاع الطاقة من أكثر القطاعات حيوية في تركيا، والأقدر على تحقيق تقدم مهم في مشروع القرن لتوفير موارد الطاقة المحلية والتحول إلى الطاقة النظيفة، وذلك لأن مشاريع الطاقة المحلية والنظيفة توفر على تركيا استيراد موارد الطاقة بالنقد الأجنبي، حيث يشكل استيراد الطاقة من الخارج أحد أهم مسببات العجز في ميزان التجارة الخارجية. ففي عام 2005 أنشأت الحكومة التركية مركز دعم مشاريع الطاقة المحلية والنظيفة YEKDEM الذي يقدم دعماً قوياً لمشاريع الطاقة المحلية من خلال التعهُّد بشراء ما توفره هذه المشاريع من طاقة كهربائية لمدة 10 سنوات، وبأسعار جيدة. وبعد أن كانت هذه المؤسسة تدعم 20 مشروعاً للطاقة المحلية عام 2011، أصبحت في نهاية العام 2021 تدعم 929 مشروعاً، من بينها مشاريع طاقة نظيفة، وباتت هذه المشاريع توفر 52% من احتياجات تركيا من الطاقة الكهربائية، ومنها مشاريع سدود مائية، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية من الغاز والفحم، وكذلك مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
ولعل هذا النجاح المهم في توطين مصادر الطاقة، مع اكتشاف مصادر للغاز الطبيعي في البحر الأسود، وبناء المزيد من السدود على نهرَي دجلة والفرات، دفع الحكومة إلى وضع هدف طموح بالوصول إلى صفر انبعاثات كربونية من محطات توليد الطاقة عام 2053.
وضمن هذا القطاع أيضاً، تمتلك تركيا -وفق الإحصاءات الرسمية- 73% من المخزون العالمي من معدن البور (أو البورون)، الذي يُعد أحد أهم المعادن الصناعية التي باتت تدخل في تصنيع العديد من هياكل الطائرات ومحطات الفضاء والصواريخ الفضائية، لكن تركيا تأخرت في استخراجه وتسويقه بشكل كاف. وفي العام الماضي وبدعم حكومي أُسِّسَت شركة ETİ لاستخراج معدن البور وتحويله إلى بطاريات ليثيوم، وهو مشروع طموح لا يزال العمل قائماً عليه، بعد نجاح بعض الأبحاث المحلية في تحويل البور إلى ليثيوم يستخدم في تصنيع البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية والعديد من الصناعات الكهربائية مثل الهواتف المحمولة وغيرها. وقد حققت الشركة عام 2022 أرباحاً بلغت مليار و300 مليون دولار من بيع معدن البور الخام.
رابعاً، البيئة النظيفة والخضراء
من بين وعود مشروع القرن المقدَّم من الحكومة، التحول إلى سياسة صفر مخلّفات بيئية، وهو وعد طموح لكن من دون أي تاريخ محدد لتنفيذ هذا الوعد، وهو أمر مهم للحكومة التركية، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي -الشريك الأكبر للتجارة مع تركيا- بدأ بفرض معايير بيئية مهمة في الواردات القادمة إليه من حول العالم، وبينها تركيا، وعليه فإن احتفاظ تركيا بحصتها من التجارة مع الاتحاد الأوروبي منوط بقدرة الحكومة على تنفيذ وعودها في هذا المجال، لكن الأرقام والتقارير تقول بأن تركيا ما زالت بعيدة عن مواكبة شروط الاتحاد الأوروبي الصارمة، وأنها بحاجة إلى استنفار طاقاتها بشكل كبير وسريع من أجل ذلك.
كانت تركيا من آخر الدول التي انضمت إلى اتفاقية باريس للمناخ، وعليه فقد حددت الحكومة التركية عام 2053 للوصول إلى صفر انبعاثات كربونية من أجل الالتزام بهذه الاتفاقية. ولكن لا توجد سياسة واضحة أو استراتيجية بتواريخ محددة من أجل تحقيق هذا الهدف، ولا تزال تركيا متأخرة حتى في مشروع إعادة تدوير النفايات، ففي عام 2016 بلغت نسبة تدوير النفايات في تركيا 16% فقط، في حين كان الهدف هو الوصول إلى نسبة 35% عام 2023، ولكن ما زالت تركيا بعيدة جداً عن تحقيق هذا الرقم، حيث تشير بيانات الحكومة إلى أن نسبة تدوير النفايات بلغت 21% عام 2021.
خامساً، وضع الزراعة في مشاريع تركيا المئوية
تتمتع تركيا بأكبر مساحة زراعية ضمن الدول الأوروبية، والسابعة على مستوى العالم، ويعمل في الزراعة نحو 17% من اليد العاملة في تركيا، وتصدّر تركيا منتجات زراعية بقيمة 25 مليار دولار سنوياً وتستورد منتجات زراعية من الخارج بقيمة 20 مليار دولار سنوياً. ووفق مؤتمر تطوير الزراعة الذي عقدته الحكومة التركية عام 2022، جاء في البيان الختامي للمؤتمر بأن هدف تركيا هو تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، وإيجاد وفرة للتصدير بشكل تصبح تركيا متحكمة في إنتاج وتسعير عدد من المحاصيل الزراعية حول العالم.
لكن من جديد لا توجد سياسة واضحة لتحقيق هذا الهدف، فضلاً عن أن الوضع على الأرض يشير إلى استحالة تحقيق هذا الهدف بسبب وجود مشاكل كبيرة وحقيقية تواجه قطاع الزراعة لا تلتفت لها الحكومة. فقد جاء في تقرير جمعية رجال الأعمال الاتراك TÜSİAD لعام 2022 أن القطاع الزراعي يواجه مشاكل كثيرة، أهمها قلة الإنفاق على الأبحاث العلمية والتجريبية في قطاع الزراعة، وتراجع نسبة الشباب واليد العالمة في القطاع بسبب تراجع نسبة الزيادة السكانية وهجرة الفلاحين إلى المدينة، وارتفاع أسعار المحروقات وموارد الطاقة المستخدمة في قطاع الزراعة، وعدم وجود سياسة حكومية لتحديد المحاصيل الزراعية التي تحتاج إليها الدولة سنوياً مما يؤدي إلى زيادة محاصيل نوع معين على حساب أنواع أخرى، وتراجع الموارد الطبيعية من مياه وتربة زراعية بسبب تمدُّد العمران على حساب الأراضي الزراعية.
أهم العقبات أمام تحقيق الحكومة التركية لأهداف مشروع القرن
بدايةً تجب الإشارة إلى أن مشروع القرن الذي قدمته الحكومة هو مشروع انتخابي في المقام الأول، وليس مشروعاً لوضع استراتيجية واضحة وقابلة للتنفيذ لتركيا، لذا فإن الحكومة تربط تنفيذ وعودها في هذا المشروع ببقائها في الحكم لعقود طويلة. وكما هو مذكور أعلاه فإن معظم المشاريع المذكورة في هذا المشروع إما تم تنفيذها أو لا يوجد خطة واضحة لتنفيذها مستقبلاً. لكن حتى في حال بقاء حكومة العدالة والتنمية في الحكم، ما بعد الانتخابات المقبلة، فإن هناك عوائق كبيرة ومهمة تَحُول دون تنفيذ العديد من هذه الوعود والمشاريع، ومن بينها:
1. تركيز حكومة العدالة والتنمية على الأيديولوجيا القومية والإسلامية في سياساتها، وسعيها للتماهي بين الدولة والحزب الحاكم، وهو أمر لا يساعد على وصول الكفاءات التركية من خارج تلكما الأيديولوجيتين إلى مواقع صناعة القرار. ويبدو هذا واضحاً من العديد من الأمثلة، التي يُفضَّل فيها الحزبيّون الموثوق في ولائهم على الخبرات في التوظيف (خلال السنوات الماضية كان هناك العشرات من الأمثلة على ذلك، مثل تعيين مصارع أولمبي مديراً لأحد البنوك الحكومية، ومدير حديقة حيوانات مديراً لمركز الأبحاث الأكبر في تركيا “توبتاك”).
2. وفق تقرير جمعية رجال الأعمال الأتراك TÜSİAD المذكور أعلاه، فإن الميزانيات المخصصة للبحث العلمي متدنية جداً في تركيا، فضلاً عن تراجع الجامعات الخاصة في تركيا عن تقديم أي أبحاث عملية أو تجريبية، والأهم تراجُع مستوى التعليم في تركيا بشكل مستمر خلال العقد الماضي. فخلال وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم لأكثر من 20 عاماً، غُيِّرَ نظام التعليم الحكومي جذرياً ثلاث مرات، بمعدل مرة كل ست سنوات، وجميع هذه التغييرات كانت لأسباب أيديولوجية في المقام الأول من أجل توسيع نطاق التعليم الديني من خلال دعم مدارس الأئمة والخطباء على حساب المدارس العلمية والحرفية الأخرى. ووفق تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حول الإنفاق على التعليم لعام 2021، جاءت تركيا في المرتبة الرابعة والثلاثين من بين 38 دولة من أعضاء المنظمة.
3. اعتماد حكومة العدالة والتنمية على آلية “حرق المراحل” بدلاً من البحث والتطوير (R&D) لأسباب انتخابية بحت، وهو ما يظهر واضحاً في معظم مشاريع التصنيع المحلي التي تعتمد بشكل كبير على استيراد القطع الأساسية لأي منتج من الخارجي وتجميعها، بدلاً من العمل على تصنيع القطع الأساسية محلياً، وهو ما يحتاج إلى ميزانية للبحث والتطوير ومزيداً من الوقت. وعليه فإن الكثير من المشاريع التي يتم تطويرها على أنها مشاريع “وطنية محلية” تتعرض لمشاكل كبيرة في حال تعثُّر سلاسل الإمداد والتوريد، أو تعرٌّض تركيا لأي عقوبات سياسية من الغرب.
4. تراجُع وضع الاقتصاد في تركيا بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية، التي يتوقع كثير من الخبراء أن تستفحل بعد الانتخابات المقبلة، وهذا الوضع لا يجعل الشركات التركية راغبة في الاستثمار أو التطوير وتوسيع أعمالها في مختلف المجالات، فضلاً عن تراجع قدرة الحكومة على تمويل أي مشاريع طموحة، وخير مثال على ذلك تواضع الميزانية التي خصصتها الحكومة لمركز أبحاث الفضاء، والتي لا تتناسب إطلاقاً مع الأهداف الموضوعة له.
الفروق الأساسية بين مشروعَي الحكومة والمعارضة
من أجل فهم أوضح لأهداف ومعايير مشروع “قرن تركيا” الذي قدمته حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، فإنه من المهم مقارنته بشكل مختصر بنظيره الذي قدمه حزب الشعب الجمهوري المعارض في التوقيت نفسه، أي في ديسمبر العام الماضي. وإنْ اشترك البرنامجان في تقديم وعود كبيرة للشعب التركي، إلا أن مشروع المعارضة اختلف بشكل جذري ومهم عن مشروع الحكومة في الأولويات والأهداف وطريقة تحقيقها، ومن ذلك:
- اعتمد حزب الشعب الجمهوري على استضافة عدد من الخبراء الأجانب (من ألمانيا والولايات المتحدة)، وكذلك خبراء أتراك يعملون في جامعات ومؤسسات دولية خارج تركيا، لتقديم أجزاء المشروع كلّ في تخصصه، في رفض قاطع للانغلاق القومي أو الشعارات الدينية المطروحة في مشروع الحكومة، والتأكيد على ضرورة دمج تركيا في المجتمع الدولي والغربي تحديداً.
- ركّز مشروع المعارضة على أولويات سياسية، في مقدمتها الارتقاء في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير، وتغيير نظام الحكم الرئاسي، وإعادة الاستقلال لقطاع القضاء، ومحاربة الفساد المالي والإداري، ومساواة الفرص في التعيين والتعليم. ورأى المشروع أن هذه الإصلاحات ضرورية من أجل إصلاح الاقتصاد لاحقاً، على اعتبار أنه لا يمكن إصلاح الاقتصاد من دون عودة “الديمقراطية والشفافية” بشكل كامل إلى نظام الحكم في تركيا.
- ركَّز المشروع أيضاً على إصلاح الوضع الاقتصادي التركي من خلال تعاون أكبر مع الغرب ودول الجوار، وإعادة الثقة في كون تركيا دولة تركز على النمو الاقتصادي والاستقرار وليس القوة العسكرية أو التدخل في شؤون الدول الأخرى، وفتْح الباب للتعاون مع صندوق النقد الدولي والمحافظ المالية الكبرى حول العالم من خلال سياسة اقتصادية حرة. وبالتالي فإن المعارضة حتى في حديثها عن تطوير الصناعات المحلية، فإنها تركز على الشراكة مع الغرب وترفض شعارات الاستغناء والاستقلال عن الغرب في هذا المجال.
- من أولويات مشروع القرن للمعارضة، الذي تحول أيضاً إلى حملة انتخابية واضحة، حلّ المسألة الكردية، واعتبار ذلك أساساً من أجل تحول تركيا إلى دولة ديمقراطية داخلياً، وجاراً مُسالماً في محيطها خارجياً، ولتكون لديها علاقات أفضل مع المجتمع الدولي.
- من اللافت أيضاً في مشروع المعارضة، وخلال الحديث عن التحول إلى الطاقة الخضراء وحماية البيئة، الإشارة إلى لعب تركيا “دوراً إيجابياً سلمياً” في تأمين استخراج ثروات شرق المتوسط بالتعاون مع الجيران، وهو ما يناقض كل سياسات الحكومة الحالية القائمة على زيادة التوتر مع قبرص واليونان في هذا الإطار.
- اتَّسمت مشاريع المعارضة بالوضوح وتفصيل الخطط من أجل تحقيق الأهداف المعلنة، مثل تقسيم تركيا إدارياً إلى خمس مناطق، وإنشاء مناطق صناعية وزراعية حرة في مناطق وُزِّعَت جغرافياً بالفعل على الخريطة، بالإضافة إلى مشروع مفصل عن تحويل تركيا إلى مركز إقليمي للدعم اللوجستي والطاقة في المنطقة عبر مشاريع ربط بري بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ومخازن للنفط والغاز.
الاستنتاجات
المشروع الذي قدمه الرئيس رجب طيب أردوغان حول “القرن التركي” في الأساس مشروع دعاية انتخابية، بالنظر لتصادف الانتخابات مع مئوية الجمهورية التركية، وهو يحوي العديد من المشاريع التي نُفِّذَ بعضها، وبعضها قيد العمل، وأخرى مستقبلية، لكن دون وضوح في آليات التنفيذ. ويكتسي المشروع بصبغة قومية دينية محافظة، تحت بند الحفاظ على معايير الأتراك وتقاليدهم التي تمتد جذورها إلى الدولة العثمانية الإسلامية.
ويبدو المشروع، وفقاً لذلك، أقرب إلى شرح منظور الرئيس أردوغان لمشاريع حكومته وأهدافها، لكنه بعيد عن مشروع لتحويل تركيا إلى جمهورية جديدة أو ذات مميزات مختلفة، إنما هو مشروع للقول بأن الحكومة تحاول مواكبة العصر في مشاريعها وخططها المستقبلية.
.
رابط المصدر: